في محكمة ريفية تطل على واقع مزر وأحكام
هزلية مجحفة، وقف ثلاثة من المحامين على أطراف أصابعهم ليرى القاضي تعابير وجوههم المشمئزة
فور نطقه بالحكم. صاح الشبان الثلاثة في وقت واحد وكأن أجراس حناجرهم قد ضبطت لإيقاظ
العدالة النائمة في صدر حبر القوانين الأشيب في وقت واحد: "يسقط يسقط رأس القنفد!
يسقط يسقط رأس القنفد!"
كان القاضي يلملم أوراق عدالته من فوق طاولته
العالية ويهم بالانصراف قبل أن تستوقفه هتافات جوقة المحتجين على سلطانه القويم. ثبت
الرجل نظارته الصغيرة فوق أنفه الطويل، وحدق مليا في الوجوه الممتقعة، وعاد ليضرب بمطرقته
خشب الطاولة في عنف.
هدأت الأصوات شيئا فشيئا حتى خيم صمت مطبق
على المكان، وعاد صوت الرجل يملأ ساحة العدالة بهذيانه المحموم: "حكمت المحكمة
بتغريم ممثلي الدفاع خمس دولارات نقدية لتطاولهم على هيبة المحكمة. رفعت الجلسة."
لم يكن ثمة تشابه بين الرجل الضخم والقنفد،
فقد كان الرجل يحمل رأسا ملفوفا كرأس كرنبة حمراء غرست بين كتفيه عنوة. لكنه في مكره
واحتمائه بأوراق القوانين اليابسة، كان أشبه بالقنفد الذي يحتمي بالأشواك ليواري سوأة
مكره. وقد حاول المحامون تجنب سوط عدالته باستخدام الرمز، لكنه كان يعلم - عبر الوشاة
- ما يقوله أبناء الحي عنه.
تقدمت خطوات جابي الغرامات نحوهم، ووقع
ظله الضخم فوق هياكلهم النحيلة، فأخرج دارسو القانون الأوراق الخضراء مذعنين ليضعوها
في كفه الضخم. وحينها تقدم محام عجوز من أقدام الرجل المفلطحة ووضع عشرة دولارات كاملة
بين أصابعه، ثم قال في صوت جهوري: "سيدي القاضي، لقد تجاوز هؤلاء الحمقى في حق
عدالتكم، وتلفظوا في المحكمة بما لا يليق من سباب. وقد أحسنت صنعا حين عاقبتهم بتهمة
ازدراء المحكمة ليكونوا عبرة للمزدرين من أمثالي. وهأنذا قد وردت غرامتي مسبقا لأنني
أحتقر عدالتكم ضعف ما يحتقرونها وأزدري حكمكم ضعف ما يزدرون. يسقط يسقط رأس القنفد."
لم يصدر القاضي الريفي يومها حكما ببراءة
المدانين بجرائم ضد الإنسانية، ولم يفرج عن المفسدين في الأرض الذين تاجروا بأحلام
الأطفال في بورصة الخيانة. ولم تكن القضية قضية بلاد بيعت بخسا في سوق النخاسة الدولي
لبعيد يتجهمها أو لجار طامع. ولم يكن الواقفون خلف قضبان الحديد مجرمين معتادي بلطجة
أو متورطين في قتل ثوار. لم يرتكب القاضي الريفي - عليه من القانون ما يستحق ومن المحامين
ما يغرمون - شيئا من ذلك أبدا. كان كل جرمه أنه أدان خادما عاقا قطع سيده ذراعه.
ماذا لو غُرِّمٓ مزدرو العدالة في بلادنا
اليوم مبلغا مماثلا لما غرمه المحامون الشبان قسرا وما دفعه المحامي الأشيب طواعية؟
لو أنهم فقط يسمحون في بلادنا بإقامة المحاكمات الهزلية في الميادين العامة وملاعب
الكرة! لو أن حكومتنا الرشيدة قامت بتسعير الازدراء ليتناسب مع ظلم الأحكام وشذوذها،
لاستطعنا في عدة محاكمات فلكلورية كتلك التي شهدتها محاكمنا مؤخرا أن نسدد ديوننا الخارجية
لتبقى الديون الداخلية في رقبة شعب مستعد لدفع آخر فلس في حصالة أولاده مقابل تنفيسه
عن ازدرائه لمحاكمنا الفاسدة.
ذات حوار، رفع رئيس القضاة وليام هاوارد
تافت إصبع الاتهام في وجه روبرت هتشنز عميد كلية يال الحقوقية بأمريكا قائلا:
"حسنا سيد هتشنز، سمعت أنكم تقولون لطلابكم أن القضاة جميعا أغبياء." فرد
السيد هتشنز بقوله: "لا يا سيدي، نتركهم ليتعلموا ذلك بأنفسهم."
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق