كم هو ساذجٌ من يعتقد أنّ القوى الدولية الكبرى حريصةٌ الآن على مصالح وحقوق شعوب المنطقة بعد أن استعمر هذه المنطقة عددٌ من هذه القوى الكبرى ولعقودٍ طويلة، واستعمارها هذا كان هو المسؤول الأول عن تخلّفها وعن أنظمتها وعن تقسيمها، ثم عن زرع إسرائيل في قلبها، وعن احتلال فلسطين وتشريد شعبها واستنزاف الدول المجاورة لها في حروبٍ متواصلة. وقد كانت هذه الدول الكبرى، وما تزال، مصدر الدعم والتسليح والتمويل لهذه الحروب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين والعرب، وها هي الآن تتحدّث عن الحرّية للشعوب العربية بينما ما يزال محظوراً لدى هذه الدول أيُّ تفكيرٍ بتجديد الانتفاضة الشعبية الفلسطينية ضدّ الاحتلال الإسرائيلي، فكيف بمقاومته عسكرياً، كما تفعل بعض شعوب المنطقة من أجل تغيير حكوماتها!!.
إنّ الانتفاضات الشعبية العربية التي حدثت في السنتين الماضيتين تجري في منطقةٍ تتحرّك فيها قوى إقليمية ودولية عديدة لها أجنداتها الخاصة، وتريد أن تصبّ "التغييرات" في مصالحها، فضلاً عن حدوث هذه الانتفاضات بعد سنواتٍ أخيرة من إطلاق الغرائز الانقسامية الطائفية والمذهبية والإثنية على امتداد الأرض العربية، من محيطها الأطلسي إلى خليجها العربي. وقد يكون الأهم في ظروف هذه الانتفاضات وما يحيط بها من مناخ هو وجود إسرائيل نفسها ودورها الشغّال في دول المنطقة (منذ تأسيس إسرائيل) من أجل إشعال الفتن الداخلية وتحطيم الكيانات القائمة لصالح مشروع الدويلات الدينية والإثنية.
ومنذ انطلاقة الثورة الشعبية التونسية أولاً، ثمّ المصرية لاحقاً، أشرْت إلى أهميّة التلازم المطلوب بين (الفكر والأسلوب والقيادات) في أيِّ حركة تغييرٍ أو ثورة، وبأنّ مصير الانتفاضات الشعبية العربية سيتوقّف على مدى توفّر وسلامة هذه العناصر الثلاثة معاً. فالتغيير السياسي وتحقيق الإصلاحات الدستورية والاقتصادية والاجتماعية في المجتمعات العربية هو أمرٌ مرغوب ومطلوب لدى العرب أجمعين، لكن من سيقوم بالتغيير وكيف؟.. وما هو البديل المنشود؟ وما هي تأثيراته على دور هذه البلدان وسياساتها الخارجية؟.. كلّها أسئلة لم تجد حتّى الآن إجابةً عنها في عموم المنطقة العربية، رغم أنّها مهمّةٌ جداً لفهم ما يحدث ولمعرفة طبيعة هذه الانتفاضات الشعبية العربية.
إنّ الانتفاضات الشعبية العربية هي غير موحّدة سياسياً أو فكرياً، ولا هي متحرّرة من أشكال مختلفة من التدخّل الأجنبي والإقليمي. وهذا الأمر يزيد الآن من مسؤولية قوى التغيير والمعارضات العربية ومن أهمّية مقدار تنبّهها ألا تكون وسيلةً لخدمة أهداف ومصالح غير أهداف ومصالح شعوبها. فقد كانت هنا المشكلة أصلاً في السابق حينما عجزت قوى سياسية معارضة عن البناء السليم لنفسها: فكراً وأسلوباً وقيادات، فساهمت عن قصدٍ أو عن غير قصد في خدمة الحكومات والحكّام المستبدين الفاسدين وأطالت بأعمار حكمهم، ممّا جعل شرارت التغيير تبدأ من خارج هذه القوى، ومن شبابٍ عربي يحتاج أصلاً إلى الرعاية الفكرية والسياسية السليمة.
أيضاً، لا نجد الآن في كلّ الانتفاضات الشعبية العربية التوازنَ السليم المطلوب بين شعارات: الديمقراطية والعدالة والتحرّر والوحدة الوطنية ومسألة الهوية العربية. فمعيار التغيير الإيجابي المطلوب في عموم المنطقة العربية هو مدى تحقيق هذه الشعارات معاً وليس شعار الديمقراطية فقط، إلاّ إذا كان الهدف ممّا يحدث الآن هو فقط إشعال "الفوضى الخلاّقة" في تركيبة الأوطان والمجتمعات العربية، وهو كان هدفاً أميركياً/إسرائيلياً مشتركاً خلال فترة حكم "المحافظين الجدد" لواشنطن، أو ربّما هو في الحدّ الأدنى تنفيذٌ لما دعا إليه الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الإبن، عام 2004 في قمّة "الناتو" بتركيا، من تشجيع للتيارات السياسية الدينية على الأخذ بالنموذج التركي (الذي يجمع بين الإسلام السياسي في الحكم والممارسة الديمقراطية في دولةٍ هي عضوٌ في "الناتو" ولها علاقات طبيعية مع إسرائيل)!!.
نعم هناك ضرورةٌ قصوى للإصلاح والتغيير في عموم المنطقة العربية، لكن السؤال هو كيف، وما ضمانات البديل الأفضل، وما هي مواصفاته وهويّته؟! فليس المطلوب كسب الآليات الديمقراطية في الحكم بينما تخسر الأوطان وحدتها أو تخضع من جديد للهيمنة الأجنبية، فهل نسي البعض ما قامت به إدارة بوش بعد غزوها للعراق من ترويجٍ لمقولة "ديمقراطية" تقوم على القبول بالاحتلال والهيمنة الأجنبية ونزع الهويّة العربية وتوزيع الوطن الواحد إلى كانتونات فيدرالية؟!.
تطورات خطيرة تحدث الآن في المشرق العربي بينما مصر منشغلة في همومها الداخلية، وبينما المراهنة الإسرائيلية هي على محاصرة مصر بأزماتٍ عربية تخضع الآن لحالٍ من التدويل والتقسيم، وبتحويل ما يحصل فيها من انتفاضاتٍ شعبية إلى حروبٍ أهلية داخلية.
لذلك، هناك ضرورة عربية للتنبّه أولاً لمحاولات الفتن الشعبية في أكثر من بلد عربي، وعلى ما يحصل من تصفية حسابات إقليمية ودولية من خلال أزمات عربية داخلية، ثمّ التنبّه أيضاً ممّن يريدون أولويّة المكاسب السياسية الفئوية لجماعات حزبية كنتائج للحراك الشعبي ولحركات التغيير. فهناك في الحالتين أشخاصٌ جاهزون لخدمة أجندات أجنبية وإسرائيلية تبحث لها عن عملاء ووكلاء.
إنّ تحميل "نظرية المؤامرة" وحدها مسؤولية المصائب والسلبيات هي حتماً مقولةٌ خاطئة ومُضلّلة، فكلّ ما يحدث من "مؤامرات خارجية" يقوم فعلاً على استغلال وتوظيف خطايا داخلية، لكنّه أيضاً "قصر نظر" كبير لدى من يستبعد دور ومصالح وأهداف "الخارج" في منطقةٍ مهمة جداً لكلّ العالم، وهي تشهد الآن أهمّ التحوّلات السياسية والأمنية والجغرافية!
نعم أنظمة الاستبداد والفساد مسؤولة عن تردّي أحوال الأوطان العربية وعن تبرير التدخّل الأجنبي بمصائرها، لكن هل سيغير ذلك الآن من النتائج؟! أليس الاستنجاد بالأجنبي لتغيير حكوماتٍ وأنظمة، كما حدث في العراق وليبيا ويُراد حدوثه الآن في سوريا، هو تكرارٌ لما حدث قبل قرنٍ من الزمن أيام "الثوة العربية الكبرى" ضد الحكم العثماني، حيث لم تقم "الدولة العربية الواحدة" التي وعدت بريطانيا بدعمها، بل قامت في المشرق "دولة إسرائيل" التي وعد بها الوزير البريطاني بلفور، فحنث عهده مع العرب ونفّذ وعده مع المنظمة الصهيونية. وبدلاً من "الدولة العربية الموحّدة" جرى توزيع البلاد العربية وتقسيمها كمناطق نفوذٍ وانتداب لدول أوروبا الكبرى.
فما الذي تغيّر الآن حتى أصبحت الثقة واجبة بالدول الغربية، ومرفوضٌ التشكيك بوعودها؟ هل وافقت مثلاً دول حلف الناتو على قبول العضوية الكاملة لدولة فلسطين بالأمم المتحدة؟ وهل تحقّقت الوعود المتكرّرة من رؤساء أميركيين بدعم قيام دولة فلسطينية مستقلّة؟ وهل جرى عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لاستصدار قراراتٍ تحاسب إسرائيل على مجازرها وتدين الممارسات العدوانية الإسرائيلية في الأراضي المحتلة؟ وهل جرى تهديد "الناتو" لإسرائيل بالفصل السابع وبحقّ استخدام القوة العسكرية ضدّها، إذا لم تنسحب من الأراضي المحتلة وإذا لم تكشف عن أسلحة الدمار الشامل لديها؟! وهل قرّرت الإدارة الأميركية والحكومات الأوروبية قطع العلاقات مع إسرائيل ومعاقبتها، في الحدِّ الأدنى، اقتصادياً ومالياً نتيجة مواصلة احتلالها منذ العام 1967 لأراضٍ عربية؟!
أيضاً، لماذا لا تستخدم حكومات الناتو "نفوذها" الكبير الآن لدفع تونس ومصر وليبيا إلى إعلان "اتحاد الجمهوريات الديمقراطية العربية"، باعتبار أنّ دول الناتو دعمت المتغيّرات التي حدثت في هذه البلدان الثلاث، وبين هذه البلدان تكاملٌ في الأمور كلّها، فضلاً عن حاجتها لبعضها البعض أمنياً واقتصادياً؟. أليس ذلك أفضل من تشجيع "الناتو" لظواهر الفتن والصراعات التي تحدث الآن في عموم المنطقة؟!.
في الأفق الآن، مشاريع دولية لعددٍ من بلدان المنطقة تقوم على إعادة تركيبها بأطرٍ سياسيّة ودستوريّة جديدة تحمل الشكل الفيدرالي "الديمقراطي"، لكنّها تتضمن بذور التفكّك إلى كانتوناتٍ متصارعة في الداخل، ومستندة إلى قوى في الخارج. وتخدم هذه المشاريع الدولية السعي الإسرائيلي لدفع الواقع العربي إلى حروبٍ أهليّة عربيّة شاملة. فهذه المشاريع الدولية والإقليمية هي التي عملت على عسكرة الانتفاضات الشعبية وعلى تحريف مسارها وعلى شراء الولاءات بالمال والسلاح لتكون في خدمة أصحاب تلك المشاريع.
لقد جرى تصديع الكيانات الوطنية الكبرى في الأمّة العربية، واحدةً تِلوَ الأخرى، ليتصدّع بعدها كلُّ ما في هذه الأمّة من أوطان وجماعات!. لكن يبقى الأمل كبيراً الآن بوعي شعوب البلاد العربية بما يحدث معها وحولها رغم التشويه المتواصل لكل حقائق الصراعات الدائرة حالياً، ورغم "قصر نظر" البعض عن رؤية الغابة المشتعلة كلّها.
*مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن.
لقراءة مقالات صبحي غندور عن مواضيع مختلفة، الرجاء الدخول الى هذا الموقع:
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق