مذكرات كمال الشاذلى
بقلم د. محمود عمارة ٢٠/ ١٢/ ٢٠١٠
قولا واحداً: لم يكتب كمال الشاذلى أى مذكرات على الإطلاق كما يشيع البعض!!
ولكنه ترك أدق التفاصيل لمشوار حياته مع شقيقه الأصغر المهندس عاطف الشاذلى الذى رافقه طوال الرحلة، ولهذا تجد لديه أرشيفاً كاملاً من البداية حتى النهاية.. ثم يأتى «كاتب هذه السطور»، الذى اختصه بكثير من الأسرار بناء على رغبته فى أن يحكى ويسرد ويجيب عن كل الأسئلة بصراحة شبه مطلقة..، وقد استنتجت أن عقله الباطن كان يريد أن يفضى ببعض أسراره إلى شخص يثق به بدليل أنه كان أحيانا يقول لى: «هذا الموضوع ليس للنشر»، مما يعنى أنه كان يرغب فى نشر الباقى.. وسوف أحترم رغبته!!
بدأت أول حواراتى معه منتصف الثمانينيات عندما تلقيت منه أول مكالمة يخبرنى فيها بأنه مع د. محمد عبداللاه وحرمه، ولديه متسع من الوقت لزيارتى.. وتصادف أننى كنت داعيا على غداء بمنزلى بضواحى باريس أستاذنا المخرج الكبير صلاح أبوسيف، والكاتب المحترم كامل زهيرى، وأصدقاءنا عبدالعظيم المغربى، المنتدب كمحام لشركة النصر للتصدير والاستيراد بباريس، والكاتبة الصحفية فريدة الشوباشى، وضياء رشوان الذى كان يدرس ويعمل بمكتب الأهرام هناك، والراحل نبيل الهلالى، المحامى، وغيرهم..
وبما أن كل هؤلاء من معارضى النظام فتحججت بأننى بجنوب فرنسا وسأصل غدا.. وتقابلنا فى اليوم التالى على الغداء بمنزلى.. أعقبه لقاء مع بعض أعضاء الجالية استمر ٣ ساعات.. خرج منها بانطباع غير جيد عن هؤلاء المغتربين الذين لا يعجبهم العجب، «كما قال لى بعد ذلك»، لأنه فوجئ بمن ينتقد بقسوة سياسات الدولة على أعلى مستوى.. ومن يعترض بشدة على دور الحزب الوطنى، وحتى على شخصه كأحد أركانه!!
ورغم كل ما جرى فى هذا اللقاء العاصف فكان كلما زار باريس يستأذن من د. رفعت المحجوب، رئيس مجلس الشعب وقتها، لنخرج معا نتحدث فى كل شىء، ونتقابل مع مجموعات من المصريين، خاصة أبناء الباجور فى فرنسا.. ولكنه ظل متحفظاً على أى سؤال يخص الرئاسة والرئيس.. ثم انقطع الاتصال لعام كامل.. خلاله أصبحت مقيما بين فرنسا وأمريكا التى بدأت فيها مشروعا جديدا بولاية فلوريدا.
وفى إحدى الليالى تلقيت تليفوناً منه وكان صوته غاضباً ومعاتباً لمقال منشور باسمى على صفحة كاملة بجريدة الشعب التى كان يرأس تحريرها الأستاذ مجدى حسين، وملىء بالنقد للحكومة والنظام والحزب الحاكم، وكنت وقتها أكتب فقط بالأهرام ومجلة الشباب، واكتشفت أن الجريدة نقلت من كتاب لى بعنوان «بلاغ ضد الحكومة».. وفى نهاية المكالمة أخبرنى بأنه سيأتى إلى واشنطن بدعوة من الحزب الجمهورى الأمريكى ولديه خمسة أيام فراغ يمكنه أن يقضيها معنا فى فلوريدا!!
استقبلته بمطار ميامى الذى يبعد مائة كيلو متر عن مزرعتى باتجاه أورلاندو (بأجمل منطقة بجوار palm biech) الشهيرة..، وخلال الأيام الخمسة بدأ يحكى لى عن رغبته (فى ترك السياسة) التى أجهدته وأجبرته على القيام بأدوار تتنافى مع أخلاق القرية التى تعلمناها، وأنه تعب من هذه الألعاب والصراعات والوشايات التى لا تنتهى، وقد عبر للرئيس مبارك عن هذه الرغبة، ولكن الرئيس أمسكه من ذراعه ومشى معه لمدة ساعة محاولاً إقناعه بأن يستمر معه حتى يخرجا سويا نهاية فترة الرئاسة الثانية فى ٩٣..
وأن الرئيس مصمم هو الآخر على ترك الحكم ليستريح أيضا.. وقد أخبره الرئيس بأنه لو كان الأمر بهذه البساطة لترك الحكم بكل همومه من الآن (١٩٨٥)، ولكن المسؤولية تحتم عليه أن يستمر حتى نهاية الفترة الثانية رغم كل الظروف الاقتصادية المزرية والديون الخارجية التى وصلت إلى ٤٠ مليار دولار.. وخزانة الدولة التى أصبحت على الحديد وعجزنا عن سداد أقساط الديون والفوائد.. مع التضخم الذى وصل إلى ٢٠- ٢٥% ولا يوجد أى أمل فى الإصلاح.. وبالتالى سوف يبحث عن شخصية تصلح لقيادة السفينة لإنقاذها من الغرق!!
أحسست وقتها بأنه بحديثه هذا يبحث عن مكان آخر، أو متنفس جديد يتنقل بينه وبين مصر، أو ربما يقيم فيه ولو لفترات بعد ترك السياسة.. وأيقنت وقتها أن البلد أصبح على كف عفريت، خاصة أننى فى مقابلة مع د. رفعت المحجوب قبل اغتياله، وكنت أحدثه عن المغتربين ومطالبهم فى المشاركة فى الانتخابات، وتمثيلهم بالمجالس النيابية و...و..،
وعندما مددت له يدى بكتاب صادر عن الخارجية الفرنسية يشرح كيفية التعامل مع الفرنسيين بالخارج، أشاح بيده قائلا: «يا ابنى انت شاب ناجح وفى مقتبل العمر.. بلاش تضيع وقتك فى كلام فارغ، وشوف حالك. مصر دى hoples cais».. مما أصابنى بالغضب والإحباط واليأس، لدرجة أننى كرهت من وقتها كل من شارك فى حكم مصر من ١٩٥٢ إلا قليلا!!
وانقطعت عن زيارة مصر لفترة، ثم بدأت أتردد لفترات أكثر نهاية التسعينيات.. لأبدأ مشروعاتى بمصر، ولم أدخل خلالها مكتب كمال الشاذلى طوال مدة وجوده بالوزارة (وزارة عاطف عبيد) التى خربَّت الاقتصاد المصرى ودمرت جهود كل من سبقها وتسببت فى إصابة رئيس الجمهورية بالإحباط، بعد أن كان شعلة نشاط من ١٩٩٢ إلى ١٩٩٨!!
وبعد أن تبلورت فكرة الدفع بجمال مبارك بحجة مساعدة والده كما أعلن د. صبرى الشبراوى بأنه صاحب الفكرة.. ورغم ضلوع الشاذلى فى إقناع الرئيس الذى كان رافضا فى البداية إلا أن الحرس الجديد اتفقوا على إبعاده على مراحل.. بدأت بقسمة وزارة شؤون مجلسى الشعب والشورى.. ثم إخراجه من الوزارة..
ثم استبداله بأحمد عز، كأمين للتنظيم.. ليسترضوه بكرسى المجالس القومية المتخصصة، فقمت بزيارته ومعى صديقى الإعلامى محمد صلاح الذى كان راغبا فى أن يظهر فى برنامجه بالتليفزيون المصرى.. وعند الباب استوقفنى طالبا أن أمر عليه فى اليوم التالى.
لنبدأ لقاءات مطولة أطرح عليه عشرات الأسئلة والاستفسارات بدءاً من علاقته بالزعيم عبدالناصر مرورا بالسادات ثم مبارك.. وعن أول صراع له مع نائب رئيس الوزراء ووزير الكهرباء أحمد سلطان.. ومع الوزير عبدالعظيم أبوالعطا.. وخلافات النائب حسنى مبارك مع وزير شؤون الرئاسة منصور حسن، ثم صراعه مع كمال الجنزورى (لم يحضر عزاءه)، ومع المحافظ عدلى حسين، ثم حديث مطول عن الحرس الجديد.. ورأيه فى توريث الحكم.. وقوله: «بكره تندموا على هذه الأيام».. والقنبلة التى فجرها أمامى عندما قال: «إذا لم يأت جمال أو أحمد شفيق بعد الرئيس مبارك.. فمن يمتلك ٧ مليارات جنيه سوف يحتل الكرسى الكبير»!!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق