في واحدة من معارك التاريخ التي لا تنتهي، التقت كتيبة إنجليزية بحامية فرنسية عام 1745، ويومها وجد اللورد تشارلز هاي نفسه على بعد خطوات من غريمه الفرنسي أوتيروث. كان الرجلان متعبان جدا ومنهكان للغاية، لكنهما لم يجدا من التقدم نحو مصيرهما المعلوم بدا. تقدم هاي قليلا ليكسر حاجز الرهبة في نفوس مريديه، ورد أوتيروث التحية الإنجليزية بمثلها، لكن خطواتهما المتعثرة لم تغير من الموقف المتأزم شيئا. كان على أحدهما أن يبدأ بالتلويح إيذانا بالهجوم، لكنهما لم يجدا في عروق أياديهما نبضا يكفي. واستمرت حالة جس النبض بين الطرفين دقائق مربكة.
ولأن اللورد الإنجليزي المتعب كان أدرى بحال جنده، فقد طلب من الحامية الفرنسية أن تبدأ القتال. لكن أوتيروث مرة أخرى رد التحية بأفضل منها، وانحنى قائلا: "سيدي اللورد، نحن الفرنسيين لا نبدأ أبدا بإطلاق النار. لتبدأ أنت." لم يكن الرجلان يتعازمان على وجبة عشاء في الإليزيه، ولا يتناولون الغداء في مطعم تشايناتانج بدورشستر، ولكنهما كانا يضربان أقداح الدماء في صحة إمبراطوريات فاشية تتمدد فوق التاريخ فوق العظام والأشلاء.
لكن الإعياء حتما لم يكن الوازع الوحيد وراء هذا الكرم الدموي المدهش. فقط وجد الرجلان نفسيهما في سبخة موحلة لا يريان للزوجتها يابسة. فقد ظل الرجلان يدوران في حرب همجية كثيران حقل معصوبي الأعين. فجأة، اكتشف الرجلان أن أقدامهما لا تحرز تقدما أو تسجل تراجعا على مقياس التاريخ. فلطالما كسبا أرضا ثم خسراها بقوة السلاح أو قهر المساومات. فقط كانت الدماء تسجل في تاريخهما ارتفاعا مضطردا لا يمكن تخفيضه بحال.
ما معنى أن يقاتل الرجل معذبا مثله قادته الولادة لانتماء، وقادته الحدود للحرب؟ ما معنى أي يرفع أحدهما بارودته ليخترق جمجمة رجل كل إثمه أنه يظن كما يظن هو - أنه يدافع عن بلاده؟ وما معنى أن يفرط القائد برجال لطالما جالسهم وشرب معهم أقداح الشاي الدافئ كي يشبع نهمه البهيمي في القتل والسحل؟ أي بطولة تلك التي يمكن أن يدعيها الرجلان وهما يغامران بترك زوجتيهما وأبنائهما في ذمة تاريخ لا يأبه لذكرى، وسرعان ما يستبدل نياشينهما بالتراب؟
في معركة فونتنوي الحاسمة، وقف قائدان صغيران أمام التاريخ بأسئلة كبيرة لم يجدا لها في قاموس المنطق مبررا، لكنهما وقفا يومها على حقيقة تاريخ غبي تستحثه الأطماع والكروش المنتفخة التي تتكوم خلف الطاولات لتشاهد مباريات العنف من وراء حجاب. توقف القائدان عن الحسم، لأنه لا حسم هناك. فالدماء لا تصنع البطولة، وإنما تصنع تيجانا قبيحة يلبسها قرود التاريخ الهمجيون الذين لا يرون في تخدد الأرض بالدماء غير لوحات فولكلورية ماجدة.
لم يعد المجد للشهداء بعد أن نال لقب الشهادة في ميادين المعارك الخاسرة البلطجية والمأجورون. ولم يعد المجد للشهداء في بلاط تاريخ يلوثه التافهون بدماء الأغبياء ليصنعوا مجدا تافها سرعان ما يتنازلون عنه طوعا أو كرها. ذات فونتنوي أدرك المتعبان من همجية القتل أن خطوات محدودة فوق بلاط مؤقت لا تستحق كل هذه الدماء التي تسفك في شوارع التاريخ.
فمتى يدرك قادة همجيتنا ما أدركه قائدان متعبان فوق ساحة دامية ذات صدق؟ متى يدرك قادة القتل والسحل والحرق أن الدماء التي تراق فوق أرضنا في سبيل التمكين لمكرهم أغلى من كل انتصاراتهم التافهة وعروشهم المؤقتة؟ ليتهم يدركون وليتنا ندرك وليت الزمن يتوقف عاما أو عامين ليمنح الخائضين في دمائنا فرصة لإعادة النظر في خطواتهم العابثة.
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق