هل كنتَ في أيام الثورة المجيدة؟
عليكَ إذاً أنْ تجيبَ علىَ السؤال التالي:
اذكر أسماء خمسة من مئات الشباب الشهداء
الذين قتلتهم بدم بارد كلابُ السلطة، وبعضهم تم القاء جثثهم في مقالب القمامة!
متى كانت آخر مرة قفزتْ مشهدُ القتلي الهمجي
إلى ذهنك؟
هل تعرف أن قاتليهم يأكلون، ويشربون، ويضحكون
ملْ وجوههم، وسقطت قضيتهم كما سقطت من القضاء الشامخ والنزيه آلاف القضايا الأخرى من
قتل، وسرقة، ونهب، واغتصاب، وتهريب؟
في وقت لهيب ما بعد الثورة كان كل مصري
يُصِرّ أنْ القصاصَ هو الحياة، ثم هدأت المطالب، وبعدها سقطت من ذاكرة معظم المصريين
حكايات البطولة!
هل تعرف أنَّ مَنْ ينسى أوجاعَ وآلام وأحزان
الغير سينساه الناس أيضا إذا تعرض لنفس المصير؟
المطلوب منك فقط أن تتخيل للحظة واحدة أن
الشهيد أو فاقد العين من قنـَّـاص حيوان قد يكون أخاك أو صديقك أو.. أنت نفسـَـك؟
هل تعرف أنَّ من تعرضت للاغتصاب أو كشوف
العذرية أو انتهاك الكرامة قد تكون أختك أو ابنة عمك أو جارتك أو.. زميلتك؟
أمُّ الجرائم في مصر هي الذاكرة المثقوبة،
والشهيد لا يموت بعد صعود الروح إلى بارئها، لكنه يموت فقط عندما ينتزع صورتَه من الذهن
أحبُّ الناس إليه، أو أبناء وطنه، أو أصدقاء الصُحبة والطفولة والزمالة!
سيقول قائل: لماذا تتعمد تذكيرَنا في مرّات
لا حصر لها بالشهداء والمعتقلين والمخلوعة أعينهم من قنــَّـاصي السلطة الباغية؟
يعاتبني البعضُ أنني أهاجم بقلمي ذاكرتهم
الضعيفة عن جرائم ظنوا أنها اختفت بعد مرض الثورة الذي لا يعرف إلا الله إنْ كان مرضا
مميتا أم أن هناك علاجا ثوريا مصريا متوافراً فقط في صدور المؤمنين بالوطن؟
سيقول آخر: هذا كلام جميل، لكنني مشغول
في أشياء أخرى، ووقتي لايسمح بأي مَطلب من مطالب الثورة، فنحن نعيش حياة إخوانية طيبة،
فلا تــُـعـَـكـِّـر علينا سلامنا الداخلي بأحاديثك عن المخلوع، والأموال، والقصاص،
والقتلة، والشهداء، وتلال القمامة، ووعود الرئيس، وصفقات الأسلحة، والقضاء الفاسد،
والإعلام العفن، وبراءة جمال وعلاء، والتصالح مع سوزان مبارك بمبلغ زهيد للتصرف في
أموال الشعب المسروقة؟
سيقول ثالث: هذا الرجل عجيب، كلما تمكّن
أحدنا من تخدير ضميره، أيقظته كلماته لبعض الوقت، فلماذا لا يتركنا نستمتع بذاكرة هشــّـة،
وضعيفة، ونـُـعيد تلميعَ حُكــَّـامِنا الجُدد، ونعفـِّـر جباهـَـنا بأحذيتهم الطاهرة،
ونأمل خيرا فيهم، وننتظر منهم النهضة المباركة ولو بعد مئة عام؟
سيظل قلمي، ما شاء الله، موجعاً، ومنبّهاً،
وغارزاً سـِـنـّـه في صدور عشاق النسيان، فأمّة بذاكرة ضعيفة لن تتقدم خطوة واحدة في
طريق الحرية والتمدن والتحضر والإيمان.
أوحت إليَّ بهذه الكلمات صباح اليوم صورة
الجدار المرفوع خارج مدينة كيف الأوكرانية وعليه أسماء آلاف الضباط البولنديين الذين
أمر ستالين بقتلهم في العام الثاني للحرب العالمية الثانية.
تخيّلت جدارا عاليا، وتحفة فنية معمارية
في ميدان التحرير، وعليه أسماء الشباب الشهداء صانعي الثورة المجيدة والمسروقة، لعل
أجيالا قادمة تتذكرهم بعد نسياننا إياهم.
طبعاً الحديث ليس موجّهاً للرئيس محمد مرسي
فهو يستعد للسفرفي طائرة الرئاسة والقاء خطبة الجمعة أو خطبة الرئاسة(وهل هناك فارق
بينهما؟) فقد قيل له أن شرط توليه الحُكم هو تأجيل هموم الشعب، والاستمتاع بالسفر والقاء
خُطـَـب مُطوّلة فارغة الفحوى والمضمون، لكنها ستروق للإخوان المسلمين طالما يستشهد
خلالها بآيات قرآنية.
طائر الشمال
أوسلو في 2 أكتوبر 2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق