بقلم هدى كمال
ما بين كلمات أغنية سما المصري : "الجيش المصري جوا القلب، افهموا بقى يا ولاد ستين كلب".. "أيوا احنا عبيد البيادة، بنحب الجيش حب عبادة.. وانتوا عبيد لبيريز وأوباما"، وبين كلمات الشيخ علي جمعة، المفتي السابق في لقاء تليفزيوني مع الإعلامي خيري رمضان: "الجيش المصري البطل اللي النبي (صلى الله عليه و سلم) قال : أسلم الناس من الفتنة: الجند الغربي".. "يا جماعة الأمريكان، احنا عندنا جيش حلو، احنا بنحبه و هو بيحبنا"، يقود المايسترو العسكري أوركسترا متعددة الآلات متناغمة اللحن متماهية الإحساس. إنه اللحن الذي تعزفه جميع آلات الدولة من أجهزة ومؤسسات حكومية ودينية وتليفزيون وصحافة وإعلاميين وفنانين ورجال دين مسلمين ومسيحيين. إنه اللحن الذي يسمعه الشعب بمختلف أعماره وطبقاته وفئاته وثقافاته وأذواقه. من منا لا يعرفه؟ من منا لم يسمعه وقد بدأ خافتاً وظل يرتفع ويندمج معه الجمهور شيئاً فشيئاً حتى بدأ الرقص على أنغامه ثم الغناء معه؟ هذا اللحن الطائفي الاستقطابي القومي العنصري الذي ألفه ووزعه المايسترو العسكري، قائد الثورة المضادة.. إنه لحن "الوطن".
ليس من الغريب أن نجد سما المصري و"فنانين" كُثر آخرين، والشيخ علي جمعة وشيوخ ودعاة آخرين مشتركين في عزف هذا اللحن، فالمايسترو العسكري يعلم جيداً أهمية التنوع في الآلات لإخراج عمله في أكمل صورة ليخاطب به الملايين.. ولأن تلك الملايين بطبيعتها تتأثر بالخطاب الديني، فكان لابد من استغلاله لكن بطريقة مختلفة عن استغلال تيار االإسلام السياسي له.
فبينما نرى تيار الإسلام السياسي مرتدياً عباءة الدين، يستغله ويبتذله من خلالها أشد ابتذال بطريقة مباشرة وفجة، نرى في المقابل فريق "لحن الوطن" مرتدياً البدلة الميري التي تنتهك وتبتذل الدين هي الأخرى لكن بطريقة أقل مباشرةً وفجاجةً، فخطابها الأساسي قومي وطني دولتي عنصري مخلوط بقدر أقل من الدين، لكنه قدر كافي لتحقيق الغرض.
"ارفع راسك يا بني.. ارفع راسك قوي.. احنا ناس بنخاف ربنا" - هكذا حدثنا الفريق السيسي في خطاب له بين مجزرتي الحرس الجمهوري وفض رابعة.
إن الفريقين يستخدمان الدين كل منهما بطريقته. أحدهما يتحدث بصفة "أنا الدين" ومن ليس معي فهو كافر ويجب محاربته، والآخر بصفة "أنا الوطن" ومن ليس معي فهو عدو للوطن يريد تدميره ويجب محاربته! وهذا الفريق الأخير يستخدم الدين كإحدى أدواته لكنه ليس الأداة الوحيدة أو الأساسية.
استمعنا مراراً و تكراراً لرموز وشيوخ تيار الإسلام السياسي ونغمة خطابهم الطائفي الاستقطابي التكفيري وشهدنا اقصاءهم للمجموعات المختلفة معهم وتحريضهم المباشر ضد الأقباط وتهديدهم بحرق الكنائس. يقابل تلك النغمة اليوم "لحن الوطن" الذي يشبهها كثيراً في الحالة الطائفية الاستقطابية المقيتة التي يخلقها في المجتمع وفي استعداء وتخوين الأصوات المختلفة معه التي يعتبرها شاذة خارجة عن اللحن الوطني.
لكن بوضوح، البدلة الميري، لا تحرض مباشرة ضد الأقباط ولا تهدد بحرق الكنائس، إنما تكتفي بعدم الاستجابة لاستغاثاتهم وتجد فرصة عظيمة للمتاجرة بحرق الكنائس أمام الغرب ولاستكمال حالة الفزع والرعب لاستخلاق حالة من التأييد الشعبي من أجل تمرير إجراءات قمعية متزايدة.
البدلة الميري يحلو لها التزين والتحصن بالمؤسسات الدينية، مثل الأزهر والكنيسة، الذين يتم تسويقهما لنا من خلالها كرمزين محتكرين للدين الإسلامي والمسيحي و أنهما جزء أساسي من الدولة لهما المرجعية والغلبة.
رأينا ممثلي الأزهر والكنيسة جنباً إلى جنب مع الفريق عبد الفتاح السيسي في المشهد التاريخي يوم 3 يوليو داعمين له و مباركين خطاه. استمعنا بعدها لدعوة شيخ الأزهر للمصريين للاستجابة لنداء السيسي والنزول لتفويض الجيش في 26 يوليو. علمنا أيضاً أنه يتم تسجيل محاضرات وخطب لشيوخ أزهريين ودعاة آخرين داخل الشئون المعنوية للجيش ليتم توزيعها بعد ذلك ليشاهدها الجنود من أجل أن تدعم تحركات القادة، وفيها على سبيل المثال ما يؤكد على "أن الحق في الشريعة" هو قتل من يخرج على الجيش المصري. استمعنا لخطابات السيسي التي يتكرر فيها القسم بالله بشكل مثير للعجب وتستخدم فيها أحاديث مثل "خير أجناد الأرض" بالإشارة إلى الجيش المصري الذي يقوده، ويتم التأكيد فيها على محورية دور الأزهر والكنيسة في هذه المرحلة. كما عرفنا من خلال خطاباته أن القوات المسلحة تختار نخبة من علماء الأزهر ليقوموا بتجهيز 52 خطبة للجمعة على مدار السنة يتم توزيعهم على مساجد القوات المسلحة.
صور عديدة لاستخدام البدلة الميري للدين. صور برغم دناءتها لا نجد من ينتقدها إلا قليل!
إن الحناجر التي لم تكف صراخاً في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي بأهمية فصل الدين عن السياسة وظنناها مدافعة عن مبادئ تؤمن بها، اليوم لا نسمع لها صوتاً ناقداً لاستخدام الدين في السياسة بهذا الشكل. فتلك الأصوات إما أنها بحت فصمتت نهائياً، أو أنها غيّرت النغمة فأنهت الصراخ و بدأت في التهليل والتطبيل للأزهر والكنيسة ومواقفهما "الوطنية" الداعمة للجيش، المعبرة عن "الدين الصحيح والوسطية والسماحة". هؤلاء الذين تصورناهم يوماً تقدميين، اكتشفنا اليوم أنهم أيضاً رجعيون ولا يمانعون خلط الدين بالسياسة طالما هم على وفاق مع من في السلطة. لقد بدأ خلال العام الماضي ظهور اتجاه تقدمي خارج عن هيمنة الأفكارالرجعية السائدة والشيوخ كرد فعل للخطاب الديني الفج المنفر، لكنا ما لبثنا أن خرجنا من مرحلة هذا الخطاب لنجد خطاباً رجعياً آخراً متصدراً المشهد.
فلننتبه جميعاً لما نشهده اليوم ولنقف وقفة ونتأمل المشهد بدقة، عسى أن نرى أو نستشعر قبح تلك السيمفونية التي تعزفها الثورة المضادة، ولكي ينتفض الثوريون ويوحدوا لحن آلاتهم كي يستكملوا معزوفة الثورة المستمرة وسيمفونية الحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية، ويبعدوا عن أي نشاز يعطلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق