22 سبتمبر 2013

عبد الرازق أحمد الشاعر: كذب المصورون


في بلاد تجاوزت مخاضها الربيعي بفشل ملفت، يخرج ثوار العهد البائس كل مساء فرادى ليتفقدوا آثار أقدامهم عند ميادين كانت لهم، ليلتقطوا صورا فوتوغرافية تخلد ما تبقى من جرافيتي باهت فوق الجدران المهملة، وقد لف كل محزون منهم ذراع كاميرا حول رقبته الملوية تحت حملها. وقبل أن يخلد الواحد منهم لنوم متقطع لا ينسى رفع صوره على حسابه الخاص، لكن الجدير بالذكر أن أحدا لا ينظر إلى تلك الصور إلا صاحبها لأن أحدا من الثائرين المتقاعدين لا يريد أن يتذكر رفاق ميدان تحولوا بين عشية وضحاها إلى وشم مخز في جبين واقع مهين. وهذا الكم الهائل من الصور الفوتوغرافية يعكس حالة النرجسية المفرطة التي يعيشها إخوة كرامازوف بعد أن تقطعت بهم السبل وسقطوا في أول اختبار للثقة على عتبات فارقة في تاريخ أمة تحتضر. وهكذا تتحول الوقفات الهادرة في ميادين الوعي إلى قفشات فيسية أو تويتات بائسة لا يكاد يتابعها أحد. أما الكاميرا التي تفرض وجودها على كل الأعين فلا زالت تمارس سلطانها الطاغي على ملايين التعساء الذين لا يستطيعون التمييز بين كوع العدالة وبوعها. الصورة لا تكذب إذن، لكنها تنقل نبرات صوت حاملها وارتعاشة يده، وتنقل الخبر من الزاوية التي يقف فيها، لتفرض وجودها على كل الجالسين أمام الشاشة الكاذبة مهما كانت وضعيتهم. أما الصور التي تنشز عن فكر مموليها، فتتعرض لامتهان بالغ أمام مقص الرقيب وتصل في النهاية إلى المستهلكين الأغبياء وسط خليط من الأكاذيب المنمقة. كذب المصورون ولو صدقوا إذن، لأن الصورة التي تخرج من تربتها وتغرس قسرا في تربة كاذبة تتحول إلى فاتح شهية في وجبة من الأكاذيب المفبركة التي يتناولها المواطنون التعساء قبل أن يأووا إلى فرشهم كل مساء. كم تمنيت لو امتهن التصوير في بلادنا المكفوفون لأنهم لا يستطيعون التمييز بين لون ولون أو بين مظاهرة تأييد وأخرى معارضة أو بين مصريين في زي مدني ومصريين يجرون أحذيتهم الثقيلة نحو ميادين المواجهة. يستطيع المكفوفون في بلادنا أن يخرجوا بصورة أكثر شفافية لواقع ضبابي لا يتفق حوله متحدثان ليخرجونا من وهدة الخلاف التي توشك أن تأكل ما تبقى في مصريتنا من أخضر ويابس. وتستطيع أن تنتصر بفوضاها على الصور المعدلة داخل الاستديوهات الموجهة المغلقة لتحفظ ما تبقى من ثقة في إعلامنا التعس. سيقول المخلفون من الإعلاميين أن دعوتي هذه لا تقف على ساق، وأنها أضغاث حالم لا يرى أبعد من أرنبة رأيه، لكنني أؤكد أنها الحل السحري الأوحد للقضاء على المؤامرة الكبرى على الوعي المصري. ففي زمن فقد فيه رجال الإعلام كامل مصداقيتهم، وسقطت فيه نزاهة رجال القضاء وعمائم رجال الدين في جب الأكاذيب، وفي زمن تشكك فيه الرجل بأخيه وجاره وصاحبه بالجنب وابن السبيل، لم يعد أمام الباحثين عن الحقيقة فيه إلا اللجوء إلى صور محايدة بأعين لا ترى، وقد سبقنا إلى تلك الفكرة المجنونة كفيف ليتواني. ففي صيف عام 2003، وقف ريميجيوس أوديجيتس على قارعة الخلاف ليصور القادمين من اليمين والمارقين من اليسار دون أن يراهم، ولأن الرجل لم يقدر له أن يرى ملامح واقعه البائس لأنه ولد في ظلام دامس، فقد جاءت صوره محايدة فاضحة لزيف إعلامه غير الوطني وغير النزيه. "أحمل كاميرتي،" يقول الرجل "كلما جد جديد، وأصوب عدستها نحو الأصوات العالية ثم أحمل نتاج مغامراتي إلى أصدقائي ليقوموا بتحميض الصور وطبعها." الفكرة بسيطة للغاية وغير مكلفة، وسوف تستوعب أعدادا من مصابي الثورة الذين فقدوا أبصارهم وآمالا مع أبصارهم في حياة تستحق أن تعاش. كما أنها ستوفر ملايين الجنيهات التي تنفق على المرتزقة من المصورين ومحرري الصور، وتعيد إلى إعلامنا المستباح بعض وقاره الذي فقده بالكلية في أعقاب ثورة لم تتم. وهي فكرة لم تسبقنا إليها الأمم التي سبقتنا إلى الكفر بإعلامييها ومصوريها وعدساتها. وهي حل لن يكلف الدولة ملايين الجنيهات التي توزع دون طائل على فئة من الإعلاميين المنحرفين الذين فقدوا مصداقيتهم عند الجميع. وهو على أيه حال أقل مئونة من محاولة تدريب كوادرنا الإعلامية التي درجت على الفساد على إلقاء الحقائق عارية في منتصف الطريق، فهي مهمة جد شاقة وربما تفوق قدراتهم. عبد الرازق أحمد الشاعر أديب مصري مقيم بالإمار

ليست هناك تعليقات: