ربما لم تتعرض فكرة أو انتماء أو هوية وطنية، للظلم والهجوم والإساءة والتشويه كما تعرض لها الانتماء العربى وفكرة العروبة.
وما دفعنى الى تناول هذ الموضوع اليوم، هو ما قام به حكام العرب فى قمتهم الأخيرة، من ابتذال للفكرة وللمعنى.
***
· حاربها الغرب بقيادة الأمريكان، خوفا من قيام دولة عربية موحدة قوية، تتحدى وتتحرر من هيمنتهم على المنطقة، وتتحول الى قوة كبرى.
· وسفهتها ماكيناتهم الاعلامية والسينمائية، التى دأبت على السخرية من العرب وتشويه صورتهم وتقديمهم ككائنات بدائية متخلفة.
· و اعتبرتها بريطانيا الخطر الاكبر الذى يمكن ان يهدد امبراطوريتها الاستعمارية، وفقا لما ورد صراحة فى توصيات مؤتمر "كامبل" الشهير عام 1907. ووفقا لترتيبات سايكس بيكو ونتائج الحرب العالمية الاولى.
· وحاربها الصهاينة خوفا من مواجهة شاملة مع جموع الشعب العربى تقضى على المشروع الصهيونى وكيانه، الذي قام أساسا لإجهاض اى مشروع عربى تحررى وحدوى.
· وحاربها السوفييت فى 1958 حين قامت الوحدة المصرية السورية، وأرادت العراق أن تنضم اليها، واعتبروها منافسا وبديلا مرفوضا عن أممية اشتراكية بقيادة الاتحاد السوفيتى فى مواجهة الامبريالية الامريكية.
· وتُنافسِها وتُضعِفها دول الجوار الاقليمى، حين تعمل على بناء دولها وأمنها و نفوذها، فى غياب مشروع وطنى عربى، وعلى حسابه و فوق ما تبقى من أنقاضه.
· وحاربها الاقليميون ودولهم الاقليمية ومشروعاتهم وسياساتهم الاقليمية، فى كل الاقطار العربية، واتهموها بانها فكرة مصطنعة غير حقيقية، وطرحوا فى مواجهتها القوميات المصرية والسورية والفلسطينية والعراقية ..الخ
· وحاربها الخائفون من اسرائيل او المتصالحون والمتواطئون معها، لتبرير انسحابهم من معركة تحرير فلسطين "العربية".
· وحاربها نظام السادات وخلفاؤه، لتبرير وتمرير اتفاقيات كامب ديفيد، والصلح مع العدو الصهيونى، وروجوا لفرعونية مصر، ولأى روابط بديلة عن العروبة تجمعنا مع يهود اسرائيل، كنظرية اولاد العمومة، و شعوب البحر المتوسط .. الخ. ودارت فى مصر حينها معركة فكرية شرسة فجرها توفيق الحكيم بمقاله الشهير "حياد مصر".
· واتهمها "بعض" الاسلاميين بانها فكرة و دعوة معادية للأمة والرابطة والهوية الاسلامية، فالأمة عندهم هى الامة الإسلامية. وقالوا انها من صناعة الاستعمار الانجليزى و الفرنسى، لضرب دولة الخلافة. ونسوا ان الانتماء الى الأرض و الوطن لا يتناقض مع الانتماء الى العقيدة والدين. وان العروبة أقدم وأعرق من عصر الاستعمار الحديث. وأن الأمة العربية مع أمم أخرى كثيرة هى أجزاء من الأمة الاسلامية وليست بديلا عنها.
· واتهمها "بعض" الماركسيين بانها فكرة شوفينية عنصرية، وانها تضلل الشعوب والطبقات العاملة لتبعدهم عن انتماءاتهم الطبقية وعن معارك الصراع الطبقى. كما اتهموها بانها فكرة برجوازية من اختراع الطبقات الرأسمالية الاوروبية فى اطار التنافس فيما بينها على الاسواق. ونسوا ان الانتماء الوطنى لا يتناقض مع الانتماء الطبقى. وان الوطنية والقومية لا تنفيان الصراعات الطبقية، وانهما سابقتان على النظام الراسمالى بقرون طويلة.
· وظلمها من القوميين اولئك الذين طرحوها فى مواجهة الانتماء الاسلامى، ونسوا ان الامة العربية تشكلت ونمت فى ظل الفتح الاسلامى، وتحررت على يده من الاحتلال الاوروبى الذى دام لقرون طويلة، وهو ما جعل الاسلام يمثل الهوية الحضارية الرئيسية للعالم العربى بمسلميه ومسيحييه. وان الانتماء الى الدين لا يتناقض مع الانتماء الى الوطن.
· وأساءوا اليها مرة اخرى حين جردوها من اى مضامين اجتماعية او اشتراكية. متناسين ان العروبة، من حيث انها تعنى اختصاص ومشاركة كل الشعب فى كل الارض العربية، فانها بالضرورة تعنى المشاركة فى ملكية الثروات والإمكانيات وسد الاحتياجات.
· وحاربتها "بعض" الآراء المسيحية فى مصر، مدعية ان الوجود العربى فى مصر ليس سوى غزوا اجنبيا استعمر البلاد وسرقها من الاقباط اصحاب الارض الحقيقيين والاصليين. وحذا حذوهم البعض فى فى المشرق العربى.
· و أساءت اليها الانظمة العربية التى رفعت شعارات العروبة والقومية، ولكنها استبدت بشعوبها، واستأثرت بثروات البلاد، وانهزمت امام العدو الصهيونى، واستسلمت له. ناهيك على فشلها فى تحقيق الوحدة.
· وأساءت لها ذات الانظمة مرة أخرى، حين عملت على اختراق وتوظيف و افساد عديد من الشخصيات والأحزاب والحركات السياسية فى الاقطار العربية، للتخديم على اجنداتها الخاصة.
· وشوهتها العائلات المالكة فى السعودية والخليج، التى مارست اسوأ انواع الاستعباد والاستغلال والاستئثار الطبقى بالثروات العربية المشتركة، فى مواجهة باقى الشعوب والعمالة العربية من الاقطار العربية الفقيرة.
· وأساء اليها الشريف حسين حين تواطأ مع قوات الاحتلال البريطانى وساعدها على احتلال فلسطين باسم الثورة العربية الكبرى .
· وتسئ اليها وتضربها فى الصميم، كل الحركات والقوى التى تطرح الطائفة أو المذهب أو القبيلة أو الحزب أو التيار كروابط بديلة تسمو على الرابطة الوطنية العربية.
· ويسئ لها ايضا كل من ينسبها من مؤيديها او رافضيها، الى اى من الحكام العرب فى القرن العشرين، فالهوية العربية سابقة على كل هؤلاء بقرون طويلة. كما انها حقيقة تاريخية وموضوعية وليست معتقدات ايديولوجية.
· وتعتدى عليها وزارات التعليم العربية كل يوم، حين تطمس وتزيف التاريخ العربى المشترك، وتستبدله بتاريخ مجتزأ ومبتور ومزيف يروج للأنظمة والحكام والسياسات حسب الطلب.
· ويسئ لها كل يوم النظام الرسمى العربى و جامعته العربية حين يعجز عن التصدى لقضايا ومشكلات العرب المركزية، ويخضع للأمريكان، ويغدر بفلسطين، ويتصالح مع اسرائيل ويطبع معها، ويغرقنا فى صراعات وحروب عربية عربية، بعد أن انسحب من مواجهة اعداء الأمة الحقيقيين.
· وأساءت لها القمة العربية الاخيرة، كما تقدم، حين ارادت ان تشن الحروب الامريكية بالوكالة، تحت رايات القومية العربية والامن القومى العربى والدفاع المشترك.
· ويسئ لها اى عربى فى اى قطر، حين يطالب باجتثاث شركاء الوطن و الأمة، بسبب الدين او المذهب او الخلافات الايديولوجية او الخصومات السياسية.
***
وحين نتحدث عن العروبة فإننا نعنى بها "الوطنية العربية" المشهورة باسم "القومية العربية"، وهى تعنى وحدة الامة العربية، شعبا وأرضا وتاريخا ومصيرا. مثلها فى ذلك مثل باقى أمم العالم كالصين والهند واليابان وروسيا وانجلترا وفرنسا. وبصياغة أكثر تحديدا هى :
((استقرار الشعب العربى الواحد على ارضه العربية الواحدة (الوطن العربى) لقرون طويلة أدت الى اختصاصه بها دوناً عن غيره من شعوب العالم، وامتلاكه لها ملكية مشتركة لا فرق فى ذلك بين مصرى وسورى وفلسطينى وتونسى ..الخ، وأنتج عليها عبر اجياله المتعاقبة حضارته المشتركة الواحدة التى تتميز بعديد من الخصائص اهمها اللغة العربية))
انها لا تعدو ان تكون هى ذات معانى الوطنية التى يعيشها ويتفهمها ويمارسها ويتبناها ويفخر بها كل منا فى قطره بلا أى تحفظ، و أيا كانت مرجعيته الفكرية. ولكنها "وطنية عربية" بدأت فى التشكل و التبلور مع الفتح العربى الاسلامى منذ 14 قرن، لتنقذ المنطقة من الاحتلال الاجنبى الاوروبى الذى عجزت دولنا وحضاراتنا القديمة عن الانتصار عليه او التحرر منه على امتداد ما يزيد عن 1000 عام.
*****
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق