11 أبريل 2013

الكاتدرائية من الرمز والإبداع إلى الجهل والمولوتوف بقلم: على القماش


من قذف الكاتدرائية بزجاجات المولوتوف ليحرقها قد لا يعرف بجهل وتعصب أنها ليست رمزًا دينيًّا فحسب، بل هى أيضًا شاهد وطني وتحفة معمارية وقيمة ثقافية؛ لذا فإن عقوبته يجب أن تتضاعف أربعة أضعاف وأكثر بحجم الاعتداء على رمز دينى له قدسيته وعلى جزء من تاريخ الوطن له دلالته وعلى قيمة جمالية لها رونقها وعلى ثقافة عالية لها مكانتها.
فالكاتدرائية المرقسية بالعباسية - لمن لا يعرفها - تمثل رمزًا دينيًّا ليس لتواجد رجال الدين المسيحى فحسب، بل أيضًا لأن موقعها يضرب فى جذور التاريخ، فهذا الموقع يرجع إلى القرون الميلادية الأولى، وكان يحمل اسم "دير الخندق"، وهو اسم المنطقة التى كانت خارج منطقة القاهرة، والتسمية فى العصور الوسطى، وكان الموقع يضم 12 كنيسة، وأصبح مقرا أسقفيًّا، ثم مقصدًا للرهبان والزوار، ثم أخذ رويدًا رويدًا فى الاندثار، وتحولت المنطقة إلى مدافن قبطية، إلى أن تم بناء دير الملاك فى الموقع، وبعدها تم تشييد مبنى كلية مار مرقس عام 1948، وكان أول مبنى حديث بالمنطقة، وفى عام 1953 افتتحت القاعة الكبرى لخدمة البحث والتعليم الدينى المسيحى، وفى عام 1965 تم وضع حجر الأساس للكاتدرائية، حيث تم الافتتاح عام 1968، وتوالت الإنشاءات بالموقع، مثل المقر البابوى وغيره من المبانى.
أما عن الشاهد التاريخى والوطنى، ففضلاً عن الدور الوطنى لرجال الدين المسيحى، فإن دلالات وضع حجر الأساس للكاتدرائية تؤكد عظمة هذا الدور، فقد قام بوضع حجر الأساس للكاتدرائية البابا كيرليس والرئيس عبد الناصر، وكانت تربطهما مودة عميقة وعظيمة، وساهمت الدولة فى الإنشاءات بمبلغ 150 ألف جنيه، إلى أن تم الافتتاح بدعوة الإمبراطور هيلاسلاسى إمبراطور إثيوبيا، وهى دعوة لها دلالتها أيضًا، من مكانة أقباط مصر فى إثيوبيا، إلى عمق الترابط الجغرافى والاستراتيجى بدولة إفريقية تشرف على جزء هام من منابع النيل. ولعل تلك العلاقات الطيبة كانت سببًا رئيسيًّا فى عدم وجود نزاعات مثلما يحدث الآن.
أما عن الناحية المعمارية، فلعل من حسن حظى أننى تابعت عن قرب أعمال الترميم والتطوير التى حدثت منذ سنوات، وبالتحديد عام 2008، والتقيت بأحد أبرز المعماريين الذين ساهموا فى المبنى، وهو المهندس ماهر أندراوس، ومن الطريف ما لاحظته من وجود أسماء مهندسين مسلمين عملوا فى ترميم المبنى تماما كما شارك المهندس أندراوس فى أعمال العديد من المساجد، ولعل أعجبها وأشهرها المسجد الكبير بالبحرين، الموجودة صورته على العملة البحرانية فئة الـ 20 دينارًا، وأوضح لى أن المعماريين بداخلهم عناصر مشتركة، وعلينا حسن الاختيار، سواء فى المسجد أو فى الكنيسة، فالعناصر المعمارية كثيرة ومتنوعة وثرية، والتعامل معها مثل الشاعر، فالكلمات موجودة ولكنه يختار أحسنها وأجملها وأكثرها تناسبًا؛ ليصير الإبهار بإبداعه.
أما عن عمارة الكاتدرائية، فالعديد من المبانى به لمسات جمالية رائعة، ولعل من أجملها المركز الثقافى القبطى، وهو دليل على عبقرية المعمارى، حيث تمكن من تحويل أو اعادة تأهيل مبنى للخدمات وهو مبنى شبه مصمت إلى مبنى ثقافى عام بما يتطلبه من تصميم خاص فى إعادة تصميم الفراغات الداخلية والبناء والديكور؛ ليجمع بين ملامح الفن القبطى وملامح العمارة الحديثة فى تناغم مذهل، حتى أطلقوا عليه هرم الحضارة القبطية.
وأيضًا تجد تناغم المعمار مع الزخرفة، بداية من السقف الذى يتوسطه شكل أو فكرة سفينة نوح - كما هو فى كثير من الكنائس - بما تشير إليه السفينة من رمز لإنقاذ البشرية، ويضاف إلى ذلك القطع الفنية الرصينة من الخشب المعشق بوحدتها الزخرفية التى يبدو أنها مستوحاة من حاملى الأيقونات والموجودة أيضًا بالعديد من الكنائس والأديرة، مع جمال توزيع الإضاءة، حيث تم وضع نجف روعى فى تصميمه نماذج المشكاوات والقناديل بما يؤدى الوظيفة العملية وأيضًا الجمالية
أما من الناحية الثقافية فمكتبة الكاتدرائية تعد من أجمل المكتبات المسيحية فى العالم، سواء بما تضمه من تقنيات فنية عالية ووسائط سمعية والبصرية، أو بما تتضمنه من مخطوطات ومراجع وكتب تضارع مكتبات فى حجم مكتبة بودليان بأوكسفورد والرسولية بالفاتيكان والوطنية بالنمسا وباريس ومتحف اللوفر
هذه بعض ملامح الكاتدرائية، والتى تعد من أشهر المبانى المسيحية على مستوى العالم، وهى تستحق أن تكون بين مقررات التدريس لطلاب المدارس - مسلمين ومسيحيين - وتيسير الزيارات، وأعتقد أنهم لو عرفوا بتاريخ المواقع وشعروا بالقيم الجمالية، لخفت حدة التعصب، وجفت جذور التطرف
وأعتقد أن الذى حاول حرق الكاتدرائية هو نفس الجاهل الذى حرق المجمع العلمى، ونفس الفاسد الذى حرق محكمة جنوب القاهرة بما تضمه من قضايا، وهو متعصب أعمى لا دين له فهو الذى سعى لتدمير الأزهر والكاتدرائية، ولكن أبى الهلال والصليب أن يفترقا، وسيظلان باقيين - بإذن الله - ما بقى الوطن.

ليست هناك تعليقات: