نقطة البداية هى أن الفشل فى مواجهة الجيوش العربية لإسرائيل كان سببا مباشرا فى الانقلابات العسكرية فى سوريا ثم مصر، وساعدت مصر على الانقلابات الأخرى تحت مسمى الثورة فى اليمن وليبيا والسودان والعراق، أماالجزائر فثورتها ضد الاستعمار الفرنسي وإن كان انقلابها بقيادة هوارى بومدين ضد أحمد بن بلة حليف عبد الناصر، قد اثر علي موقف مصر من الصراع الجزائري المغربي . والطريف أن هذه النظم التى شهدت هذه الانقلابات العسكرية تحت ستار الثورات لم تعرف الاستقرار حتى الآن، وهذا هو المناخ المثالى لاستمرار المشروع الصهيونى، رغم انها بررت الحكم العسكري بديلا عن الديموقراطية بانه ضروري لمواجهة اسرائيل.
وبالطبع لم يتوانى دهاقنة الفكر القومى عن إسباغ الثورة على كل هذه الانقلابات لما لمدلول الثورة فى الثقافة العربية من مهابة واحترام على عكس الانقلاب العسكرى . ومادامت الجيوش قد انصرفت عن الطابع العسكرى ووظيفتها فى مواجهة إسرائيل، واهتمت بالسلطة ومغانمها، فلابد أن ترحب إسرائيل بهذا التحول وتتولى واشنطن صقله ووضع الإطار العام له وهو السلام والوئام وتجريد الجيوش العربية من عسكريتها واستئناسها، بل ودعمها فى وظيفتها الجديدة وهى حراسة المستبد وتوزيع الأسلاب والتصدى للشعوب التى تئن من الفقر والاستبداد والظلم وإهدار الكرامة وضياع الحقوق الوطنية والقومية. ومادامت إسرائيل قد أمنت هذا الجانب فى الجيوش العربية، ومادامت صيغة السلام مع النظم هى اتفاق على توزيع الأسلاب، فقد غدا رضا إسرائيل وليس الشعوب عن الحكام هو أساس الشرعية والاستقرار، ولذلك شعرت إسرائيل ببأس شديد من الثورات خاصة فى مصر لأنها تعنى زوال المستبد حليف إسرائيل وانطلاق الشعب فى ثوب جديد واستعادة الوعى بالموارد والضياع وعمق المؤامرة بين إسرائيل من ناحية، ودولة الفساد والاستبداد فى حراسة الدولة الامنية من ناحية أخرى.
يترتب على ذلك أن إسرائيل هى قلب الخطر، لأنها على خلفية أمريكية واسعة تمكنت من تحويل الحكام من مواجهتها إلى التحالف معها وتحويلهم من هذه المواجهة إلى الانخراط فى منظومة السلام الجديدة. ولذلك صارت إسرائيل أهم عقبة فى سبيل الديمقراطية والتنمية ويستحيل أن يصل حاكم إلى السلطة بإرادة شعبية حرة لأن من مصلحة إسرائيل أن تظل هى وحدها النموذج الديمقراطى الوحيد الذى يجمع أبناءه جميعاً نحو برنامج الرخاء والحرية وإبادة هذا العرق العربى بآليات مبتكرة وهى تمكن الجيوش من الحكم بدلا من الحرب وتوزيع الغنائم والتصدى لآمال الشعوب فى الحرية والكرامة ومواجهة السرطان الصهيونى. والتحدى الآن هو إذا كانت إسرائيل عازمة على ازدهار واجتهاد وإبعاد زفرات الخطر الشعبى العربى عنها بتحويل جيوش العرب لحراسة الحكام الذين يتمسكون بصيغة اقتسام الأسلاب، فقد حرمت إسرائيل هذه الشعوب من حقها في المستقبل وفى حراسة جيوشها الوطنية لآمالها فى الحرية والتنمية ووقف انتشار السرطان الصهيونى. هذا الخطاب لايجوز أن بوجه للعامة الذين أسكرتهم الشعارات وأدمنوا الكسل العقلى والالتصاق بالأمر الواقع واجترار الألم، ولكن هذا الخطاب موجه إلى النابهين من أبناء الأمة الذين عليهم أن يجيبوا بشجاعة عن الأسئلة الملحة الآتية:
السؤال الأول: هل هذه الشعوب من حقها أن تنعم بالحرية وتمكن الكفاءات ورفع مستوى الوعى والثقافة العامة والتمتع بثروات بلادها وبقدرات أبنائها؟ الاجابة حتما بالإيجاب، والنتيجة أنه لا مفر من زوال العلاقة الآثمة بين إسرائيل وحكامها وجيوشهم التى تسند الحكام وتقتسم الغنائم، ولن يحقق ذلك سوى الديمقراطية والتنمية. فالديمقراطية تعنى مساءلة الحاكم بممثلين مستنيرين يحركهم الصالح العام فى وسط شعبى مستنير بعيدا عن الغوغائية.
والديمقراطية تعنى اقتسام السلطة ومساءلة الحاكم عن قراراته فى الداخل والخارج وسيادة القانون وضبط وظيفة القضاء ومحاربة الفساد. هذه النتائج هى التى تفك تحالف الفساد والاستبداد مع إسرائيل وتعيد ترتيب التحالفات الداخلية والخارجية ، وهذا ما تستميت إسرائيل فى مقاومته بالتحالف مع الأطراف العربية وأخطرها الجيوش التى تقتسم المنافع والمزايا مع السلطة، ولو كان على حساب فقر الشعب وبؤسه وتعطيل عقله وفقدانه كل فضائل وخصائص الانتماء إلى الإنسانية.
فى التحليل الأخير، إذا كان المشروع الصهيونى سرطانا يقضى على الأمة، فإن هذا المشروع قد فظن إلى أن الجيش هو الذى يغير النظم وهو الذى يحاربها، فعمدت إلى تمكينه من السلطة والمنافع وحراسة السلطان وهو الوجه الداخلى والطرف الآخر فى المعادلة.
النتيجة الثانية هى أن الشعوب لابد أن تفلت من الشحن الإعلامى وأن تدرك أن آمالها فى الحرية والكرامة والاستقرار تبدأ بفك الارتباط بين الحكم والجيش وإسرائيل ومن ورائهم واشنطن الضامن لهذه الصيغة الجهنمية، فيعود الجيش إلى وظيفته، ويزدهر المجتمع المدنى فى مناخ صحى ويسود القانون وتعود الشرطة إلى دورها الطبيعى فى خدمة القانون، حتى تستطيع الدول العربية أن تصنع سلامها فى المنطقة بدون إسرائيل أو معها على أساس سليم، بدلا من التخدير بتميمة أن السلام خيار استراتيجى، والسلام هو المدخل إلى ديمقراطية وتنمية لن تحدث مادام السلام إسرائيليا وأدواته هى الحكام والفساد والاستبداد وسرطنة وظائف الجيوش والشرطة وتدمير الوعى وتعطيل العقل.
وأخيرا، من مصلحة إسرائيل ازدهار الأساطير الدينية فهى أقل خطرا من هذه الوصفة التى تزيل الغمامة عن العيون والعقول.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق