أصبح العمر أثمن من بعزقته في البحث عن إجابات للأسئلة الكبرى. ولذلك، لم أعد مهتما بمعرفة "ماذا حدث للمصريين"، ولا ماذا يحدث للدكتور جلال أمين، أشهر من طرح ذلك السؤال على الملأ، لأنشغل، من باب التغيير، بالبحث عن إجابات على أسئلة تفصيلية، قد تظنها هامشية، مثل: ماذا حدث لمطعم البرنس؟
والبرنس، لمن لا يعلم، مطعم شعبي تنامت شهرته بتقديم أطباق الكبدة والسجق وسائر الطواجن، فبات أبرز معالم حي إمبابة الذي لم يشتهر، منذ معركته التاريخية أيام الحملة الفرنسية، إلا بجمهورية الشيخ جابر الإرهابي الطبال في التسعينات، ثم بمصنع الكراسي، وأخيراً بمطعم البرنس الواقع "ورا مصنع الكراسي"، لكن توسع عدد "الفانز" الواقعين في هوى البرنس، وبينهم كثير من المشاهير، لم يقِ صاحبه من شرور "الهيترز"، ففوجئ رواده، في العام الماضي، بإغلاقه وصدور حكم قضائي بحبس صاحبه، بعد سلسلة من الأخبار، تحدثت عن قيام المطعم ببيع لحوم فاسدة أو حميرية المصدر، من دون أن يتواتر ظهور آثار ذلك على زبائنه، خصوصاً من لم يكن منهم من عتاة "الهضّيمة" الذين تخشى الميكروبات وجودها في أحشائهم
ومثلما تم إغلاق مطعم البرنس، وحبس صاحبه فجأة، حصل صاحبه على البراءة قبل أيام فجأة، وأعلن عن فتح المطعم من جديد، من دون أن يخرج مسؤول ليعتذر لرواد البرنس، قبل البرنس نفسه، عما حدث لهم طيلة فترة إغلاقه من أضرار نفسية جسيمة، جعلتهم يفقدون مصدراً ثميناً من مصادر البهجة التي شحّت في البلاد، حتى أصبحت أكثر نُدرة من الشعرة في فخذ هوجان، وهو ما زاد من وجاهة تحليلاتٍ رأت أن إغلاق البرنس لم يكن حرصاً من الحكومة على صحة مواطنيها، فهي تسمح لكل من تفّ ونفّ أن يفتح مطعماً، أو "عربية أكل"، من دون رقابة صحية صارمة، وإنما لأن البرنس داس على "رجلين"، برنس موغل في النفوذ، فرفض له إما طلب شراكة أو عرض "فِردة" أو تعلية إتاوة، ليدفع ثمن عناده غالياً، ولعله حين تعلم الدرس، وقرر تصحيح خطئه، سمحت الحكومة بإعادة فتح مطعمه، مثلما تسمح لكثير من المطاعم ذات السلاسل والماركات، بالاستمرار في العمل، على الرغم من تكرر الإعلان عن ضبط أغذية فاسدة في ثلاجاتها.
بالطبع، لن يعرف أحد حقيقة ما حدث للبرنس، كما لن يعرف أحد حقيقة ما حدث قبل أسابيع لقاعة المؤتمرات التي احترقت عن بكرة أبيها، فمصمص الجميع شفاههم ساعةً من نهار، ثم اختفى الحادث في غياهب النسيان بعدها بيومين، لتتردد في أروقة الفضاء الافتراضي تساؤلات عن مصادفة ارتباط احتراقها، مع افتتاح جهة سيادية لقاعة مؤتمرات ضخمة، كان سيؤثر على رواجها الاقتصادي وجود قاعة المؤتمرات القديمة، مع أن القاهرة، في الأحوال العادية، يمكن أن تتحمل وجود قاعتين ضخمتين للمؤتمرات، في حين رأى آخرون أن الحريق المفاجئ مريب التفاصيل، لا يمكن فصله عن أطماع قديمة في الموقع المتميز الذي تحتله أرض قاعة المؤتمرات الواسعة. ولذلك، كان لا بد من حرق مبانيها بالكامل، ليسهل بيع الأرض بأثمان خيالية لشركات العقارات، بعد أن يروج في وسائل الإعلام كلام منمق، حول كون البيع أفضل وأوفر من الترميم والتطوير. وبالطبع، سيظل لتلك التفسيرات التآمرية وجاهتها، طالما لم تتم سرعة ترميم القاعة، لتعود إلى كامل بهائها، ولم تتم قبلها محاكمة كبار المسؤولين عن الحريق، من دون الاكتفاء بكباش الفداء الهزيلة، ومن دون المراهنة على أن "كل شيء في مصر يُنسى بعد حين"، كما قال أمير الشعراء.
لا ألومك إن اخترت تغليب حُسن الظن، لتفترض أن ما حدث لمطعم البرنس وقاعة المؤتمرات، وما حدث وما سيحدث لغيرهما، ليس إلا سوء حظ أو قلة بركة أو تقصيراً في "دعاء الوالدين"، فلا أحد يحب شعور العيش في غابة، يجهل متى وكيف سينقض عليه وحش كاسر ليفتك به، حتى وإن مشى داخل الحيط، وربط الحمار مطرح ما يحب الحمار، لكن ذلك الإنكار لن يعفيك، للأسف، من إمكانية أن تكون الضحية القادمة لأي من سياسات الدولة التي تعمل من أكبر رأس إلى أصغر ظفر، من دون حسيب ولا رقيب، ويفترض أصغر مسؤول فيها، أن من حقه أن تعامله كقائده السيسي الأعظم، فيصبح لزاما عليك أن تبصم بالعشرة على كل ما يقوله، من دون أن تنتقد قراراته، أو تشكك فيها، وإلا أخذك بالصوت واتهمك بالخيانة والعمالة، فإن قاومت ذلك، أتى ضابط غاشم، ليأخذك من قفاك، إلى قاضٍ باطش يأخذك وراء الشمس بالقانون، فلا يعرف أحد لماذا حدث ذلك لك، مثلما لن يعرف أحد ماذا حدث للبرنس، ولا لغير البرنس
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق