(عندما تكون الأمة في خطر، أيستحيل على لغتها أن تكون بأفضل حال!)
المصدر
في يوم كئيب من أكثر أيام أمتنا كآبة، يوم أطبق المستعمر الفرنسي احتلاله على كامل تراب بلاد الجزائر، مستكملاً ذلك بفرض اللغة الفرنسية على أبناء هذه البلاد تحت مسمى "الفرنسة"، بهدف قطع أية صلة لهم بعروبتهم ولغتهم الأم،
في يوم كئيب من أكثر أيام أمتنا كآبة، يوم أطبق المستعمر الفرنسي احتلاله على كامل تراب بلاد الجزائر، مستكملاً ذلك بفرض اللغة الفرنسية على أبناء هذه البلاد تحت مسمى "الفرنسة"، بهدف قطع أية صلة لهم بعروبتهم ولغتهم الأم،
كان علماء الجزائر ومثقفوها على أهبة المواجهة الفكرية والثقافية، متوجهين ومعهم أبناء البلاد إلى المساجد بغية تحقيق هدفين أساسيين:
أولهما إيماني ديني يحقق تواصلهم الروحي التعبدي مع الخالق عز وجل وما فرض عليهم من صلوات خمس في اليوم، والصلاة الجامعة ظهيره يوم الجمعة من الأسبوع، وثانيهما إيماني قومي في تعزيز تواصلهم مع القرآن الكريم المنزل بلفة الضاد حيث كان العامل الأساسي في تماسك لحمة الابقاء على روابطهم القومية الحية من خلال لغة الكتاب ومفرداتها التي شكلت ولم تزل، الوطن الثقافي الأول الذي يصنع وجدان الأمة ويعزز أواصر التواصل بين ماضيها وحاضرها وتراثها وحضارتها كذلك.
ولقد كان من حق أبناء العروبة في أقطار المغرب العربي ولا سيما بلد الجزائر، أن يفتخروا بقوميتهم بالقدر الذي يفخرون بالمليون شهيد الذين سقطوا دفاعاً عن الجزائر وحريتها ونيلها الاستقلال بعد طول عناء وقتال مرير.
حينها كانت الأمة في خطر، استشعرته في أحد أقطارها البعيدة في المغرب العربي، وكانت اللغة العربية وسيلة تواصل الفرع بالأصل، يبحثون عنها في بيوت الله، فما أدراك بما تعانيه الأمة اليوم من مخاطر أمنية وعسكرية وزلازل فكرية وثقافية، جعلت من المستحيل التنكر لحقيقة ما تعانيه في نفس الوقت من ضعف في لغتها التي يصعب عليها أن تكون بأفضل حال أيضاً، لا سيما وأن التغريب قد بدأ يفعل في تصحير هذه اللغة وابتعاد أبنائها عنها بتضاؤل المام الشباب العربي بها. ("الحياة" 26/7/2012)
فهل انتصر منطق التفرنج والتغريب وتكريس اللهجات العامية المحلية على حساب لغة العرب وفصاحتهم، ورواد هذا المنطق كثر لم يبدأوا مع سعيد عقل في لبنان ولم ينتهوا مع دعاة الأمازيغية في المغرب العربي مروراً بكل إسقاطات اللغات المحكية المحلية الأخرى، خاصة في مصر العروبة ومشرق الوطن ومغربه بما فيها دول الخليج العربي أيضاً، تلك الأخيرة التي بدأت تستدرك مدى الخطر الذي يداهم لغتها الأم والتقهقر الثقافي المرافق لها، بعد أن زحفت على عقول أبنائها اللغات الآسيوية التي تعج في قصورهم ومنازلهم وحتى خيامهم، من أبناء جالياتهم، فضلاً عن اللغة الأخرى الانكلو -ساكسونيه المطعمة باللهجة الأميركية كعرفان جميل للدولة العظمى وربيبتها بريطانيا العجوز، اللتان تنشران قواعدهما العسكرية على طول وعرض مساحات بلد أن الخليج أماناً وطمأنينة لحكامها من كل "عين حاسدة"، أو إطماع "غير مذنبة" ناتجة عن الفقر المدقع الذي يرزح فيه أشقاؤهم وأبناء جلدتهم الأقربين منهم والأبعدين.
بدورها، الثقافة الفرانكوفونية التي تبحث عن مواقع قدم ثابتة لها في أرض الخليج والمغرب العربيان تعزيزاً لمصالحها التجارية وطمعاً بخيرات هذه البلاد.
تراها اليوم ترتاح إلى الإرث المتراكم الذي تركته في بعض هذه الأقطار وتعمل على تعزيزها في البعض الآخر، دون أن تخفي سرورها المتعاظم بما حققته من اختزان هائل في العمق الثقافي الذي تركته لغتها سواء في كل دول المغرب العربي أو في شريحة واسعة من اللبنانيين أيضاً الذين لا يخفون تعلقهم "الحضاري والفكري" بلغة بلاد الأفرنسيس على حساب لغتهم العربية الأم.
إنها لمفارقة تاريخية حضارية حقاً أن ترزح بادية العرب، التي قيل فيها أنها الصانعة الأم للغة العربية، تحت كل هذا التهديد للسانها الفصيح المبين، وإن بلاد المغرب العربي التي استعانت باللغة العربية يوماً على مواجهة الفرنسة والتغريب مستنجدة بالقرآن الكريم، تعيش بروز نزعات عنصرية انفصالية واجهتها التنكر للعربية بإحياء امازيغية جديدة لا قواعد إملائية نهائية لها ولا جذور ضاربة في الأرض ومتنكرة لتاريخ مجيد صنعه الإسلام الحنيف على أيدي قادة وفاتحين عرب وبربر كبار أبرزهم طارق بن زياد.
أما لبنان، الذي يعيش اليوم حالة غير مسبوقة من التهديد للغة البيان، فكأنما دعاة التغريب قد تتكروا لكل جهود البساتنة واليازجيين الذين حفظوا العربية في أحلك أيام محاولات الغائها وهي تواجه التتريك بمختلف مستوياته، دون أن ننسى عمل الرهبان والأديرة في حفظ الكثير من الأدبيات العربية عبر كتابتها بالحرف السيرياني، وكأن ما طرحته النتائج للشهادة المتوسطة اللبنانية مؤخراً على صعيد رسوب أكثر من ستين بالمئة من طلابها في مادة اللغة العربية، يؤشر إلى أن لغتنا الأم ليست بأفضل حال، وأن المطلوب راهناً هو الانكباب على العوامل المؤدية إلى ضعفها، بحثاً عن وسائل ناجعة للنهوض في آن، فأين الخلل، وكيف يكون الاستنهاض؟
إننا ونحن نتكلم عن لغتنا الأم ونجهد في تحديد ما تتعرض له من تحديات تجعل الأجيال الجديدة في موقع الضعف أمام دراستهم لها، نجهل أو نتعامى عن أننا نمارس بدورنا بعضاً من أشكال الأضعاف لها عندما نلجأ للكتابة بعامية وركاكه ناجمتين عن تأثرنا بما يضخه الإعلام المتنوع يومياً في مسامعنا من عاميات محلية ولهجات لا تلتقي وفصاحة العربية وبلاغتها وبيانها وباتت اللغات المحلية تنافس الفصحى وتكاد تتغلب عليها في ميادين عدة، مستفيدة بدورها من شتى حالات الانكباب الجماعي على اللغات الأجنبية والاستفادة من مفرداتها العلمية والثقافية في ظل تراجع الدور العلمي والثقافي للغتنا الأم وانعكاس حالات الانهزام السياسي والعسكري الذي تعانيه الأمة، على لغتها أيضاً بشكل عام.
وإن لم تبادر الأمة إلى استنهاض نفسها بقواها الذاتية، وهي قادرة على ذلك، فإن مؤتمراً لغوياً من هنا، وندوة أدبية من هنالك، لن يفيدا في توفير عوامل النهوض المطلوبة، حتى وأن واظب العرب ومنظمة الأونيسكو والأمم المتحدة على الاحتفال في الثامن عشر من شهر كانون أول من كل عام بما تم تسميته بيوم اللغة العربية، هذه اللغة التي تم الاعتراف بها عام 1973 كلغة رسمية من بين اللغات المعتمدة في منظمة الأمم المتحدة، وبدلاً من أن تتقدم في هذه الميادين تراها تتراجع وتتكبل بالمزيد من الإضعاف والهوان التي لخص أحدهم أسباب تدهورها بجملة مفيدة اعتبر فيها أن اللغة العربية التي كانت فيما مضى لغة العالم الأول، لم تتأهل لذلك لو لم يكن العرب كأمة، هم العالم الأول أيضاً.
والأمة التي تعيش في خطر داهم يهدد مقومات وجودها وهويتها، يستحيل على لغتها أن تكون بحالٍ أفضل كذلك.
هذه اللغة التي تحتاج إلى من يحمي سور حديقتها اليوم قبل أي شيءٍ آخر.
*كاتب وصحافي من طرابلس / لبنان
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق