24 نوفمبر 2012

رئيس النظام فى المستشفى!





ما الذى يجعل مجموعة من مقدمى ومقدمات البرامج التليفزيونية، والصحفيين والصحفيات فى الدوريات الخاصة والحزبية أقوى من الوزراء والمسئولين الكبار؟
أحدهم شرشح رئيس الوزراء بعد حادث قطار أسيوط، ودمغه بالكفر لأن التعويض المدفوع للضحية خمسة آلاف جنيه!
وآخر اتهم وزيراً بالكذب وأنه يتحدث بطريقة بوليسية ويفتقد طريقة الحوار، ثم تهكم على الوزير ووصفه بلواء الداخلية، ولم يكتف بذلك بل وصفه بأنه "جوبلز" فى إشارة لوزير دعاية هتلر إبان الحرب العالمية الثانية، وقال إنه يخاطب وزيراً يمسك بيده عصا بوليسية، وليس زميل مهنة .
مذيعة أخرى سمحت بمداخلة لإحدى المشاهدات تعليقاً على حادث القطار، فقالت: إن ما يحدث انتقام إلهى بسبب ما فعلناه فى مبارك! دون أن تتدخل بأدنى تعليق، وكانت قبل المداخلة تكيل اللكمات الكلامية للمسئولين وتشرشحهم بمنتهى الجرأة!
مانشيت إحدى الصحف يقول: كيلو الدم المصرى بكام يا مرسى؟ القتلة والخونة فى قصر العروبة، غزة تدفع ثمن "العار" بين مرسى وأمير قطر وحماس!
من حق الناس أن يختلفوا مع الرئيس والحكومة والمسئولين الكبار والصغار على السواء، وأن يعبروا عن اختلافهم بتقديم الأسباب والأدلة والبراهين، وللقارئ أو المشاهد أن يقتنع أو يرفض. هذه أبسط قواعد الحوار المتحضر، والسلوك الراقى، ويكون الحوار أكثر تحضراً ورقياً إذا راعت الأطراف المختلفة أن الدولة على شفا جرف من الانهيار الاقتصادى والأمنى والسياسى بسبب أنانية بعض الأقليات السياسية ونزعتها إلى فرض وصايتها على الأغلبية والترويج لعناصر الفوضى والانفلات.
فى عهد النظام الفاسد البائد جرت مداخلة بين مقدم برنامج على شاشة إحدى الفضائيات, وأحد المسئولين السابقين، وكان الأمر معكوساً حيث شن المسئول هجوماً شديداً على مقدم البرنامج، ووصفه بأنه يريد أن "يتصنع البطولة" ويظهر بوصفه بطلاً على أكتاف شباب ثورة 25 يناير, وأنه – أى مقدم البرنامج - طلب منه أكثر من مرة أن يجعله يجرى حواراً مع مبارك أو نجله جمال مسوغا طلبه: "إنه يستطيع أن يقربهما من الشعب!".
ثم أضاف المسئول للمقدم: "أنت كنت نايم فى بيتك بالبيجامة فى الوقت اللى إحنا كنا نايمين داخل مبنى الإذاعة والتليفزيون ماسكين "مسدسات" نحمى بها أنفسنا" ..وأنت لم تشارك فى الثورة, أبطال الثورة هما اللى كانوا فى ميدان التحرير مش فى بيوتهم"، وأغلق المسئول الهاتف فجأة وانسحب بعد أن قال "الفرق بينى وبينك, أنى أقسمت القسم, وأنت ما أقسمتش"، ولم يعقب مقدم البرنامج، بعد أن حاول أن يرد بإجابات باهتة مرتجفة. والمشكل فى الأمر أن بعض الناس يتصورون أن الحرية تعنى التحرر من الأخلاق، والهبوط إلى درك السوقية، وأنهم من حقهم أن يقولوا ما يشاءون طالما أمنوا العقاب، لا أظن هذا المنهج يتفق مع منهج الأحرار، ولكنه ينتمى إلى منهج العبيد الذين لا يقدرون قيمة الحرية بقدر ما يقدسون سوط الجلاد، وشكيمة الطاغية.
لقد عرفت كثيراً ممن علا صوتهم فى أيامنا بالشتائم والبذاءات والأكاذيب فى عهد الطاغية المخلوع ومن سبقه، كانوا مهذبين للغاية فى حديثهم عن المسئولين الكبار والصغار، ولم يرتفع لهم صوت فى قضية عامة أو خاصة تطلب الدعم والمساندة لإحقاق الحق وإبطال الباطل، بل كان بعضهم يرى أن المسئولين الكبار خط أحمر، وبعضهم كان يتطوع بالمشاركة فى الحملات الانتخابية المزورة، ويتولى إقناع الشعب المقهور بالأضاليل والأكاذيب التى كان يرددها النظام الفاسد البائد، وبعضهم كان معروفاً فى داخل الوسط الصحفى والثقافى بأنه على علاقة وثيقة مع الأجهزة الأمنية منذ الستينيات وبالتنظيمات السرية التى أنشأها المستبدون لقهر الشعب وإذلاله.. إنهم أبناء الدولة العميقة بامتياز، وهى الدولة التى ما زالت تمسك بمفاصل السلطة وتتحكم فيها، وتوجه الأشرار لعرقلة تقدم الوطن وتمنع قيام مؤسسات ديمقراطية تشرّع وتخطط وتبنى وتحل المشكلات المزمنة منذ ستة عقود. إنهم العصابات التى سرقت ونهبت بالقانون، وتسللت إلى أعماق الإدارة والوزارة والمحليات والمؤسسات المختلفة، وصارت صانعة للفساد ومصدرة له، وهو ما يجعل قطاعات عريضة من الشعب المصرى تشعر أن الثورة لم تحقق لها شيئاً، ولم تحرك الواقع قيد أنملة، وأن رئيس النظام الفاسد البائد ما زال قائماً ويعيش منعماً مترفاً فى مستشفى طره، ويرسل الرسائل غير المباشرة التى توحى أنه الأجدر بحكم مصر ، والأقدر على استخدام سياطه الملهبة لظهور المواطنين والمجتمع، وإسكات الأصوات النشاز التى لا تعجبه.
هؤلاء الذين يعلو صوتهم بالشتائم والبذاءات والأكاذيب والاتهامات يسلكون سلوكاً جريئاً على غير عادتهم فى عهد المخلوع، مما يعنى أنهم يستندون إلى قوى عميقة متربصة، كما يقدمون موضوعات لا يمكن أن تنسب إلى جهد مهنى، بل هى جهد أمنى بامتياز. هل إهانة الرئيس وشتمه وتوجيه البذاءات والاتهامات إليه وإلى حكومته والمسئولين تعد شجاعة حقيقية أو إن القوم يستندون إلى جهات تعد بالمن والسلوى حين تتحقق لها العودة – كما تحلم – إلى سدة الحكم وجلد الشعب المصرى مرة أخرى وإدخاله بيت الطاعة؟
ثم هل الكتابة عن زواج بعض المسئولين فى الأغلبية المنتخبة من زوجة أخرى أو أكثر، وتقديم قوائم بهذه الزيجات، مع تفاصيل دقيقة وعديدة لما جرى أو يجرى يمثل جهداً مهنياً حقيقياً أو إنه عبارة  عن تقارير أمنية سجلها مخبرون مبتدئون مع ما فيها من خلل وأخطاء؟ ثم هل يعنى الزواج وفقاً لشريعتنا مخالفة صارخة تتضاءل أمامها ما يعرفه أصحاب الأصوات الزاعقة من ممارسات فى دائرتهم لا يقرها دين ولا شرع ولا قانون ولا أخلاق ولا أعراف ولا تقاليد؟ ثم هل التنقيب عن ضيوف الفضائيات من عينة شاذة مثل الذى دعا إلى هدم الأهرام وأبى الهول يعد عملاً مهنياً، مع أن مصر مليئة بكرام العلماء والفقهاء والخبراء والعظماء القادرين على تقديم حلول فعالة لمشكلات الوطن، أو إن الغرض هو ضرب السياحة وإشغال الناس بتفاهات لا محل لها فى العمل المهنى الجاد؟

ليست هناك تعليقات: