وجاء بكرة. وقديماً قال المثل الشعبي: «بكرة نقعد بجانب الحيط ونسمع الزيط»!.
«الحيط» هو الحائط أو الجدار.. وقد جلسنا بجانبه، نراقب ونشاهد في صمت صخبهم وقد تجاوز عنان السماء. وتمثل هذا الصخب في الخلاف بين أركان الانقلاب، والذي وصلت تداعياته إلى إعلام الثورة المضادة، وتم وقف برنامج «الصندوق الأسود»، على الهواء مباشرة، ولم يكن مقدم البرنامج سوى أداة في يد أحد الأطراف، لذا فكان من الطبيعي أن يتم التخلص منه سريعاً، فاستمراره سيجعل الحرب على المكشوف، ليدخل القوم معركة تكسير العظام، غير المستعدين لها.. فالآن هم في مرحلة الضرب تحت الحزام.
تكمن المشكلة في أن عبد الفتاح السيسي «كالفريك لا يحب شريكاً»، وهو الآن يتصرف على أنه «صاحب الليلة»، وزعيم الانقلاب، وأنه «وحده لا شريك له»، وأن الآخرين يعملون عنده، وتسري عليهم القاعدة التي وضعها: «ستدفع يعني ستدفع»، في معرض حديثه عن صندوق جمع «التبرعات إجبارياً».. المسمى بصندوق «تحيا مصر». في حين أن رجل الأعمال نجيب ساويرس هو شريك في الانقلاب، وليس عاملاً في البلاط. والخلاف راجع إلى عدم فهم كل واحد منهم لدور الآخر.
فساويرس يملك عدة أحزاب ينفق عليها، أطلق عليها البعض «الشركة القابضة للأحزاب». وهو يمتلك، وشريك في ملكية، أكثر من فضائية وصحيفة. وقد مثل الغطاء المدني للانقلاب العسكري، والترويج بأن تدخل الجيش في يوليو (الأسود) كان بطلب القوى المدنية. في حين أن فهم السيسي للموضوع يتلخص في أن الجيش هو الذي أسقط الرئيس المنتخب بقوته، وأن جبهة الإنقاذ، التي تضم أحزاب الشركة القابضة، وغيرها، مثلت الشكل، الخادع للغرب، ودورها ليس أكثر من دور «ستارة المسرح»، لكن بطل المسرحية هو عبد الفتاح السيسي.
من الخطأ بمكان أن يتم تصوير الخلاف على أنه بين السيسي ومقدم برنامج «الصندوق الأسود»، فمقدمه ليس أكثر من «كومبارس» على مسرح الانقلاب، يردد ما يقوله «الملقن» له، المختبئ تحت المسرح، وهو كدور الراقصة غير المحترفة سما المصري، التي استدعت للقيام بمهمة التطاول على الرئيس محمد مرسي وجماعته، وبصفاقة راقصة، وقديماً قال حكيم أسبرطة: «إذا أردت أن تهزم رجلاً حرض عليه امرأة، وإذا أردت أن تهزم امرأة حرض عليها طفلاً».
« سما المصري» عندما تحولت إلى عبء على سلطة الانقلاب، تم إخراجها بشكل مهين، وكمنديل من ورق الكلينكس أدى المهمة المطلوبة منه.. ففجأة اكتشفوا أن فضائيتها تعمل بدون ترخيص، وبالمخالفة للقانون فأغلقوها. وربما أخبروها بأن دورها قد انتهى، فتصرفت على أنها صاحبة وجهة نظر، وليست مستدعاة للقيام بدور. وربما تضخمت ذاتها فذهبت تناقش أصحاب الأمر، فكان لا بد من صفعة تذهب السكرة لتحل الفكرة.
الحق المهضوم لجمال مبارك
الذين يتماهون في الأدوار التي يقومون بتمثيلها ينسون أنفسهم أحياناً، ويتصرفون على أنهم أصحاب رأي. وقبل بزوغ نجم جمال مبارك، تطوع صحافي انتهازي ليس لديه ما يخسره، من كرامة أو حضور، أو حتى اسم، واخترع مشكلة أن الفتى جمال حقه مهضوم فليس من حقه أن يترشح لرئاسة الجمهورية. وكأن هذا الحق كان مكفولاً لعموم المصريين إلا نجل الرئيس. ولما لم يكن مسموحاً بالكتابة عن المذكور لا بالتأييد ولا بالرفض، استدعي الكاتب لمقر جهة سيادية، وهناك طلبوا منه التوقف عن الكتابة، وظن أنهم يختبرون إيمانه بالقضية فكتب مقالاً تالياً، عن الحق المهضوم لجمال مبارك.
عندها اتصل به وزير الإعلام حينئذ صفوت الشريف، ليقول له: «اعرض عن هذا»، فجادله الكاتب بأنه مؤمن حقاً بأن جمال مبارك حقه مهضوم، فجاء رد صفوت حاسماً: «لا تشغل بالك بحقه ابحث عن حقك أنت».
صاحب واقعة جمال مبارك كان متطوعاً، على العكس من «سما المصري»، ولا أظن أنه يتفق في هذا مع مقدم برنامج «الصندوق الأسود»، الذي يتم ترويج مقطع من حلقة له يشيد فيها بساويرس «الذي يعرفه جيداً»، ويعرف عروبته، وينفي عنه تهمة أن يكون قد طلب من الدكتور محمد البرادعي التعاون مع واشنطن والغرب وتجاهل الدول العربية.
أصل الحكاية لغير المتابعين، أن شخصاً لا يمتلك من مقومات العمل التلفزيوني شيئاً، ولأننا في زمن كله عند العرب بطيخ، فقد صار مذيعاً في قناة «القاهرة والناس»، لبرنامج يحمل اسم «الصندوق الأسود»، تقوم فكرته على تقديم مقاطع من تسجيلات هاتفية عبر برنامجه لنشطاء سياسيين، يجري إخراجها من سياقها العام بهدف التجريس والتشويه، وفي حماية من سلطة الانقلاب لا تخطئ العين دلالتها. وهي الحماية التي حمته من المحاسبة والعقاب، لأن الدور الذي يقوم به يخالف أبسط الحقوق الدستورية المكفولة للأفراد في أي مجتمع إنساني، ولو كان من أكلة لحوم البشر!
وعندما صار السيسي رئيساً، بدون برنامج أو خطة لمواجهة الفشل، وتراجعت الدول الخليجية الراعية للانقلاب عن تقديم المساعدات اللازمة له، لم يكن أمامه سوى رجال الأعمال المصريين، وعلى قاعدة فرض التبرعات، التي صارت أقرب لـ «الاتاوات»، التي يفرضها «الشبيحة» في «مواقف» السيارات «الميكروباص».
وبدا الولاء للسيسي لا يكتمل إلا بالتبرع لصندوق «تحيا مصر»، وهو «نبت شيطاني» لم يتأسس بشكل قانوني. وأحد المحافظين قام بخصم نسبة من رواتب الموظفين في إقليمه وتبرعه بها للصندوق. وإحدى الجامعات قررت خصم تبرع شهري لصالح الصندوق من الموظفين فيها. وللتأكيد على أن الأمر ليس إجباريا فقد قيل إن من يرفض ذلك عليه أن يتقدم بطلب لإدارة الجامعة ليصبح التبرع هو الأصل وليس العكس. وبطبيعة الحال فان من يرفض عليه أن يعد حقيبته استعداداً لزوار الفجر الذين سيأخذونه من الدار للنار، لأن رفض التبرع مقرون بعدم الوطنية، والسجن هو المكان الطبيعي لغير الوطنيين!
دعم نظام الإخوان
وعلى «القاهرة والناس»، استكمل صاحب «الصندوق الأسود» مهمته في التطاول على نجيب ساويرس، الذي تم اتهامه بأنه لم يقف بجانب «الوطن» في معركة الإرهاب. وأنه قام بدعم الإخوان بـ 7 مليارات جنيه وشقيقه ناصف أعطى لخيرت الشاطر ملياري جنيه، ولم يدعم صندوق «تحيا مصر».
ربما يقصد الضرائب التي تم دفعها في عهد الرئيس محمد مرسي، بعد سفره لفرنسا وإعلانه من هناك أنه مضطهد سياسيا من قبل النظام الإخواني، قبل أن يقر بالأمر الواقع ويتصالح على قيمة الضرائب المتهرب منها.
ويقول مقدم البرنامج إنه سافر الى باريس ليقبل يده حتى لا يدعم نظام الإخوان، لكنه قام بدعمهم. والمؤكد أن هذا اللقاء كان سابقاً على ما ذكره في حلقة من برنامجه من أنه يعرف نجيب ساويرس جيداً، ويعرف وطنيته وعروبته.
ساويرس اتهم صاحب «الصندوق الأسود» بأنه مخبر، وذلك في تغريدة له على «تويتر». أي يعمل بتعليمات من الأجهزة الأمنية. وصاحب البرنامج اتهمه على الهواء مباشرة بأن من يحركه هو عقيد بجهاز مباحث أمن الدولة.
وكان حديث «الصندوق الأسود» عن مكالمة هاتفية بين ساويرس والدكتور محمد البرادعي في آذار/مارس 2013، أي قبل الانقلاب بحوالي ثلاثة أشهر، كان ساويرس يتحدث عن موقف الفرنسيين، وكان البرادعي يتحدث عن الموقفين الأمريكي والأوروبي مما هو حاصل في مصر وكيف أن مواقفهما تبدو غير واضحة.
وهذه المكالمة كاشفة عن رفض كل من البرادعي وساويرس للحكم القائم في مصر حينئذ، وهو يحسب لهما بالمعايير التي تحكم الثلاثة بمن فيهم مقدم البرنامج.
بيد أن المشكلة تكمن في الدلالة، فساويرس والبرادعي ذهبا يطلبان المدد الغربي لمواجهة الحكم الإخواني. ولا استبعد في ظل هذه الحالة العبثية التي تعيشها مصر، أن يتم الدفع ببلاغ لجهات التحقيق يتهمها بالخيانة والتخابر، فان لم يتحقق الهدف الأعظم بسجنهما، فانه يحقق الهدف المهم وهو اغتيالهما معنوياً، فمصر لا تتسع إلا لشخص واحد اسمه عبد الفتاح السيسي. فنحن أمام مسرحية الممثل الواحد.
لقد نُسب للسيد البدوي شحاتة رئيس حزب الوفد قوله إن نجيب ساويرس انتهى سياسياً. ويبدو أنه لا ينطق عن تخمينات فلديه معلومات في هذا الخصوص.
الرسالة وصلت في برنامج «الصندوق الأسود»، وقبل انتهاء الحلقة تم قطع البث عن «مقدم البرنامج» ليخرج معلناً أن «القاهرة والناس» باعها صاحبها واشتراها نجيب ساويرس، لينفي الاتهام بأنه موجه لا سيما وأن صاحب القناة هو صهر عبد الفتاح السيسي.
إدارة «القاهرة والناس» قالت إن قطع الهواء مرده إلى أن البرنامج خرج على المهنية، مع أن البرنامج اسماً ورسماً هو خارج عن المهنية من أول كلمة. وخروج مذيع عن المهنية مرة لا يبرر فصله نهائياً.. ولدي قناعة أنه سيعود الى موقعه قريباً لكن القوم يريدون أن ينفوا التوجيه في عملية اغتيال نجيب ساويرس.
إنه الانقلاب يأكل نفسه.. فدعنا نشاهد المباراة وكأننا في الملعب.
صحافي من مصر
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق