حين يدلي أحد المسئولين الأمريكيين أو الإسرائيليين بتصريح عقب أي جريمة في بلادنا ترتكب، أو أي أرض تنتهب، أو أي حق يغتصب، تسمع الإجابة نفسها، فلا تكاد تفرق بين مسئول هنا ومسئول هناك إلا حين تنظر إلى ألوان العلم فوق مكتبه. فعلاقة البلدين تضرب في عمق التاريخ بجذورها العفنة وتمتد تحت ترابنا الوطني ساخرة من تراثنا وحضارتنا ولون بشرتنا وأسلاكنا الشائكة.
عام 1963، وفور تنصيبه، علِم ليفي أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلي بأن خطر الجفاف يتهدد أحد مناطق نفوذه، فامتقع وجهه وحملق في وجه مساعده ليستكنه الخبر، فلما علم أنه يقصد النقب، قال ساخرا: "ظننتك تتحدث عن كنساس."
لا فرق إذن بين جفاف في النقب وجفاف في كنساس، فالكل يقع تحت السيطرة الإسرائيلية، والواقفون بأحذية حديدية فوق بلاط البنتاجون نسخة إلكترونية ممن يشقون الخرائط ويوزعونها في وزارة دفاع إسرائيل وإن اختلفت اللغات وتباينت اللكنات.
وهو بالضبط ما كانت تقف على تفاصيله جولدا مائير حين سخرت من اختيار الرئيس نيكسون لهنري كيسنجر وزيرا لخارجيته. يومها، وقفت مائير على قدمي مساواة أمام الزعيم الأمريكي الملهم لتعلن تحفظها على تعيين كيسنجر. يومها قال نيكسون مازحا: "لدي كما لديك وزير خارجية يهودي. لا فرق بيننا الآن." لكن الحيزبون نظرت إليه نظرة ماكرة وقالت في خبث: "لكن رجلي يتحدث الإنجليزية سيد نيكسون."
بيد أن المرأة الحديدية اكتشفت بعد جملة من الاختبارات أن كيسنجر الذي ظل يتحدث الإنجليزية بلكنة ألمانية لم يكن أقل ولاء لعبريته من وزير خارجية إسرائيل. فالعبرة عند الصهاينة ليست بعبرية المرء وإنما بتعبيره عن ولائه التام وانتمائه المطلق للدولة الأم.
فكم خدمت الصهيونيةٓٓ لكناتٌ ولثغاتٌ! وكم توزع الصهاينة بالولاء على أقطار الأرض ومنعطفات التاريخ. وكم لبس المتحدثون باسم بني صهيون من أزياء وقبعات. ليست العبرة إذن أيها الواثقون بلكناتهم بجوازات السفر أو أختامها. وليست العبرة بعدد الأختام المطبوعة بأوراقهم الثبوتية. فالصهيونية انتماء يتجاوز الحدود المرسمة أو بطاقات الهوية.
كيف بالله نميز حين تُضرب سوريا إن كانت الصواريخ عابرة للقارات أم عابرة لصمتنا المخجل والمسافات الفاصلة بين وجوهنا المتجهمة فوق خرائطنا العروبية جدا؟ وكيف نميز حين تقع مصر تحت نصل التقسيم والتوزيع إن كانت الشفرة أمريكية الصنع أم قادمة عبر الحدود القريبة جدا من عجزنا المهين؟ وحين تنطلق الطائرات في سماواتنا فترسم علامات استفهام هائلة في لبنان أو العراق أو السودان فتعجز شبكات الرصد في بلادنا المتخلفة للغاية عن تحديد مسارها أو تتبع دخانها، كيف نتكهن بالمطارات التي تزودها بالوقود؟
من حق أمريكا أن تنتقي حلفاءها، ومن حق إسرائيل أن تنام على وسادة تاريخية تريح رؤوس أحلامها العابرة للقارات حتى حين، وحق على أشكول أن يخشى على حدوده البعيدة كما يخشى على حدود مملكته الموعودة، فالأولى طريق للثانية لا مراء.
لكن الغريب فعلا أن يظل العرب مكبلين بتقاليد أحلامهم البائدة في احتمال نشوب صحوة ضمير في معطف أمريكا فتجعلها تراجع سياساتها في المنطقة. الغريب أن يظل المراهنون على ديمقراطية أمريكا يُحٓمِّلون شعوبهم ثمن رحلاتهم المكوكية التي لا تهدأ نحو البيت الأبيض طلبا للدعم أو الاعتراف. الغريب والغريب جدا، أن تظل الطائرات التي حملت سفاحا أحلام الأنظمة المعتلة تطير في سماوات المدن الغازية طلبا للنصرة بعد كل ثوراتنا الربيعية جدا.
لم يعد مقبولا ولا معقولا أن يستمر استجداء المعونة وأن تستمر الأقدام الثقيلة تجوب منتجعات أسرارنا لتدهس أحلام صغارنا في حفظ ماء الكرامة فوق أرض حرة. ولم يعد مقبولا الوقوف أمام تبريرات البيت الأبيض لعدوان إسرائيل الهمجي على ترابنا السوري تحت أي زعم وتحت أي مظلة. وإذا كنا نقدم صمتنا في طبق ولاء كهدية لا ترد، فما نفعله في منطق السياسة هراء، وإن كنا نقدمه طمعا في رد جميل، فهو محض غباء. وإن كنا نطمع في ود إسرائيل، فلنخلع أزياءنا الوطنية ونعلن للعالم أننا نبذنا هرطقاتتا العروبية ودخلنا في ذمة الصهاينة أفواجا ولكن بلكنات عربية.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق