لم أفاجئ عندما علمت أن قائمة الذين يعملون في الإعلانات بالمؤسسات الصحفية القومية هم 620 صحفياً، جري إحالتهم لجهاز الكسب غير المشروع، فالمفاجأة كانت في عدم " الحساسية الصحفية" من عمل الصحفي بالإعلانات، ووجدنا هناك من يشمرون عن سواعدهم للدفاع عنهم، فهم لم يرتكبوا كبيرة، وإنما ارتكبوا مخالفة، المنوط به التحقيق فيها هي " النقابة"، و" لا يرتب القانون عقوبة علي عمل الصحفي بالإعلانات"، هكذا قالت مرشحة لعضوية مجلس نقابة الصحفيين.. عندها هتفت: تكبير!.
لا تثريب علي المرشحين للانتخابات بالنقابة، الذين غدوا خماصاً وبطاناً، ونفروا خفافاً وثقالاً، دفاعاً عن عمل الصحفي بالإعلانات، فعدد الذين أحيلوا لجهاز الكسب غير المشروع، يمثلون جمعية عمومية مكتملة الأركان، هذا إذا علمنا أن مثلهم في الصحف الخاصة والحزبية، أيقنوا أن الدور عليهم، وللقارئ أن يعلم أن الجمعية العمومية الأولي لانتخاب النقيب والمجلس، لم تكتمل، فقد حضر1200 صحفياً، ومن هنا يصبح من المنطق، أن يكسب المرشحون هؤلاء، ولو بكلام غير مسئول عن أن القانون لم يرتب عقوبة علي عمل الصحفي في مجال الإعلانات!.
الذي يقلقني حقاً، أن يكون كلام الزميلة الذي قطع قول كل خطيب، يأتي عن اقتناع وليس بهدف الدفاع عن هؤلاء لكسب أصواتهم، ولدينا أمية قانونية في الوسط الصحفي، يترتب عليها أن يقع كثير من الزملاء تحت طائلة القانون بسهولة، وأذكر في هذا الصدد، أنني كنت قد تحدثت قبل سنوات مع رئيس تحرير احدي الصحف حول ضرورة تنظيم دورات قانونية للزملاء، حتى لا يمكن للفساد أن يصطاد الصحفيين بسهولة، وأذكر أنه استدعي عدداً من الزملاء بصحيفته ليسألهم عن الفرق بين السب والقذف؟، فلم يجبه أحد، وكان بينهم من تخرج في كلية الحقوق، ففسر الماء بعد الجهد بالماء، إذ قال فتح الله عليه: السب هو السب، والقذف هو القذف، عندها أيقنت أن "المحكمة تنورت".
ربما لم يكن ما قالته الزميلة المرشحة، هو اجتهاد من عندها، وربما مدها به أحد المحامين، من النوعية التي تأتي للمتهم بالإعدام، ثم تسأله عن رأيه في بلاغة المرافعة، وربما مدها بالعبارة لتستعين بها في " قضاء حوائجها" وفي حملة الدفاع عن هؤلاء لتكسب بسهولة 620 صوتاً، لديهم استعداد لتعلق ولو في " قشاية" بعد طلب جهاز الكسب غير المشروع منهم رد هذه الأموال إلى المؤسسات، أو إلى خزانة الدولة، قبل أن يتطور الأمر ليحدد الجهاز أن من سيتعرضون للمساءلة هم من زادت عمولاتهم عن المائة ألف جنيه في السنة، وقد قدر لي الاطلاع علي الكشف الخاص بمؤسسة صحفية واحدة، ووجدت من بين الأسماء من بلغ إجمالي عمولاته نصف مليون جنيه في السنة الواحدة، عداً ونقداً، مثل " ت. أ" بمؤسسة " أخبار اليوم".
لم تكد الزميلة المرشحة تعلن هذه " التخريجة" القانونية العظيمة، حتى وجدتها وقد تناثرت علي أفواه المدافعين، وكأنها نشيد الصباح، وكأنها مقرر دراسي معتمد للتدريس للسادة المرشحين، الذين لا بأس إن دافعوا عن " الاعلانجية"، سعياً وراء أصواتهم، وإنما البأس الشديد هو في أن يكون الدفاع عن قناعة، بأنه لا مشكلة، وأن الأمر ليس أكثر من مخالفة، تختص بالتحقيق فيها نقابة الصحفيين، وأن القانون لا يرتب عليها عقوبة. مع أن التحقيق في الأصل لا يكون إلا لتوقيع عقوبة، فان لم توجد انتفت مبررات التحقيق!.
لقد راعني أن الذين اخذوا علي عاتقهم مهمة الدفاع عن الصحفيين الذين يعملون في الإعلانات، إنما أردوا أن يعطوا القضية بعداً آخراً يتمثل في استدعاء السياسية هنا، فالنظام السياسي الذي يحكم مصر الآن يعادي الصحفيين، لهذا فقد اختلق هذه القضية لتأديبهم، وهنا سمعنا هتاف السادة المرشحين: " هي الحرب إذن"، فلولا الغرض الذي هو مرض، لتم إحالة هؤلاء إلى النقابة لتنظر في أمرهم، والبعض طالب بإحالتهم لمؤسساتهم الصحفية، أي أن المطلوب من جهات التحقيق ان تعطي "القط مفتاح الكرار".
وللعلم، فانه ليست هذه المرة الأولى التي يتم التعامل فيها مع عمل الصحفي بالإعلانات علي انه يدخل في باب " الكسب غير المشروع"، فعندما تمت إحالة الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل لجهاز المدعي العام للاشتراكي، للتحقيق معه في أمور كثيرة من بينها مقاله " تحية للرجال"، في عهد السادات، وجه إليه الاتهام بأنه جلب إعلاناً من أحد أصحاب الأموال قبل ثورة يوليو1952، ورد علي هذا الاتهام بأن المؤسسة كانت تعاني أزمة مالية طاحنة، فاستغل صداقته بهذا الرجل وحصل منه علي إعلان لصالح مؤسسة "أخبار اليوم". وخاطب المدعي العام الاشتراكي، صاحب المؤسسة حينئذ الراحل مصطفي أمين، ومديرها العام ، وقد ردا بخطابات رسمية، بأن " أخبار اليوم" لم تكن تعاني أزمات مالية في هذا العام وقد حققت أرباحاً.
في هذه الفترة، كان نقيب الصحفيين هو كامل زهيري علي ما أتذكر، ولم تقف النقابة لتطالب جهاز المدعي العام الاشتراكي، بإحالة الموضوع إلى النقابة، باعتباره مخالفة، لا يرتب القانون عليها عقوبة، علي النحو الذي قالته المرشحة لعضوية مجلس نقابة الصحفيين، ولم تعتبر النقابة أن الموضوع سياسي، مع أن السياسة تحيط به من كل جانب، لكنها وجدت نفسها، ولم تكن حينها تمالئ السلطة، في مواجهة أمر مخجل، لا يجوز الدفاع عنه، علماً بأنه لم يثبت أن هيكل قد حصل علي عمولة نظير ذلك.
فقانون النقابة، لمن لم يطالعه من أعضاء المجلس، أخذ بعض بنوده من القانون الفرنسي، من حيث تعريفه للصحفي المشتغل أو المحترف مع اختلافات طفيفة في الصياغة، فهو الذي لا يعمل في مهنة أخري، ولم يجرم القانون أمراً كما جرم عمل الصحفي بالإعلانات، جلباً وتحريراً، وتحصيلاً، واعتبر أن مثل هذا الأمر من الكبائر، فإذا مارسه الصحفي يكون قد فقد صفته الصحفية، وصار واجباً علي النقابة أن تشطبه من جداولها ليعمل في المجال الذي يعطي فيه أكثر، والذي يوفر له دخلاً معتبراً، ربما لن يتحصل عليه إذا استمر في العمل الصحفي الجاد، لأن عمل الصحفي في مجال الإعلانات، فيه غبن لزملائه الذين يعملون في أقسام الإعلانات بالصحف، عندما ينافسهم في مجالهم، ويتفوق عليهم بالامتيازات التي يتحصل عليها بسبب عضويته في نقابة الصحفيين، وهذا يمثل إخلالا بمبدأ تكافؤ الفرص.
إن القانون عندما حظر علي الصحفي العمل في مجال الإعلانات، إنما كان يستهدف أن يكون العمل الصحفي خالصاً، فلا يتأثر بما يتحصل عليه الصحفي من إعلانات تنتج لجالبها عمولات، وهذا هو السبب الذي أنتج ظاهرة الصحفي المندوب لمصدره في جريدته وليس العكس، وعندما نطالع المكاسب التي يحصل عليها عدد من الصحفيين المندوبين في الوزارات، من مكاسب، سنعرف أن الأمر صار رشوة، لا أكثر، وهي رشاوى لم تقتصر علي الإعلانات فقط، وإنما تجاوزت ذلك إلى أمور أخري، وبعض هؤلاء لم ترضيهم العمولة التي تصل إلى 25 في المائة في بعض المؤسسات الصحفية لجالب الإعلان، فقد أصدروا نشرات بتراخيص أجنبية، قيمة الترخيص لا تتجاوز الألف جنيه، ليتم طبعها في مطابع بئر السلم، نسخ معدودات، تصدر بهدف الإيداع في ملفات الوزارة أو الشركة التي يعمل الصحفي مندوباً لها، وهو مجال لو فتحه جهاز الكسب غير المشروع، لوقفنا علي جرائم في حق المال العام، تفسر انتقال الصحفي الذي يعمل في الإعلانات من طبقة إلى طبقة، لمجرد عمله في الصحافة لعشر سنوات لا أكثر، ولهتفت زميلتنا المرشحة إن القانون لم يقر عقوبة علي عمل الصحفي بالإعلانات.. فهل هو فعلاً لم يقر عقوبة؟!.
يجب أن نعلم أن اشتغال الصحفي بالإعلانات يفقده هويته الصحفية، لتكون عضويته في النقابة باطلة، وعلي مجلس النقابة أن يتحمل مسئوليته المهنية هنا، ان كان بالفعل غيوراً علي المهنة، وهو لن يتحرك لأننا في مواجهة أشخاص طبيعيين تطوروا بحكم إجادتهم لفن التعايش مع الواقع ليكونوا كائنات انتخابية، فمن يمكنه أن يخسر كل هذه الأصوات؟!
ثم، وهذا هو المهم، فان ما يتحصل عليه الصحفي من العمل في الإعلانات هو كسب غير مشروع، يعرضه للمساءلة القانونية، ويصبح من سلطة جهات التحقيق إما أن تصادر ما تحصل عليه من العمل في هذا المجال، وإما أن تقدمه للمحاكمة، ويصبح علي الزميلة المرشحة أن تحضر معه كل الجلسات وتدفع بهذا الدفع الغريب، وربما تستدعي من لقنها إياه، ليعلنه، لنقف علي كيف تتعامل معه المحكمة.
المخالفة الأدبية هنا، أن الصحفي يتحول إلى ماكينة دعاية للمصدر الذي يمن عليه بالإعلان، فيخلط الخبر بالإعلان، مما يمثل تضليلا للقارئ، كما انه يتغاضى عن نشر الأخبار التي لا تروق للمصدر، ولهذا كثر الفساد في كثير من مرافق الدولة، ولم يصل هذا الفساد إلى الصحف عبر المندوبين المقيمين فيها، بل صار المصدر يتصل بقيادات الصحفية، ويطلب استمرار المندوب " خفيف الظل" في مكانه، إذا تقرر استبداله بآخر، وغالباً فان طلبه مجاب، وهذا ليس وفاء للعيش والملح، ولكن لأن الوزارة ليس لديها استعدادا للبدء مع مندوب مستجد، يحتاج إلى جهد لاستمالته.
ولنا أن نعلم أن كثيرا من الجهات الحكومية لا تتعامل مع مندوبي الإعلانات البتة، فهي لا تستهدف الترويج لنفسها بالإعلانات لتذهب إليهم، وإنما تعمل علي ستر العورات وهذا هو دور الصحفي " مندوب الوزارة في صحيفته"، فضلاً عن أن عملية التلميع تتم بواسطة الأخبار المنشورة، وليس عن طريق الإعلان الواضح الفج!.
إن قضية إحالة 620 صحفياً لجهاز الكسب غير المشروع جاءت كاشفة عن أننا نعيش مرحلة الجهر بالمعصية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق