لقد صار لغطا كبيرا حول مشكلة سد النهضه الاثيوبى والذى اشيع انه يحرم مصر من حصتها التاريخيه فى مياه النيل وطالب البعض الحكومه المصريه ان تدق طبول الحرب وتتهيأ لمحاربة اثيوبيا وتحطيم سد النهضه الاثيوبى , والذى لا يعرفه الكثيرون ان مشروعات السدود الاثيوبيه على النيل الازرق ليس بالامر الجديد وانما هو موضوع قديم يعود الى سبعينات القرن الماضى ايام الرئيس السادات وقد نُقل عن الرئيس السادات قول بطعم الحرب اعتراضا على السدود الاثيوبيه وقد ثار هذا الموضوع مرات ومرات وخصيصا وبشده عام 2010 ابان عهد الرئيس السابق وقد نُقلت تطاولات اثيوبيه على مصر ردا على بعض التصريحات من مسئولين واعلاميين مصريين , واذكر اننى كلفت العام الماضى من قبل الامانه العامه لمجلس الوحده الاقتصاديه بجامعة الدول العربيه باعداد دراسه عن مستقبل المياه فى الوطن العربى بناءا على طلب من حكومات بعض الدول العربيه وقد قمت بانجاز دراسه بعنوان " مستقبل المياه بالوطن العربى من منظور جيوبوليتيكى " وقد تم عرضها على الاجتماعات الوزاري بالدوره 95 للمجلس وقد اوصى بتعميمها على الدول العربيه للاستفاده منها , واثناء محاولتى الحصول على مراجع تخص الموضوع وقع تحت يدى كتاب بقلم السيد الصادق المهدى رئيس حزب الامه السودانى بعنوان "مياه النيل الوعد والوعيد " واننى اعتقد ان على كل مسئول بمصر والسودان الاطلاع على هذا الكتاب والذى اعتبره من اهم المراجع التى يمكن الاتكاء عليها عند اى مناقشه لموضوع السدود الاثيوبيه ويتكون الكتاب من ثمانية فصول ، وقد فضلت ان انقل للقارئ الكريم ماجاء بمقدمة الكتاب والتى اعتبرها دستور يجب التمسك به وثابت من ثوابت العمل الوطنى عند اى مناقشه او حوار او مفاوضات جاده بشأن السدود الاثيوبيه على النيل الازرق .
يقول الصادق المهدى فى مقدمة كتابه " التقيت رئيس الوزراء الأثيوبي السيد ملس زناوي في فبراير 1997م، وفي ذلك اللقاء الأول بيننا تحدث لي عن تظلم إثيوبيا عن أوضاع مياه النيل , قال أن إثيوبيا محرومة من مورد طبيعي نابع في أراضيها وهذا وضع ظالم وشاذ , وقال: لقد كانت مصر أيام منجستو حريصة على بحث مياه النيل ولكن منجستو كان متمنعا, أما الآن وقد صرنا حريصين على فتح الملف، فإن مصر تواجه حرصنا هذا بالإعراض. ثم قال إن لنا حقوقا في مياه النيل ونحن في أمس الحاجة لها للري وللإنتاج الكهرومائي, وقال: هذه الحقوق لن تضيع بالتقادم , بعد ذلك بأسبوعين التقيت الرئيس حسني مبارك في القاهرة , ونقلت له ما سمعت من رئيس الوزراء الأثيوبي، ونبهت لضرورة الاهتمام بالعلاقات المصرية الأثيوبية لا سيما ملف مياه النيل , تابع الرئيس مبارك ما ذكرت له باهتمام واستوعب خطورته , وفي تلك الأيام من عام 1997م هالني أن أجد الإعلام العربي مندفعا في تصوير الأزمة بين اليمن وإرتريا حول الجزر في شكل غزو إرتري إسرائيلي مشترك للجزر, وكانت إثيوبيا وإرتريا يومئذ حليفتين فسمم الخط الإعلامي العلاقات العربية بدولتي القرن الأفريقي , ركزت في أحاديثي مع المسئولين في البلدان العربية، والصحافة العربية ، على ضرورة تجنب الأحكام الجزافية والحرص على تحري الحقائق، وتجنب إحداث ضرر بالعلاقات العربية بدولتي القرن الأفريقي لأن في ذلك مسا بعلاقات هامة وحساسة , وتجاوب كثير من المسئولين العرب، والصحافيين مع هذا التنبيه , بل قام الأخ العقيد معمر القذافي بدور أساسي في ترميم العلاقات ومد جسور الصداقة والود مع دولتي القرن الأفريقي. وللحقيقة والتاريخ أذكر أن الأخ العقيد معمر القذافي هو أول قيادي عربي وجدته مشغولا بقضية المياه , كان هذا في عام 1983م , وفي عام 1997م زرت معرض الكتاب في القاهرة فوجدت المشاعر المتوترة التي لمستها لدى بعض المسئولين مجسدة في طائفة من الكتب ذات الغلافات الجذابة، وذات العناوين المثيرة مثل: المياه.. حرب المستقبل. بقلم د. عادل عبد الجليل. حروب المياه في الشرق الأوسط بقلم د. حسن بكر. حروب المياه بقلمي جون بولوك وعادل درويش.. وغيرها من الكتب التي تعددت في صياغات العناوين ولكن اتحدت في جعل الماء قرين الحرب!!
أزعجتني مشاعر المسئولين المتوترة، وعناوين الكتب المثيرة، فزاد اهتمامي بملف مياه النيل.
وفي النصف الثاني من عام 1999م اتضح لي أن خطورة الموضوع توجب سبر غور المسألة والبحث عن وسائل لحلها , لا سيما وقد استقر في ذهني أن المسألة من نوع سرطاني تساهم المسارعة في العلاج كما تساهم المماطلة في تعقيدها إلى ما لانهاية.
هذا الكتاب هو ثمرة دراستي للمسألة واستقصائي لوسائل حلها، وهو موجه للمسئولين في حوض النيل، وللرأي العام فيه للتحول من ذهنية الشك والترصد والامتثال لحتمية الصدام إلى ذهنية الوصال الاستراتيجي. هذا التحول هو الذي ينفي الشؤم ويفتح باب الأمل , هذا التحول ممكن التحقيق إذا توافرت النقاط الآتية:-
أولاً: كان النيل في تاريخه الطويل شأناً مصرياً , ثم صار منذ عهد قريب شأنا مصرياً سودانياً , إن علينا الآن أن ندرك أن عوامل الاحتياج للمياه في دول منابع النيل، وضرورات تنمية موارد النيل، وحماية البيئة، توجب التحول إلى موقف يصبح معه النيل شأنا حوضياً.
ثانياً: مسألة المياه تبحث الآن في إطار جامد – ستاتيك في هذا الإطار تبدو مسألة مياه النيل مستعصية لأنها تتعلق بإيجاد حصص لدول في مياه قسمت على غيرها , ولكن المسألة تبدو قابلة للحل في إطار متحرك- ديناميك , إطار يفترض أن التعاون بين دول حوض النيل سوف يزيد من دفق مياه النيل ويحمي نقاءها.
ثالثا: يخيم على كثير من الأذهان أن أي تعديل في حصص مياه النيل لصالح دول المنابع سوف يكون حتما على حساب حقوق الدولتين الحاليتين المكتسبة , هذه المعادلة الصفرية ينبغي تجاوزها لتحل محلها نظرة إيجابية: توقع أن يخلق التحصيص مناخا تعاونيا وجهدا تعاونيا يعود بالفائدة لكل الأطراف.
رابعا: الماء سلعة اقتصادية والحرص على توافر العرض وترشيد الطلب للمياه أوجب توحيد الأجهزة المعنية بالموارد المائية في كل قطر من الأقطار لرفع كفاءة العرض ولضبط الطلب.. إن نقل الماء من سلعة طبيعية كالهواء إلى سلعة اقتصادية نادرة واجب وطني وإقليمي ودولي.
خامسا: حوض النهر الواحد يفرض على الدول المتشاطئة عليه اعتباره وحدة مائية واعتبار إدارة موارده شأنا مشتركا بينها , التعامل الصحيح مع الوحدة المائية هو الإدارة المشتركة.
سادسا: هنالك تناول سطحي للمسألة على نطاق واسع , هذا التناول السطحي بل التهريجي يسارع في توجيه الاتهامات وترويج الإشاعات ويزرع مزيدا من الشك وعدم الثقة. مثلا: إذا تحدثت دول المنابع عن تحصيص مياه النيل تتسارع الاتهامات بأنها غير محتاجة لذلك بل تقوله متواطئة مع إسرائيل للكيد لدولتي المجرى والمصب!! أو أن يكال الاتهام لمصر بأنها ساعية لعدم استقرار دول المنابع لا سيما إثيوبيا لكي تصرفها الحروب الأهلية والنزاعات عن البرامج التنموية واستغلال الموارد المائية. هذه الاتهامات تخلق حربا نفسية بين دول حوض النيل.
سابعا: دولة المصب الأكثر تقدما من حيث التنمية الاقتصادية والبشرية ينبغي ألا تتعامل مع دول الحوض الأخرى كأي دول أخرى بل ينبغي أن تتعامل معها بخصوصية في مجال دعم التنمية، وتنمية مواردها البشرية، وزيادة التبادل التجاري، وإقامة علاقات ثقافية، وإعلامية قوية، وتوثيق العلاقات على المستوى الرسمي والشعبي، لكي ينمو إحساس إيجابي بين دول حوض النيل.
ثامنا: إن لنا في شمال حوض النيل ثلاث حلقات انتماء هي: الحلقة العربية- والحلقة الإسلامية- والحلقة الإفريقية. الحلقتان الأولتان لهما أهمية في النظام الديني والقومي والثقافي , الحلقة الثالثة -الأفريقية- لها أهمية حياتية. التطور السياسي في التاريخ الحديث جعل الحلقة الإفريقية مهمشة في السودان وفي مصر بصورة اكبر, هذا التهميش لعلاقة حياتية لا يتناسب مع مصالح السودان ومصر، إنه تهميش يعود بالضرر الفادح على مصالح دولتي وشعبي وادي النيل , المطلوب بإلحاح في السودان وفي مصر مراجعة الأولويات لإعطاء الحلقة الإفريقية اهتماما أكبر.
تاسعا: النيل وأحواض الأنهار الدولية الأخرى صارت مكان اهتمام دولي كبير من حيث إحصاء المعلومات عنها، وتوفير المال والتقنية لتطويرها، وتشريع الأحكام للعدل في توزيع مواردها، وإيجاد وسائل عادلة لفض المنازعات فيها.
عاشرا: القيادات السياسية العليا في دول حوض النيل لا تمارس اجتهادا سياسيا لإيجاد حل شامل لمسألة مياه النيل. والمستويات التنفيذية، والإدارية، والفنية دون ذلك لا تجرؤ على الاجتهاد السياسي وتحصر نفسها في حدود اختصاصاتها.
لذلك ظلت شئون مياه النيل من ناحية الدراسات، والتعاون الفني، متطورة ولكنها محدودة بسقف سياسي يحصر تطورها , وهنالك تعاون فضفاض بين دول حوض النيل في منظمات مثل الأندوجو والكوميسا وهو تعاون يمنع تطويره غياب اتفاق سياسي شامل في حوض النيل بشأن موارد النيل المائية , إن مسألة مياه النيل سوف تراوح مكانها ما لم يتناولها الاجتهاد السياسي المستنير ويجد لها حلا حاسما , ان الاجتهاد السياسي المستنير كفيل بإحداث نقلة في النقاط المذكورة هنا والعبور من الطريق المسدود إلى الطريق المفتوح السالك."
اننى بعد هذا التناول المستنير والعاقل للسيد الصادق المهدى لا اجد اضافه يمكن اضافتها الى هذه الكلمات , وان كنت اختلف مع المؤلف فى مسألة الكيان الاسرائيلى واياديه الخفيه والذى اعتقد انه لا يفوت اى فرصه فى تعريض الامن القومى المصرى او السودانى اوالعربى للاخطار , الا اننى اتفق تماما مع الطرح التفاوضى بشأن دول المنبع والمجرى والمصب لايا من المجارى المائيه فى اي بلد كان , لذا ارى ان على المسئولين بمصر والسودان ان يأخذوا ما جاء بهذا الكتاب مأخذ الجد والا يتباروا فى السفسطه الكلاميه والاندفاع وراء الجلجله الاعلاميه الخادعه والتى لن تفضى الا الى المزيد من المآسى والحسرات , " فاعتبروا ياأولى الابصار ".
* مستشار بجامعة الدول العربية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق