لم تجتذب السلفية الكثير من الانتباه إليها قبل تاريخ 11/9، باستثناء الانتباه الذي كان قد توجه نحو الفترة التقليدية الكلاسيكية، أو الانتباه الذي كان قد توجه نحو الفترة الحديثة المبكرة.
وفي المحيط الأكاديمي كانت « الأصولية» هي موضوع البحث والاهتمام منذ اغتيال السادات في العام 1981، ولكن قلة قليلة جدا من العلماء هم الذين درسوا السلفية، بله أن يكونوا قد درسوها بوصفها ظاهرة عالمية وذلك باستثناء بعض الباحثين الفرنسيين أمثال أوليفيه روا وجيل كيبل. والاخرون الذين كانوا قد درسوا الإسلام الحديث على نطاق عالمي، كانوا قد حللوا الإسلام الحديث بوصفه جزءا من الأصولية الجديدة، وجمعوه مع حركات أخرى من مثل حزب التحرير. وحين انتشرت السلفية في أوروبا في التسعينات، اجتذبت بعض الانتباه الأكاديمي، ولكن البحث في السلفية كان محليا جدا أو عاما جدا في أفقه، وبقيت علاقات السلفية مع الحركة العالمية غير واضحة. وقد تغير هذا الأمر بعد هجمات نيويورك 2001، فلقد قيل الكثير وكتب الكثير عن السلفية والوهابية، ولكن الكثير من هذا الذي قيل وكتب كان من خلال موشور « الدراسات الأمنية» أو من خلال الكتب التي تلعب على الرأي العام والتي ساوت بين الوهابية والعنف.
ولذلك يقصد هذا الكتاب الذي ترجم حديثا للعربية (السلفية العالمية: الشبكة العربية للأبحاث والنشر ،2014) الى الاسهام في المناقشة الدائرة حول السلفية الجديدة، عبر معالجة بعض المسائل البارزة التي انبثقت بشأن هذه الظاهرة المعقدة، وذلك من خلال الاستعانة بجمع كبير من الاختصاصيين في ميدان العلوم الإنسانية، ومن جملتهم علماء العلوم السياسية، والمؤرخون، والمتخصصون بالإسلام والأنثروبولوجيا، وكذلك الباحثون المشتغلون في الدراسات الأمنية.
وهنا لا بد من لفت النظر الى نقطة مهمة قبل الخوض في التعريف بمضمون الكتاب، أن هذا النص الغني الذي قلما نعثر على مثيل له في الحقل البحثي العربي على صعيد معالجة عوالم الجماعات السلفية، قد قام على أساس مؤتمر دام لثلاثة أيام عن (السلفية بوصفها عابرة للقوميات) في مدينة ناميغن الهولندية، وذلك بالتعاون بين المعهد الدولي لدراسات الإسلام في العصر الحديث في جامعة ليدن الهولندية والتي تعد من أعرق الجامعات الأوربية، مع وزارة الخارجية الهولندية ومؤسسة البحث الدفاعية النرويجية.
السلفية والتمكين
يسعى الباحث الهولندي رول ميير في بداية الكتاب، الى البحث في أهم السمات التي تتميز بها الجماعات السلفية، والتي تلعب دورا فاعلا في قدرتها على الحشد والتمكين خلال العقدين الماضيين. حيث يرد الباحث هذه الأمور لعدة سمات أساسية منها على سبيل المثال:
– أنها ليست ثورية على نحو صريح، أي أنها لا تتحدى الحالة الراهنة تحديا مباشرا بالزعم بقلب الوضع عن طريق أيديولوجية أجنبية، مثل الماركسية. بل هي تزعم بالأحرى أنها تبني نظاما أخلاقيا أعلى لتطهير البنى الموجودة على مستوى الفرد، الأسرة أو المجتمع.
- أن تمكينها يستمد من زعمها بالتفوق الفكري في المعرفة الدينية، وقلة هم المنافسون الشاملون في معرفة مصادر الإسلام مثل السلفية، ثم أن الالتحاق بـ « الفرقة الناجية» لا يعني فقط الحصول على موقف التفوق الأخلاقي على الاخرين، ولكن يعني أيضا اكتساب معرفة أعلى بالإسلام، وهي المعرفة التي يجب على كل مسلم أن يمتلكها. وزيادة على ما تقدم، فالوصول المباشر الى النص يجعل المرء قادرا على ان يتحدى المؤسسة الدينية، وهي المؤسسة التي تستند على الأغلب الى الفقه من المذاهب الفقهية الأربعة بالإضافة الى الاستناد الى « الإسلام الشعبوي «، وكلاهما مرتبط مع هيكل السلطة المهيمنة أو مع الثقافة السائدة.
- أنها فاعلة نشيطة في الوقت الذي تكون فيه مستكينة، وهي تخول تابعها رجلا كان أو امرأة عن طريق حثهما على المشاركة بفاعلية في الرسالة السلفية وفي نشر الدعوة. ولذلك فهي تمتلك وظيفة اجتماعية فورية ليست من باب اظهار تفوق المرء فقط، ولكن من اظهار ممارستها أيضا في المجال العام والخاص باستخدام الولاء والبراء والحسبة، أو بتعبير أدق مما سبق عن طريق المشاركة في الجهاد.
– مثل، كل الحركات الدينية، وعلى النقيض من الأيديولوجيات السياسية، فهي تملك ميزة هائلة من الغموض والمرونة. ومع أنها تدعي أنها واضحة وصلبة في عقيدتها وفي كفاحها من أجل النقاء، فهي في الممارسة مطواع قابلة للتشكيل، ويسمح غموضها للموالين لها أن يكونوا من الناحية السياسية مساندين للأنظمة وأن يقوموا أيضا برفضها.
سلفيون جهاديون أو ثوريون؟
بعد ذلك يسعى الباحث النرويجي في مؤسسة الدفاع النرويجية توماس هيغهامر، الذي يعد حاليا من أهم المتخصصين في تتبع حكاية الجهاديين في العالم الإسلامي، (وهو ما بدى بشكل واضح من خلال رسالته للدكتوراة التي ترجمت قبل سنوات للعربية تحت عنوان « الجهاد في السعودية») إلى رسم تصور نظري جديد لدراسة الجماعات الإسلامية والجهادية في المنطقة، وذلك من خلال تقديم إطار أكثر تفصيلا لتصور السلوك السياسي للفاعلين الإسلاميين ،حيث يرى أن هناك خمسة أسباب أساسية رئيسية للعمل هي التي تسند معظم أشكال الحركية الفعالة الإسلامية، تنقسم كالتالي:
- الإسلامية «الموجهة الى الدولة» التي تتميز برغبة في تغيير النظام الاجتماعي والسياسي للدولة.
- والإسلامية» الموجهة الى القومية» التي تتمحور رغبتها في تأسيس سيادة على أرض معينة ينظر إليها بأنها محتلة أو تحت هيمنة غير المسلمين.
- والإسلامية « الموجهة الى الأمة» وهي المميزة برغبة في حماية الأمة الإسلامية من التهديدات الخارجية (غير الإسلامية).
– والإسلامية « الموجهة أخلاقيا» التي تتسم برغبتها في تغيير السلوك الاجتماعي للمسلمين في اتجاه أكثر محافظة.
- والإسلامية « الطائفية» هي المحددة برغبة في تخفيض تأثير وسلطة الطائفة المنافسة (شيعي أو سني).
ويشير هيغهامر بعد هذه التقسيمات، أنه من المهم أيضاً أن نبرز أن التمييز بين هذه الأنواع المثالية تمييز تدريجي، وأن كوكبة الأسباب الأساسية التي تدعم سلوك الفاعل هي كوكبة دينامية. وأيديولوجية جماعة إسلامية مقاتلة أو إيديولوجية جماعة إسلامية مقاتلة أو إيديولوجية فرد قد تتغير مع الزمن لتصير أكثر أو أقل إسلامية جامعة. فقد تغير جماعة سببها الأساسي المهيمن وتنتقل، على سبيل المثال، من اجتماعية ثورية بالدرجة الأولى إلى حركة فاعلة جهادية عالمية بالدرجة الأولى، كما كانت الحال مع الجهاد الإسلامي المصرية في التسعينات من 1990، وبكلمات أخرى، الفاعلون سيّالون، ولكن الأصناف نفسها متمايزة.
وأما عن أهمية هذه التصنيفات، فان الكاتب يردها الى كونها توفر توافقا أكبر مع الأنماط الرئيسية للسلوك المبين من الجماعات الإسلامية المحاربة أكثر قرباً مما تعمله التعابير المستندة إلى الثيولوجيا. فمجموعة بخطاب جهادي عالمي واضح وبسجل ماضٍ من السلوك يحتمل أن توجه عنفها المستقبلي إلى هدف غربي أكثر بكثير من احتمال توجيه عنفها إلى هدف حكومي. وبشكل مشابه، من المستبعد أن تلجأ جماعة استرداديه إلى العمليات الدولية، والجماعات المنشغلة في مراقبة الأخلاقية ستلجأ بشكل نادر إلى العنف الطائفي. ولكن هذا، على نحو قابل للجدل، الاستثناء وليس القاعدة.
كما أن هناك منفعة ثالثة مع التصنيفات المتجذرة في سلوك سياسي في مقابل الثيولوجيا، هي أن التصنيفات تسهل دراسة القتالية الإسلامية في منظور مقارن. فإبراز القلب السياسي للحركية الفاعلة للجماعات الإسلامية، يصير من الأسهل بكثير تحديد التشابهات مع الأشكال الأخرى غير الإسلامية من العنف السياسي. وخاصة أن القول بامتلاك الفاعلين الإسلاميين لتفضيلات سياسية متميزة ليس كما يقال إن أسباب العنف الإسلامي هي بشكل حصري سياسية أو اجتماعية اقتصادية. وبشكل واضح، فالأيديولوجيا تهم. ولكن الأيديولوجية، على كل حال-وحتى الإيديولوجية الدينية – ليست هي نفسها مثل الثيولوجيا.
والأيديولوجيا الإسلامية تملك كلاً من البعدين الثيولوجي والسياسي ويمكن أن تحلل من كلا المنظورين. والمدخل المستند إلى التفضيلات ببساطة يبرز السياسة، وهو لا يهمل الدين بالضرورة.
الجهاديون الجدد والطعام الرمزي(النساء(
بعد ذلك يبحث المحاضر الفرنسي في جامعة السوربون محمد علي أدواري في عوالم الحركات السلفية في فرنسا، حيث يرى بأن ما تتسم به هذه الجماعات هو أنها تعد ظواهر حديثة من الطراز الأول، وهي نتيجة لوضع الدين في قالب مادي محسوس والجواب الواعي لأسئلة من مثل: ما هو ديني؟ لماذا هو مهم لحياتي؟
ووفقا لما يقوله أدواري، تكاد السلفية تبلغ أن تكون ظاهرة ما بعد حداثية، ذلك أن السلفي الفرنسي المنفصل عن جذوره الاجتماعية /التاريخية هو فرد معولم لم يبق مهتما بعد الان بجذوره الخاصة الثقافية وبأرض والديه، ويفضل بدلا من ذلك الحراك الثقافي العابر للقوميات من خلال الرغبة في الاستقرار في مدن كوزموبوليتانية مثل دبي أو أبو ظبي.
وفي نفس السياق ترى مضاوي الرشيد أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعة لندن، أن أولاد السلفية الجهادية المعاصرة هم منتجات الحداثة وما بعدها، وما كان يمكن لهم أن يبرزوا في مجتمعات إسلامية تقليدية. فالجهاديون من العصر السابق، من المغرب الى إندونيسيا، كانوا نوعا مختلفا من الناس، وكانوا منتج ضغوط سياسية واقتصادية واجتماعية، ولكنهم لم يكونوا فاعلين عابرين للقوميات، وكان ذلك ببساطة لأن أممهم لم تكن قد تأسست تأسيسا كاملا في وقت جهادهم، كما كانوا رد فعل مباشر على الاحتلال الأجنبي والتغلغل الرأسمالي وتهميش القوى التقليدية. أما المجاهدون المعاصرون فهم ظاهرة مختلفة، حيث يموتون في سبيل الدين، لا الأرض، وهم يشاركون حداثة الغرب، برغم رفضهم الصريح المعترف به ونقدهم لهذه الحداثة.
فهم مثل المجتمعات الرأسمالية الاستهلاكية ما بعد الصناعية، يدعون الى نظام عالمي جديد يهمين فيه التضامن الإسلامي على الحدود العرقية والقومية. وبذلك فهم يشاركون في الأساس المنطقي للرأسمالية الحرة لأواخر القرن العشرين والسوق العالمي الحر ما بعد القومي، البارز في الثيولوجيات السياسية في الليبرالية الجديدة. وعلى نحو أكثر تحديدا، يدمج الجهاديون روح الغرب في تغيير العالم بالعمل، وفي حين يكون العقل والربح مركزيين في مشروع الحداثة الليبرالي الجديد الغربي، يكون الدين حاسما في السرد الجهادي عبر جعل الإسلام مهيمنا في العالم، لا جعله على قدم المساواة مع السرديات الأخرى، وبأسلوب مشابه للطريقة التي تكافح الليبرالية الجديدة الغربية لتكون مهيمنه من حيث هي رؤية للعالم.
وضمن هذا السياق تجري الرشيد مقارنة ذكية بين المصرفي الدولي الناجح الذي ينتقل بين نيويورك، ولندن، والرياض، وسنغافورة، والجهاديين العابرين للقوميات. ففي حين لا يكون المصرفي العابر للقوميات عابرا للقوميات فقط، ولكنه أيضا عواصمي، مغروز في أماكن متعددة مع تقدير منه للمطابخ المحلية لهذه الأماكن، وللنساء فيها ولشبكات العمل، فالجيل الجديد من الجهاديين العابر لنموذج الجهاد الكلاسيكي هم أيضا عواصميون، ينشدون الزوجات من خارج محيطهم الاجتماعي في أماكن إقامتهم الجديدة، ويتبنون الملابس وأذواق الطهي لمضيفيهم المؤقتين، ويبنون شبكات للدعم والتضامن ويتلاشون في تعقيد الجغرافيات الجديدة كما حدث في البوسنة وفي الشيشان.
*كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق