على إثر تصريح صادم لها، تلقت رئيسة ولاية البنغال الغريية سيلا من التهكمات والانتقادات اللاذعة ليس فقط من خصومها السياسيين، ولكن أيضا من أعضاء حزبها الذين لم يجدوا ما يدافعون به عن دعوتها المستفزة. كانت ماماتا بانجيري قد طالبت المدخنين يوم الثلاثاء الماضي بالإكثار من التدخين من أجل دعم الفقراء الذين استولى سوديبتا سن على أموالهم التي ادخروها في إحدى شركات الشيت فاند مؤخرا.
والشيت فاند مصطلح هندي أصيل ابتدعه فلاحو الهند البسطاء منذ عدة قرون، وهو يشبه "الجمعية" التي يشترك فيها فقراء ريفنا لحل أزماتهم المادية الطارئة والاستعانة على ظروف الحياة القاهرة إلى حد كبير، مع بعض الاختلافات الإقليمية. إذ كان فقراء الهند يضعون كمية معينة من الغلال في بيدر رجل من أهل الثقة، فيقوم الرجل بأخذ حصة من القمح لا تتجاوز نسبتها خمسة بالمئة من المخزون، ثم يقيم مزادا يجتمع فيه المساهمون بغلالهم ليقدم كل واحد منهم تنازلاته ليفوز بتل الغلال. وغالبا ما ينتقل المحصول إلى بيدر أكثر المساهمين عوزا لأن المعوزين يتنازلون عادة عن أكبر قدر من الفائدة للخروج من أزماتهم المستعصية. وهكذا تقل حصص المساهمين تباعا بعد خصم كمية القمح المتبقية من حصصهم الدورية.
وبمرور الأيام، تحولت الغلال البنغالية إلى عملات ورقية، وتحولت بيادر أهل الثقة إلى شركات تجارية تتلقى فائدة محدودة نظير استثمار أموال المودعين مضافا إليها الأموال المتنازل عنها عند كل مزاد. ونمت تلك الشركات كثيرا حتى أصبحت جزءا لا يتجزأ من تاريخ البلاد ومن اقتصادها تحت رعاية النمرة البنغالية الشرسة التي وقفت حائط صد أمام الرأسمال الأمريكي ومنعته من اقتحام مدنها الغربية.
لكن نضال رئيسة البنغال الغربية ضد الشيوعية التي كانت قد تجذرت لعقود في تربة بلادها الفقيرة ودفاعها المستميت عن حقوق الفقراء والمعوزين لم يشفع لها، ولم يستطع المدخنون من أبناء البلاد أن يغفروا لها رفع الضرائب على التبغ عشرة بالمئة لأنها تعرف أن تلك الضرائب ستقتطع حتما من حصة أبنائهم من الحليب ومن الكرامة الإنسانية. واليوم تخرج المرأة على كل الأعراف الكونية لتطالب أبناء شعبها بالإكثار من التدخين كي تتمكن من حل أزمات فقراء الشيت فاند الذين وضعوا أموالهم عند رجل ليس أهلا للثقة.
هكذا تجد الحكومات الفاشلة حلولها العبقرية في الدخان عندما تعجز عن وضع خطط اقتصادية ملهمة. فتراها تفرض الضرائب على دخان السجائر وتستورده، وتغلظ في عقوبة من يتعاطاه فتفرض عليه الضرائب والإتاوات، لكنها رغم ذلك تغرق الأسواق به، وتطالب لمدخنين بصفاقة أن يكثروا من تعاطيه. وهي ثنائية غير مفهومة وازدواجية غير مبررة.
لكن سياسة ماماتا بانجيري لم تفلح هذه المرة، ولم تشفع لها شهادة التايم الأمريكية التي أدرجتها ضمن قائمة المئة العظام عند بني جلدتها، فاضطرت إلى الخروج من مكتبها متوارية خلف ساريها الذي لم يخف عورة حكومتها عن أعين القناصة.
الطريف أن المعارضين لسياستها لم يكونوا وحدهم هناك، بل وقف معهم أبناء حزبها ثائرين بعد أن وضعتهم بكلماتها الطائشة خلف قضبان الاتهام، ولم يستميتوا في الدفاع عنها كما يفعل أنصار الحزب الواحد في بلادنا عادة. وأمام مكتب نمرة البنغال، لم تفرق الكاميرا الراصدة بين قبضات أبناء ترينا مول كونمرس بارتي وقبضات المعارضين.
الدخان ليس حلا إذن أيها الساسة، لأنه إن سمح بتمرير بعض القوانين المفبركة حينا، لن يخدع الشعوب المقهورة دوما. بإمكان الحكومات الفاشلة أن تتاجر بالدخان، فتشتريه وتحرم تداوله، وتبيعه وترفع سعره، لكنها لن تكون أبدا أهلا لثقة أصحاب الأرض الذين حتما سيخرجون حين تنقشع سحب الدخان وتسقط السواري من فوق الوجوه، ليتجمعوا حول ثلاثية العيش المشترك والحرية والكرامة.
عبد الرازق أحمد الشاعر
أديب مصري مقيم بالإمارات
Shaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق