10 أغسطس 2014

ياسر بكر يكتب : إنهم يريدون الكاتب عرصا

المصطلح " ابن شرعى لثقافة المجتمع الذى يولد فيه، .. عن مصطلح " العرص " اتحدث
.. المصطلح ـ دائما وأبداً ـ هو نتاج عملية طويلة ومتراكمة من العمل والجهد والتفكير وعمليات الصواب والخطأ، وتراكم الخبرات، ومحاولة اكتشاف العلاقات والمتعالقات بين الأشياء والأفعال والأحوال والأشخاص وضبط ملفوظاتها والتدقيق فى مواقعها وربطها بغيرها بروابط اللغة الظاهرة والخفية لوضع حدود وعلامات لسياق فكري وثقافي وحضاري يجسد حالة بعينها بما يحقق التواصل الإنسانى وتوصيف الأحوال وأداء الأعمال ونقل الخبرات.
وفى لحظات فارقة من عمر الشعوب تفرضها عليها ظروفها التاريخية والسياسية والاقتصادبة والاجتماعية، يتم استخلاص الإفراز الطبيعى للغة المُعبر عن واقع الحال ، .. لا أُنكر أيضا أن اللغة أسلحتها الخاصة التى قد تنطوى على بعض الخداع الذى يتخفى وراء أقنعة اللغة من لبس واستعارة وتشبية وكناية ومجاز .. تلك التى يعمد إليها البعض لإخفاء الغرض فى أغلفة براقة من طقوس الكلام ، وغير ذلك من الأساليب التى تجيدها مؤسسات السلطة ( سلطة الحكم ـ سلطة المال ـ سلطة رجال الدين من أصحاب الهوى ) لاحتكار الخطاب وتوظيفه بما يخدم مصالحها ، وقد تلجأ تلك السلطات إلى التوليد القسرى للغة باستحداث كلمات وإدخالها من الباب الخلفى للغة إلى دائرة التداول مثل كلمة " حركة الجيش " بدلاً من الانقلاب، و" نكسة " بدلا من الهزيمة، و" تحريك الأسعار " بدلاً من الغلاء .
وحتى أقطع الطريق على بعض مُدعى التحضر الزائف وغلاة التأنق اللفظى الأجوف لتغطية سوءات واقع عفن؛ فـ " العرص " هى إحدى مفردات لغتنا الجميلة التى تجرى على الألسنة قولاً، وتألفها الأذان سمعاً ، وتعيها العقول فهماً؛ فأنا لم أنحتها من وحل الواقع، ولم أبدعها من خيال يعانى سقماً فقد آلت إلىّ بالميراث عن لغة وطن بما تحمله من قضايا ورموز وإشارات ومعتقدات، .. ورثتها كلمة نابية تنفث مفاهيمها فى الوعى الجمعى؛ وتفرض ذاتها على التداول اليومى إذا ما دعت لذلك حاجة، والعرص هو عسكرى الدرك المُكلف بحماية بيوت الدعارة " الكراخانات " ، والتأكد من حصول الداعرات على تراخيص مزاولة المهنة ، والقبض على الدخيلات عليها .. وشيئاً فشيئا يتحول هذا الشرطى من أداء مقتضيات الوظيفة إلى السقوط فى مستنقع " الدياثة " ، فيُستدرج فى البداية ليقوم بمهنة "المحبظاتى " كما ينطقها أولاد البلد ، وهى أحد مشتقات لفظ " التحبيذ " فيتحول إلى أداة دعاية مدفوعة الأجر لهذه الغانية أو تلك الساقطة فى أوساط طالبى المتعة الحرام، ولينتهى به الحال قواداً؛ لذا كانت عبقرية العامية المصرية فى نحت كلمة " العرص " معبرة عن حالة بعينها، لكن أهلنا فى الصعيد لم يقنعوا بذلك فأطلقوا على العرص لقب " قُرنى " أى التيس ذى القرنين . 
وفى عصور الاضطرابات وأزمنة الانقلابات غالباً ما يطلب القائمون عليها من الكاتب أن يقوم بدور " العرص " فى حراسة ثقافة التخلف وترسيخ الشعور بالدونية فى نفوس الجماهير باعتبار أن الوضع القائم هو الأمثل، وأنه ليس فى الإمكان أفضل مما هو كائن، .. وأن الحاكم هو هبة الإله التى تحسدنا عليها شعوب الأرض لحكمته وتفانيه فى القيام بمقومات أمرنا وشقائه من أجل إسعادنا، ؛ بما يستلزم أن نلهج بالشكر على صنيعه ليل نهار .. وترويج "التصورات الخاصة" التي يطرحها القائمون على السلطة من خلال كتابات مضللة ومنحرفة لإخفاء الحقائق والتمويه أو حجب الأحداث والمعلومات أو تقديمها بصورة انتقائية أو وفقاً لتفسـير وحيد ومطلق فيدافع عن أخطاء السلطة القائمة ويبرر لها ويدافع عن سياساتها حين تخون أو تستبد أو تزور أو تسرق أو تكذب أو تخرج عن الشرعية. 
وعندما يعتصم الكاتب بأمانة القلم وشرف المهنة فهو دائما ـ فى أفضل الأحوال ـ هدفاً للقهر والتضييق فى عمله والتقطيير عليه فى رزقه، وإذلاله بسلاح " لقمة العيش "، واغتيال السمعة ، ناهيك عن الإيذاء البدنى؛ فقد كان أول ضحايا انقلاب 23 يوليو 1952 من الصحفيين الأستاذ على الجلاجيلى الذى ركله الصاغ صلاح سالم بالبيادة فى اسفل بطنه فأصاب مذاكيره فى مقتل، وتلاه المناضل اليسارى شهدى عطية الذى قتل فى معتقلات الناصرية بضربة شومة من ضابط شاذ جنسياً ( سلبى ) هو الرائد إسماعيل همت، ولم يسلم من الاتهام بالجنون محمد كامل حسن للاستيلاء على زوجته الكومبارس الجميلة، .. وقد تلقيت فى بداية حياتى الصحفية رسالة استغاثة من الصحفى الكبير الأستاذ إسماعيل المهداوى ( يرحمه الله ) ـ دون سابق معرفة ـ عندما كان محتجزاً بين جدران السرايا الصفرا ولما عرضتها على رؤسائى قالوا لى : " اهتم بالقضية ، بس شوف لك جرنال تانى !! " ، أما نجيب سرور فحكايته حكاية فقد سمعتها منه شخصياً أكثر من مرة فى السبعينيات من القرن الماض على مقهى أسترا بميدان التحرير وهو يهذى تحت تأثير الخمر ويبوح بأوجاعه فى قصائد كنا نسميها تأدباً : " قصائد متوحشة " جاء فى بعض أبياتها :
( جعان وعريان وعاطل بالسّـبع صنعات
خرمان يا عالم و انا ف ايدى السـبع صنعات )
فقد كان نجيب صحفيا وناقداً وشاعرا ومؤلف مسرحى وسينارست وممثل ومخرج .. ومع ذلك تم االتضييق عليه فى عمله إلى الحد الذى أوصله إلى عدم القدرة على تلبية احتياجات المعيشة اليومية، .. ولم يكتفوا بذلك بل اقتحموا خندقه الأخير " بيت الزوجية "، ودنسوا وعائه؛ فلما فضحهم بأشعاره، أدخلوه مستشفى الأمراض العقلية التى تعرض فيها لأبشع عمليات " غسيل المخ " القذرة التى استعملت فيها ممارسات الإذلال والإهانة والحرمان من ساعات النوم الطبيعى والتعطيش والتجويع والصدمات الكهربائية والعقاقير الكيمائية والتى وصفها بكلماته :
( وقالوا خانكه .. وخانكه يعنى فين يوجع
يعنى عدوّك بقى ع الضرب فى المليان ) 
.. ومحاولة إزهاق روحه بمنشفة الحمام التى أوجزها فى بيتين :
( ومرتين اتشنقت بالفوطة ويومها بصيت فوق
هايقولوا مجنون شنق نفسه وانا الكداب ) 
ذهب الطغاة بجرائمهم ولقى نجيب سرور وجه ربه فارساً ، وبقيت كلماته رايات تزلزل حصون أشباة الرجال وتهز عروش الخونة :
( صبرت ياما ولا أيوب ولا غيره 
يارب تفرجها بس اعفينى م التعريص
وتمر ليام أقول الجوع ده من خيره 
بكره تفرج وبس ما اكونش م البلاليص )
***
فطوبى لمن قضى نحبه ولم يقايض على كلمة حق فى ملأ أو عند سلطان جائر ، وطوبى لمن ينتظر ولم يبدل تبديلا، قابضا على الجمر ولا يشهد بالزور على وطن، .. رافضاً أن يكون "عرصا".

ليست هناك تعليقات: