شبكة البصرة
بقلم: علي الصراف
ما كان لمحاكمة رجل، تضاربت فيه التصورات والأقاويل، إلا ان تكون شاهدا تاريخيا آخر على تلك القسمة الأبدية بين الحق والباطل.
كان هناك الكثير من وقائع حياة هذا الرجل التي يمكنها ان تدل على معدنه و"طينته" وتكشف عن جذره وجذوته. إلا ان صدام حسين لم يكن واضحا وجليا، في تلك الطينة والجذوة، بقدر ما كان واضحا في سجنه وجليا في محاكمته.
هناك، فقط، ظهرت رجولة الرجل عارية كما جبلها الله في روحه.
هناك، فقط، ترك الرئيس هيبة منصبه ليكسب هيبة البطل الأسطوري الذي ما بعده بطل.
وهناك ظهر "الدكتاتور" على حقيقته!
ولقد كان دكتاتورا عليهم بشموخه وأنفته وغطرسته على السلاسل والأقفاص والقيود. يدخل مرتفع القامة، ويخرج أعلى قامة مما دخل. رجل يقول للموت: ها أنا ذا، فتعال، لو تجرؤ، أن تأخذني.
ولم يأخذه موت.
كان الأمر مجرد خدعة صورية، لا أكثر.
نعم، وقف أمام حبل المشنقة، ونطق بالشهادتين.
ونعم، رأيناه يتقدم مكشوف الرأس، مفتوح العينين، ليرتدي ربطة عنق، خشنة قليلا.
ونعم، رأينا الجسد ينزل، ثم الجثمان ممدا. ولكن إبتسامته الأخيرة قالت كل شيء.
كان صدام يعرف انها ستكون السطر الأخير في كتاب المناضل والرفيق والرئيس والقائد والأب، ولكنها ستكون أيضا، السطر الأولفي كتاب الأسطورة.
ومثلما خدعنا بـ"دكتاتوريته"، إذ لم يكن على وجه الحق إلا شديد بأس، فقد خدعنا في "موته".
فهو لم يمت. خطا خطوة.. وابتسم، وانتقل الى رحاب أخرى، مثلما يصعد المرء سُلّما. وكأن المسافة بين الحياة والأبدية هي لا أكثر من تلك العتبة.
نزل الجسد، ولكن الموت لم يأخذه. فابتداءً من تلك اللحظة، ولد صدام الآخر؛ صدام الخالد؛ صدام الذي لا يمكن لموت أن يأخذه منا أبدا.
بكينا قليلا، وغمرنا الحزن قليلا، ولكننا إبتسمنا معاً... لحظة اكتشفنا خدعة البطل. واحتضنّاه بقلوبنا كما لم تُحتضن روح مناضل من قبل. فأودعنا جزءا منه أمانة بين يدي بارئه، وعدنا، بذلك الجزء الأعز، لنواصل المقاومة.
واكتشفنا انه، كان يبتسم من ناحية أخرى أيضا، إبتسامة تلك السلطة الممتلئة. فهو بكل ما كان يبدو من جبروته البابلي، فقد كان إنسانا حليما ذا بساطة وطيبة يمكن لدموعه ان تسيل على خديه لأي مصاب أو فقدان جلل. وكان يحزن ويضحك ويغضب كما يفعل كل البشر، وكان هش القلب أيضا. إنما بهيبة الرجل وبطول قامة البطل، اللتين لم يُضحّ بهما أبدا.
كان يريد من "شدة بأسه" ان تؤدي غرضا وأن توصل الى هدف. فانقسم الخلق فيه، بين من يرى "الدكتاتورية" المزعومة بتفاصيل يكاد يكون لا معنى لها، وبين من يرى الغرض والهدف بتفاصيل مذهلة في كل جامعة ومؤسسة ومعمل.
وظل القمر واحدا. فمن أي نصف نظرت اليه، فانه النصف الآخر أيضا.
هكذا، ربما ليجعلك حائرا. وهكذا ليظل شاغلا. وهكذا ليدفع بالعراق قدما، فقدما، فقدما، حتى أغاظ ضده كل الذين في قلوبهم سويداء حقد وأطماع وكراهية عنصرية و.. سَفَلْ. فالتأموا عليه، وتحالفوا على قتله وعلى تدمير العراق في آن معا.
بتلك السويداء فقط، حكموا ليدمروا ويقتلوا ويعذبوا ويغتصبوا. وبتلك السويداء حوّلوا العراق الى مسلخ وبُركة دم. ولم يكن لديهم أي شيء آخر. وكأنهم جاءوا من كوكب مظلم طرّا.
وكان لابد ان يُقتل صدام حسين، لانهم كانوا يريدون ان يقتلوا به طموح العراق الى القوة والرخاء والمجد.
وكنا نرى ذلك السومري يبني ويقاتل ليلاحق عشبة الخلود، ولكن، مثلما خسرها كلكامش الأول لتقع بين انياب ثعبان تمكن من التهامها قبل ان يصل المحارب اليها بوقت قصير، فقد خسرها كلكامش الثاني لتقع بين أنياب ثعبان أيضا.
ولم يكن البطل ساطعا كما كان ساطعا في سجنه وفي محاكمته.
في البدء أرادوا ان يهينوه، فأهانهم.
وأرادوا ان يحاكموا "دكتاتوريته" فحاكم إنحطاطهم ورخصهم وعمالتهم.
وأرادوا ان يروه ضعيفا، فكشف لهم عن بسالة محارب لا يرف له، في الحق، جفن.
وكان، بفصاحته ووطنيته وثاقب نظرته، هو محامينا الأول، وكل فريق دفاعه كان "فريقا مساعدا".
صدام في سجنه كان عاريا أيضا. الإنسان تكشفه وتعرّيه المحن. وقد كشفه السجن وعرّاه كما لم يفعل مع أي زعيم آخر من قبل. فكان أجمل بشخصيته، وأكثر إقداما بشجاعته، وأنبل بكرمه امام محامين كانوا يستمدون من "موكلهم" الثبات والقوة، لا العكس. يواسيهم لا أن يواسوه، ويشدّ من أزرهم لا أن يشدّوا من أزره، ويبقيهم على جادة الحق، لا أن يبحثوا عنها معه.
وقلائل هم الأحرار الذين منحهم القدر شرف الوقوف تجاه الغزاة تلك الوقفة الجليلة. وقلائل هم الذين يجعل التاريخ منهم علما ومنعطفا.
وجريا على بطولته، فقد صار محاموه أبطالا، يواجهون الموت مثله، ببسالة محارب، لا بمهنيّة محام، إذ كيف كان يمكن لهذه المهنيّة ان تواجه مليشيات ترتدي بزة القضاء في الداخل، وغوغاء ترتدي بزة المليشيات في الخارج؟
في الداخل، القاضي ليس قاضيا محايدا بل طرفا يجادل ويصيح ويتوتر ويغضب ويطرد كما يفعل الغوغاء، فيما لا يتورع "مغاوير الداخلية" وحراس الاحتلال عن ضرب المتهمين وتعذيبهم امام المحكمة وفي الممرات وفي السجن.
وفي الخارج، تكمل المليشيات المهمة بترويع المحامين وملاحقتهم وتهديدهم، حتى قتلت خمسة منهم، بعد التنكيل والتعذيب، بل علقت جثة احدهم على عمود الكهرباء لتكون شاهدا، ليس على الوحشية وحدها، بل دليلا، لا تخطؤه البصيرة، على الإفلاس الأخلاقي التام للإحتلال وحكومته ومليشياته و..."قضائه".
في ظروف كهذه، لم يكن محامو "فريق الدفاع" محامين إلا خدعة أيضا. فقد كانوا رجالا (وإمرأة) لا تُغني مهنيتهم عن استعداد كل منهم ليكون شهيدا يذهب الى موته بقدميه. فهم كانوا هناك يخوضون معركة ليس في إطار القانون، سعيا وراء إحقاق الحق وإظهار العدل، بل في إطار اللاقانون، بين أدغال قانون الغابة، بأكثر معانيه بدائية وتخلفا وتخليا عن القيم الإنسانية، سعيا للبحث عن سبل للنجاة من حفرة ثعابين وعقارب، يشرف على حوافها ذئاب وضباع ينتظر كل منهم الفوز بحصته من الدم.
لقد أُريد لتلك المحكمة ان تكون "محكمة القرن"،... فكانت. إنما كمهزلة مدوية ستظل تتردد أصداؤها على امتداد القرن كله كنموذج لأسوأ ما عرفته البشرية من إهانة لقيم الحق والعدالة والقانون. وستظل عارا يلاحق، بالخزي والسخرية، كل الذين تورطوا بتدبيرها.
كان الموت حاضرا في كل لحظة، وفي كل زاوية ومنعطف من زوايا تلك "القضية".
ولم يكن هناك سوى هدف بيّن واحد لكل تلك المهزلة، هو قتل "المتهمين" تحت ستار "قانون" تم تفصيله خصيصا ليكون دغلا من أدغال غابة سكاكين تتهاوى وتترنح لتنهش أجساد ضحاياها غدراً وغيلةً وعبثاً.
وكم كان مما "يمرد" القلب، في بيئة كهذه، ان يبحث المحامون عن إستراتيجيات وخطط للدفاع. فالسكاكين كانت هي سيد المسألة، ليست ضد رئيس فقد سلطته بقوة وحشية، وتحت غطاء ظالم، وبناء على أكاذيب وذرائع باطلة، وليست ضد محامين وجدوا أنفسهم ضحايا للتهديد والقتل والتعليق على أعمدة الكهرباء، بل ضد شعب برمته صار يُنحر أبرياؤه، نساء وأطفالا وشيوخا، نحر الخراف على مرأى العالم كله.
ولكننا بتلك السكاكين وبغوغائها، نعرف اليوم، كم اننا كنا على حق، وكم ان شهيدنا لم يكن "دكتاتورا" كافيا، إذا جازت عليه هذه الصفة أصلا، وكم ان الوجه الآخر، المضيء، من قمر البناء والإزدهار والقوة كان هو الوجه الصحيح للعراق في ظله.
وسيكون اولئك الغوغاء هم انفسهم شهودنا في محكمة المستقبل. فجرائمهم تكفي بنفسها لكي تقف امام التاريخ لتقول من أي كوكب سفلي جاءوا، والى أي تاريخ أسود ينتسبون، ومن أي عالم، سابق على القانون، استمدوا قانونهم ودولتهم.
فبرغم انهم قتلوا أسيراً وشبعوا في جثمانه حقدا، إلا انهم ظلوا يقتلون ويدمرون وينهبون ويغتصبون حتى لكأنهم كانوا يرون في كل عراقي وعراقية ضحية مبررة لحقدهم. والحقيقة، هي ان لاأخلاقيات العالم السفلي، القادمة من كوكب الظلام الكلي للنفس البدائية؛ نفس ما قبل نشوء القيم والمعايير الانسانية، كانت هي وحدها الجوهر الذي يتحكم بمهاوي سكاكينهم، ليس على أجساد الأبرياء بل وعلى جسد العراق نفسه أيضا، وعلى مستقبله وعلى حق أبنائه في الأمن والرخاء والحرية أيضا وأيضا.
في هذا "السياق" الدامي، كان على حفنة أبطال، قرروا المغامرة بحياتهم، أن يتقدموا كمحامين أحرار، تعلموا في أفضل الجامعات، واكتسبوا الخبرة في أفضل ساحات العدالة، للدفاع عن شهيد يعرف انه شهيد سلفا، وعن رفاق آخرين له كانوا يستظلون بشجاعته فتنهض شجاعتهم مثلما تنهض النخوة.
ومثل تلك النخوة، كان عمل "هيئة الدفاع" نخوةَ شرف أكثر منها نخوة قانون. فالقانون لم يكن هو المسألة، بالنسبة لتلك المحكمة، أصلا.
وإذ لا يمكن النظر الى تلك المحكمة بمعزل عن بيئة القتل المباح الذي يعم العراق، فانها كانت شاهدا على موت الضمير نفسه، ودليلا على انهيار كل المعايير والقيم الإنسانية أيضا. ومن موت الضمير وانهيار القيم صارت "حقول القتل" العراقية أوسع سفكاً للدماء من كل "حقول القتل" التي عرفتها الوحشيات السادية السابقة في تاريخ البشرية،.. من هتلر الى بول بوت، الى بينوشيت.
ولكن، فحيثما كان يبدو للجميع ان القضية التي يدافع عنها أولئك المحامون "خاسرة سلفا"، إلا انها لم تكن خاسرة أبدا.
هناك، في سجنه، كشفت رجولة الشهيد عن بطل أشد من الفولاذ تماسكا وصلابة. وكان الإنسان فيه روحا للخير والتسامح والوطنية الفذة. فلم يسأل عن انتقام، ولا طالب بثأر، وتنزه عن كل سلطة، وظل "العراق العظيم" هو الخيمة التي تلقي بكلكلها على شغاف قلبه، وتحرك نهضتُه وحريتُه دوافعَ ضميره.
وعندما حانت ساعة الرحيل، خطا خطوته واثقاً ومبتسماً.
فلئن كنا خسرناه زعيما وقائدا، فقد عدنا لنكسبه بطلًا أسطورياً ورمزاً.
ومثله فعل رفاقه الآخرون. ومثلهم سيفعل كل رفاق المسيرة الى الحرية. فـ"العراق العظيم"، عراق الخير والتسامح والحرية والرخاء هو عراقهم. انه الشجرة الخالدة التي، إذا خسرت كلكامشا، فكلكامشا آخر تلد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق