في ستينات القرن الماضي كانت مصر الناصرية مشغولة في معركة بناء كبرى ولا تتحمل ميزانيتها شراء الكماليات التي ترغب فيها الطبقة الوسطى التي كانت تتذمر من نقصها في الأسواق.
كانت غزة هي المورد الوحيد لهذه الكماليات، اذا كنت مثلاً في إحدى المدن المصرية الكبيرة ورغبت في شراء علبة سجائر أجنبية مثلاً فان البقال يذهب لإحضارها من مخبأ سري ويبيعها لك خفية عن عيون الرقابة الصارمة للنظام. فاكهة التفاح كانت أحسن هدية تقدمها لأصدقائك عند قدومك من الخارج. وبالطبع لم تستوعب هذه الطبقة أن بناء مصنع يشغل الألاف من العمال أفضل ألف مرة من إشباع بطونها بحبة تفاح أو لوح من الشوكولاتة ..... ولكن هذا حديث آخر.
أعتقد جازماً ان رأس النظام الصارم الذي يميل كليةً الى العمال والفلاحين كان يغض النظر عن تهريب هذه البضائع من غزة الى أسواقه، فهي لا تؤثر على ميزانيته وفي نفس الوقت ترضي الطبقة الوسطى وتمتص فائض نقودها.
انتهى هذا الترتيب غير المعلن في نكسة عام 1967 بعد احتلال إسرائيل لقطاع غزة .
بعد ذلك بسنوات قليلة تخلت الطبقة الوسطى في مصر عن معارك البناء وأغرقت نفسها في الكماليات حتى يومنا هذا.
وبعد هروب إسرائيل من قطاع غزة حيث لم تتحمل بنادق وسكاكين أهله وتضحياتهم الجسيمة، كان المتنفس الوحيد الذي يصل القطاع ببلد عربي هو معبر رفح ، كان الأمل ان يتذكر نظام مصر الحاكم جميل غزة ويرده لأهلها بعد ان أفقرهم الإحتلال وربط اقتصادهم بعجلته. لكن هذا لم يحدث، التصميم والرغبة في الحياة عند أهل غزة جعلهم يلجأون الى حل بديل لمشكلتهم: حفر الأنفاق والتهريب المعاكس، هذه المرة للضروريات.
ومن أجل رفع الحصار قامت ثلاث حروب مات فيها أبناء غزة الأبرياء ودمرت البيوت على رؤوس ساكنيها.
وبغض النظر عن التحليلات الإستراتيجية للصراع العربي الإسرائيلي فإن هناك ثأراً شخصياً من العدو الإسرائيلي لكل غزي سواء كان أصيلاً او لاجئاً ، ففي كل بيت شهيد لم تجف دماؤه بعد.
هذه الحرب تختلف عن سابقتيها، الحصار أصبح محكماً ولكن المقاومة أصبحت أكثر تدريباً وخبرة وأكثر تصميماً على تحدي الموت البطيء الذي تفرضه إسرائيل والنظام المتحالف معها في مصر.
والحق أن الموقف المصري يبعث على الحزن وفي نفس الوقت يثير السخرية، فأهل غزة يستغيثون يطلبون دواء لمعالجة جرحاهم ويغض النظام بصره وسمعه عن سماع أنين الجرحى والمكلومين ويعاقبهم بجريرة وجود حماس لديهم.
ويبعث على السخرية انه يخاف من حركة حماس ويحسب لها ألف حساب كونها تنتمي لحركة الإخوان المسلمين. وهو بهذا يقزم مصر ذات التسعين مليون نسمة لتخشى مقاومة تعد بالآلاف، كل الأنظمة المشابهة تفكر بنفس الطريقة عندما لا تكون لها حاضنة شعبية وتستقوي بالأجنبي لبقائها.
السؤال الذي ينبغي طرحه على المقاومة التي تقود المواجهة :
هل تحتاج غزة الى المعابر فعلاً؟ وهل تظن ان بإمكانها فرض فتحها بالقوة على عدو وعلى نظام حليف معه؟
والجواب واضح وهو دوران في حلقة مفرغة ، والخشية أن ضحايا هذه الحرب ستذهب تضحياتهم سدى.
وللخروج من هذا المأزق فلابد للمقاومة من رفع السقف عالياً ولا تكتفي بطلبات متواضعة وإنما:
المطالبة بالرفع الكامل للحصار البحري والجوي عن القطاع
وهو طلب معقول وثمن قليل لوحشية إسرائيل التي لا تفهم ولا تحترم سوى القوة والحزم. في هذه الحالة فقط ستنزل إسرائيل من عليائها وتفرض على النظام المصري أن يفتح معبر رفح، فالبضائع الداخلة الى القطاع ستكون تحت عين وسمع النظام المصري.
من ير ويتابع الحالة العربية اليوم التي تتباكى على شهداء غزة وتطعنها من الخلف ليشعر بالإزدراء، ابتداءً من النظام المصري الذي قدم مبادرته لوقف (العنف المتبادل) بقرف واضح.... الى محمود عباس الذي يتمنى أن تقضي إسرائيل على المقاومة ولكنه يحاول الآن تلميع نفسه أمام الجماهير الغاضبة.
الأنظمة العربية جميعاً تخشى انفجار الأوضاع في بلادها إن استمرت الحرب في غزة ويحاولون وقفها بكل السبل، يعرفون أن تحت الرماد ناراً مستعرة ستطيح بهم، فكل العرب لهم ثأر شخصي عند العدو الإسرائيلي.
لا شك أن المقاومة الفلسطينية بكل أطيافها والتي سجلت حالة مميزة من الوحدة الحقيقية انما تعاني من ضغط هائل على كل الصعد وبخاصة الوضع الإنساني الخانق ولكنها في نفس الوقت تسجل بداية النهاية للكيان الإسرائيلي ووضعه الشاذ في قلب المنطقة العربية.
ولن تستطيع أي قوة مهما بلغ جبروتها منع شعب عنيد من تحقيق أهدافه مهما طال الزمن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق