عربي21
أليس غريبا أن يشن الجيش المصري حملة عسكرية تستمر أشهرا طويلة على شمال سيناء ولا تكون النتيجة في النهاية إلا إخفاقا ينعكس على أرض الواقع في صورة هجمات وانفجارات شبه يومية تستهدف مواقع أمنية وعسكرية وتلحق بها خسائر مادية وبشرية هائلة؟
المنطق البسيط، يفيد بأن جيشا يفترض أنه يحتل المركز الأول بين الجيوش العربية ويقال إنه الثالث عشر بين جيوش العالم، لا يحتاج إلا أياما قلائل ليدحر مسلحين يتوقع أن عددهم لا يتجاوز بضع مئات، ولا يملكون مدرعات أو دبابات كالتي تلاحقهم على الأرض أو طائرات أباتشي كالتي تقصفهم من الجو.
لكن الواقع أبعد ما يكون عن ذلك، فمنذ قتل مسلحون 16 ضابطا وجنديا أوائل أغسطس 2012 فيما عرف آنذاك بمذبحة رفح، ورغم أن الجيش بدأ على الفور حملة عسكرية موسعة تدعمها المدرعات والدبابات والطائرات، إلا أن الهجمات توالت والمجازر تكررت، فأصبح هناك مذبحة رفح الثانية والثالثة قبل أن تأتي مذبحة كرم القواديس ومذبحة الكتيبة 101 فضلا عن هجمات أخرى متعددة.
واللافت أن كل مجزرة جديدة تأتي غالبا أكبر من سابقاتها، فالضحايا في رفح الأولى 16 قتيلا بينما في الثانية التي وقعت أواسط أغسطس 2013 ارتفع العدد إلى 25، في حين شهدت كرم القواديس التي حدثت في 24 أكتوبر الماضي مقتل 30 جنديا، ثم جاء الهجوم على الكتيبة 101 في 29 يناير الماضي ليضرب الرقم القياسي بأكثر من 40 قتيلا مع تقارير تشير إلى أن العدد الحقيقي ربما كان أكثر من ذلك.
وتواصلت الرمزية في هجمات النصف الأول من أبريل/ نيسان الحالي، حيث كان لافتا أن الهجمات التي وقعت مطلع الشهر وأدت إلى مقتل 20 شخصا معظمهم من الجنود، استهدفت سبعة مراكز أمنية بشكل متزامن، وشهدت نجاحا في خطف جندي تم إعدامه لاحقا، فضلا عن الاستيلاء على مدرعات ودبابات كما ورد في شريط مصور بثته "ولاية سيناء".
وفي 12 أبريل احتفل المسلحون بتعيين قائد جديد للجيش الثاني الميداني الذي يقود العملية العسكرية في سيناء وقائد جديد للمخابرات العسكرية التي تقوم بدور كبير في العملية، عبر خمس هجمات استهدفت إحداها مقرا للشرطة بالعريش ما أدى إلى مقتل وإصابة نحو 70 شخصا معظمهم من الشرطة.
حتى ما قبل هجوم الكتيبة 101 كان الأمن المصري يلقي باللائمة على أنفاق تمر تحت الحدود إلى قطاع غزة، ويؤكد أن مسلحين يستخدمونها في الهجوم ثم العودة إلى القطاع، ولذلك كان يقدم على هدم ما يكتشفه من أنفاق، لكن هذه الحجة لم تعد صالحة للاستخدام بعد أن أقدم الجيش على إزالة عشرات وربما مئات المنازل في منطقة الحدود ليقيم منطقة عازلة تمتد لمئات الأمتار على الحدود.
من أين يأتي المهاجمون إذن وأين يختفون بعد تنفيذ هجماتهم؟
دعني أشير أولا إلى أن أهل شمال سيناء حيث تقع كل الهجمات، هم أدرى بشعابها وتضاريسها، خصوصا وأن معظمهم من البدو الذين تربوا وترعرعوا في المنطقة الممتدة شرقا من رفح وحتى مدينة العريش عاصمة المحافظة، والتي تمتد جنوبا حتى قرب جبل الحلال بوسط سيناء.
ولذلك إذا وصلنا إلى السؤال الصعب عن موقف أهل سيناء من الهجمات، فإن واقع الحال هو ما يؤكد أن كثيرا من أهل سيناء أو لنقل بعضهم، إن لم يكن راضيا ومرحبا بالهجمات فهو على الأقل لا يرفضها ولا يساعد في منعها، وإلا لرأينا من يرشد من الأهالي عن المسلحين أو يحول بينهم وبين تنفيذ هجماتهم.
هذه هي العقدة الحقيقية التي يتحاشى كثيرون الحديث عنها بشكل مباشر، مع أن زيارة لسيناء أو حتى تواصلا وثيقا مع بعض أهلها يؤكد لك أن الأهالي لا يتعاونون مع الأمن ضد المسلحين إلا قليلا، ليأتي السؤال الأصعب وهو لماذا؟
السبب بوضوح يكمن في شعور عميق بالمرارة نتيجة ما يصفونه بالظلم والتهميش الذي تعرضت له شمال سيناء على مدى عقود حيث تركتها القاهرة دون أي مشروعات زراعية أو صناعية أو خدمية، لتسيطر البطالة وتنتشر الفاقة بين كثير من السكان.
ليس هذا فقط، فكما حكى لي مواطن سيناوي ذات مرة قائلا أنه يكفي للتدليل على ما عانوه من ظلم أن يحي ما كان يحدث في نقاط التفتيش الأمنية التي يمرون عليها عند سفرهم إلى الوادي (يقصد وادي النيل) حيث كان الجنود يمارسون تفتيشا مهينا بحق أبناء سيناء مقابل تفتيش بسيط لبقية ركاب السيارة أو الحافلة.
أضف إلى ذلك ما اعتادت عليه الشرطة من فظاظة في التعامل مع البدوي، لتدرك كم الكراهية التي تجمعت لدى كثير من السيناويين تجاه السلطة، قبل أن تصل منتهاها عندما وجدوا أن الحملة العسكرية التي يقوم بها الجيش تعمل غالبا بشكل عشوائي يقتل من الأبرياء ويدمر من منازلهم أكثر مما يفعل بالمسلحين المطلوبين.
ورغم الجأر بهذه الشكوى مرارا إلا أن القصف العشوائي لم يتوقف، وأصبح أهالي سيناء يشاهدون جيرانهم المدنيين والنساء والأطفال يقتلون في الغارات، بينما صحف القاهرة يتحدث عن سقوط مزيد من الإرهابيين وهو ما يفاقم حالة الغضب ويترك مرارة ربما لن تزول إلا بعد عقود حتى لو استقر الأمر بشكل أو آخر.
ولأن عملية كالتي يقوم بها الجيش المصري ضد مسلحين لا يستقرون في مكان، تقتضي تعاونا استخباريا من السكان كي تنال حظا من النجاح، فقد كان التعثر حليفها مرارا بعد أن أحجم السكان عن التعاون، بل وربما قام بعضهم بمساعدة المسلحين بشكل أو بآخر تعاطفا معهم أو نكاية في السلطة.
وحتى بعد أن حاول الجيش إغراء البعض بوظائف أو أموال من أجل إمداده بمعلومات عن المسلحين جاء الرد عنيفا من جماعة أنصار بيت المقدس التي تحولت إلى "ولاية سيناء" حيث تم ذبح عدد من هؤلاء المتعاونين وهو ما كان له أثر في تجفيف هذا المنبع.
المثير أن مئات المقالات نشرت في مصر على مدى السنوات الماضية تتحدث عن علاج مشاكل سيناء وكيف أن في مقدمتها إزالة مشاعر الظلم والتهميش، عبر مشروعات تنموية وعدل اجتماعي، كي تعود سيناء فعلا إلى حضن الوطن ويساعد أهلها في التصدي للإرهاب، لكن ذلك ظل حبرا على ورق، وظل معه الظلم قائما والتهميش مستمرا، وانضاف إليهما قصف عشوائي يزهق الأرواح ويهدم المنازل، ليدفع البيئة السيناوية كي تصبح أقرب إلى احتضان هذا الإرهاب، هذا إذا اعتبرته إرهابا من الأساس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق