قدّمت الأوضاع العربية المتغيرة منذ عام 2010 أملاً كبيراً للفلسطينيين وللمقاومة الفلسطينية، وخصوصاً مع استلام جماعة «الإخوان» السلطة في مصر، وازدياد تأثيرهم في أكثر من ثورة أخرى، وبدا الأمر كما لو أن صعود الإسلاميين مرحلة وسيطة لا بد أن تمرّ بها البلدان العربية، وهذه الواقعة الواضحة أنعشت أحلام حركة «حماس» في إمكانيات تغيّر راجح لمصلحة الفلسطينيين، ان كان لا يصبّ مباشرة في صالح القضية الفلسطينية فهو، على الأقل، يضعف أعداءها التقليديين، من نظم دكتاتورية عربية.
لكنّ تحالفاً مضطرداً بين المال السعودي مع «الدولة العميقة» (ممثلة في مؤسسات الجيش والأمن ووسائل الإعلام ورجال الأعمال) ما لبث أن قلب كفّة الميزان وقدّم غطاء واسعاً للثورة العربية المضادة تحت العنوان العالمي الأكثر سماجة وعبثية: «مكافحة الإرهاب».
ومع استنقاع الوضع السوري واستفحال الاقتتال في ليبيا واليمن واستتباب السلطة للمنقلبين على الرئيس المصري السابق محمد مرسي وابتعاد تونس عن المشهد حاول الفلسطينيون تغيير المعادلة بالاتجاه نحو حكومة وحدة وطنية وبتعاون كبير لسلطتي غزة ورام الله، الأمر الذي أشعل إشارات الخطر الحمراء الإسرائيلية وكان لا بد لتل أبيب من كسر هذه السيرورة الاستراتيجية الفلسطينية التي تجري بعكس السير السائد في المنطقة العربية.
وبغض النظر عن التفاصيل التي أدت الى إعطاء الذريعة لإسرائيل للهجوم على غزة فان معركتها العسكرية ضد الفلسطينيين يمكن اعتبارها استكمالاً للعملية العربية الجارية على قدم وساق لـ «مكافحة الإرهاب»، واستمرار هذه الحرب حتى الآن دليل على اختلافها عن الحروب السابقة فهي تستند فعلياً الى جبهة سياسية عربية واسعة لا تختلف في تقييمها السياسي لحركة «حماس» عن تقييم إسرائيل لها، بل إن بعض الحماس العربي ضد «حماس»، على مخاتلته، أشد بذاءة حتى من الحماس الإسرائيلي، والأنكى من ذلك أن محور «الممانعة» السابق المرتبط بالنظامين السوري والإيراني، والذي كان أكثر باعة القضية الفلسطينية صياحاً، انكفأ هذه المرة وخبّأ مسيرات «جماهيره» المؤيدة للفلسطينيين (التي تحوّل قسم منها الى «شبّيحة» يهاجمون مخيّم اليرموك ويجوّعون سكانه) وأطفأ أنوار إعلامه في ما يشبه رد الفعل الكيديّ على انسحاب حركة «حماس» من الساحة السورية كي لا تكون شاهد عيان أخرس على المذابح التي يقوم بها النظام هناك، وهو أمر حصل ما يشبهه، بشكل أو آخر، في لبنان حزب الله، وإيران الإمام خامنئي والحرس الثوري.
وباستثناء الموقفين القطري والتركي (ومواقف شعبية في… أوروبا وامريكا) يبدو ظهر حركة «حماس» اليوم مكشوفاً، ولم تكن تنقصنا إلا إدانة الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون لها على الخطف المزعوم والكاذب لجندي إسرائيلي كي يتذكر الفلسطينيون مقولة محمود درويش «يا وحدنا»، ثم إتحاف مفتي السعودية لنا بمقولة جديدة تخالف كل المنطق السياسي في العالم حيث اعتبر ان المظاهرات التي انطلقت في الدول العربية والإسلامية لنصرة الفلسطينيين في قطاع غزة مجرد أعمال غوغائية «لا خير فيها، ولا رجاء منها».
النافع، في رأي رئيس هيئة كبار العلماء السعوديين المفتي عبد العزيز آل الشيخ هو بذل المال والمساعدات، والمقصود طبعاً المساعدات الرسميّة التي يتصدّق بها حكّام العرب على الفلسطينيين.
ما يقصده المفتي بالطبع إبعاد الجماهير عن الشوارع، فمن يعبّر عن التعاطف مع غزة قد يتجاوزه الى الاحتجاج على أولياء الأمر والسلطان وعلى تخاذلهم عن نصرة الفلسطينيين بل وتآمرهم عليهم.
تترادف الهمجية العسكرية الإسرائيلية الهائلة ضد مدنيي غزة مع هجوم سياسيّ خبيث، فانسحاب الجيش الإسرائيلي دون الوصول الى اتفاق يكسر الحصار عن غزة سيرتّب على قيادة حركة «حماس» وفصائل المقاومة الأخرى مصاعب سياسية، فالاستمرار بإطلاق الصواريخ قد يستدرج ادانات متواطئة شبيهة بإدانة بان كي مون لحماس تستخدم لإفقادها الشرعية العالمية التي اكتسبتها بصمودها البطوليّ وعدم استهدافها للمدنيين، أما إيقاف القصف فسيعتبر قبولاً بهدنة كسيحة غير مشروطة تفقد التضحيات الهائلة التي قدمها الشعب الفلسطيني في حربه الأخيرة معناها.
مقابل الحلف الإسرائيلي – العربي ضد فصائل المقاومة الفلسطينية لا إمكانية لانتصار سياسي يوازي الصمود الفلسطيني العظيم إلا بوقوف القيادتين الفلسطينيتين في رام الله وغزة في حيّز سياسي واحد يقنع الحلفاء الإقليميين بمتانته، يستند الى المشروعية الكبرى للقضية الفلسطينية في الضمير العربي والإسلامي والعالمي، مستفيداً من كل الإمكانيات القانونية التي توفرها إمكانيات محاسبة إسرائيل عالمياً.
بغير ذلك فإن التراجع السياسي سيكون أشد وقعاً من غارات وقصف إسرائيل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق