تأليف: خالدأبوالدهب
المعالجة الدرامية
الزمان :العقد الأخير من حكم الدولة المملوكية
سنة 1501 م : سنة 1517 م
المكان :اقطاعية مملوكية بالقاهرة
الاحداث
(1)
بينما كانت الأيدى الذابلة تدق على الدفوف والأجساد الهزيلة تتراقص من تحت ثياب بالية نسج عليها الفقر رقعا مهترئة مدورة مثل بيوت العنكبوت.. شق جسد عنبر المنبوذ زحام الساحة بين المنزلين وهو يطلق صرخته
- أموت مقتول واشوف فيكى يا بلد راجل
تحرك عدد من الرجال بسرعة.. احاطوا بعنبر ودفعوه بقسوة وعنف الى خارج الساحة وهم يكيلون له السباب
- يا زوج الساقطة
- يا كلب الجبل
- يا عنين الزعار
قاوم عنبر دفع ايديهم وهو يرمقهم بنظرات مستهزئة
-الرجل فيكم يرينى منديله
مقولة مثل الزيت الذى ينصب فوق النار.. كلما رددها كلما ازداد غضبهم اشتعالا ودفعهم له عنفا وقسوة حتى أسقطوه أرضا وتناوبوا فى ركل جسده باقدامهم.. بينما هو لا زال يردد
- الرجل فيكم يرينى منديله يا أولاد الوسخة
- لا تنسى قلبك فى جيب المأذون يا صاحبى
قالها على لصديقه وأبن عمه يحى.. لم يكن يمازحه بقدر ما كان يحذره.. فمن حق على ان يخاف على مستقبل علياء شقيقته.. والتى ستصبح بعد دقائق زوجة ليحى.
حال الحب غريب فى هذه البلدة البائسة.. التى استسلمت لحكم المماليك واستعذبت ظلمهم وطغيانهم.. كل قصص الحب تموت فى ليلة العرس.. كأن العاشقين قد جمعتهما الصدفة فوق وسادة فراش الليلة الأولى.. التى تجعل من اللهفة فتور.. ومن الاشتياق زهد ومن الرغبة رهبة ومن نظرات الهيام نظرات اتهام تظل ملتصقة بعينى الرجل حتى ينسدل جفنيها على الموت وعلى السر الدفين الذى عانت منه ثلاثة أجيال متعاقبة من ابناء الأكرمية التى تنحدر من نسل هاشم الأكرم الفارس الشريف الذى استشهد فى معارك فتح مصر.
كان يحى يدرك ذلك .. فربت على كتف على
- لن يحدث ذلك لانه ليس هناك من أحب كما احببت
كان على يثق فى حب يحى لعلياء.. كما كان يحى يثق فى حب عليا لهند.. فالأربعة.. يحى وعلياء ،وعليا وهند.. قصتى حب حقيقيتين عميقتين .. بعمق ايام سنين العمر ودفئ انفاسه ومشاعره.. نمت قصتى الحب وترعرعتا فى دفئ علاقة اسرية يرعاها شقيقان متحابان هما محمود واحمد العطار.
ساعد ذلك عليا ان يكون الزفاف فى ليلة واحدة.. تخفيضا لنفقات الزواج فى ظل ظروف صعبة تعانى منها عائلة العطار والبلدة كلها.
- لم يترك خصيان المماليك شيئا لأهل البلدة
قالها الشيخ محمود العطار للمأذون بعدما لاحظ تبرمه من الدراهم القليلة التى وضعت فى يده نظير عقد العقدين.. فمسح باصابعه على الدراهم واطلق زفرة حارة
- لا تظلم المماليك يا شيخ محمود .. لأنهم تركوا لأهل البلدة ما لا تخطئه عين
مال الشيخ احمد العطار على المأذون وقال مستغربا
- وماذا تركوا لنا يا مولانا ؟
- الفقر
قالها المأذون وهو يحمل دفتره ويتحرك خارجا .
(3)
من خلف بابين مغلقين.. وبين صمت الخدر والترقب.. اشتعلت مع أعواد البخور أنفاس أربعة.. وأغمضت ثمانية عيون فارتجف قلبان مع شهقة شفتان فى لحظة كلحظة سقوط السيف على رقبة من اهدر دمه.
مقرعة الجنون تخبط فوق رأسين..فتفجر سؤالين..
هل حقيقة ما حدث؟
و كيف حدث ما قد حدث؟
ولا جواب.. لا شىء غير الصمت مع عبق أعواد البخور المشتعل مثل زوج من الانفاس لا تجد من يطفئها.
(4)
فى الصباح.. فى براح الساحة بين المنزلين.. تصافح الوجهان.. دون سلام.. دون كلام.. فما فائدة الكلام وكل وجه قد ارتدى نفس القناع المقيت.. المتخشب.. الصاخب الماجن الاخرس.. المصلوب علي نظرة تقول اقصى واقسى وامر ما يمكن ان يقال.. عن العار وعن الانكسار وعن الصدمة والذل .. دون نبت شفه .
أشاح يحى بوجهه..وكذلك عليا.. بعدما ظنا ان النظرة التى تلقاها كلاهما من صاحبه.. هى نظرة عتاب.. نظرة تأنيب على وعد لم ينفذ وعلى عهد لم يصن.
فى المساء.. هجر يحى فراشه.. ذهب الى البحيرة.. فهناك قد اعتاد ان يلتقى بنفسه كلما شردت منه.. ساعات مضت وهو على نفس الحال.. لم يجدها.. ولن يجدها.. فكيف يجدها هنا وهو قد تركها هناك.. فوق سريره.. تتوسد وسادته.. تحترق بنفس النار التى لم يتمكن من اطفائها بالأمس.. فاشتعل لهيبها فيه.. فى انفاسه ونفسه .. فى ملابسه ولحمه.. وفى لحظات صمته وهو ينهض ويهم بالانصراف لولا انه وجد عليا واقفا أمامه.. يرتدى نفس القناع.. الذى يرسل نفس النظرة التى تدمى قلبه بنفس العتاب.. ففاض به الكيل وواجه عليا وصرخ فيه بنبرة تجمعت فيها مرارة الدنيا
-علياء ليست عذراء يا على
-وهند كذلك يا يحى
-قالها على وقد احتقنت عيناه بالدموع .
(5)
- ليس على الأرض مثل هذا الابتلاء
قالها لنفسه وهو يهيم على وجهه.. اين يذهب بهذا العار؟.. كيف يتحمله؟.. بل كيف تحمله؟.. كيف لم يسقط على الأرض متهشما مثل اناء فخارى عندما صب فى قلبه هذا العذاب وهذه النيران ؟.
عار الزوجة.. عار الأخت.. عار عائلة بأكملها.. بل هو عار العالم كله .. تجمع فى مستنقع قذر وجد نفسه غارقا فيه حتى اذنبه.. مع صوت نباح كلاب الليل وعواء ذئاب الجبل الذى مشت به قدماه حتى وجد نفسه عند سفحه.
-هل حقيقة ما حدث؟
-وكيف حدث ما قد حدث؟
سؤلان مثل شقى رحى تطحن عقله.. فاين المفر؟!
- أموت مقتول واشوف فيكى يا بلد راجل
مثل حبل القى عليه فى اعماق جب ضياعه كان صوت عنبر
التفت نحو مصدر الصوت واطلق استغاثة
- النجدة يا عنبر .. أغثنى يا ابن الأكرمية
انتبه عنبر لوجوده.. سار نحوه.. ولما اصبح امامه مباشرة تأمله
- عريس الأمس ؟
- بل قتيله
- وماذا يريد قتيل الأمس من قتيل ألف ألف أمس مضى ؟
- اريد الحقيقة
- وهل غابت كى تنشدها .. ان الحقيقة موجودة .. ماثلة شاخصة.. مثل قمر الليل.. ومثل شمس النهار.. لكنكم تتعامون عن نورها وتتجاهلون نارها مع انها تحرقكم .
- ذقت النار يا عنبر.. فافتقدت النور .. امنحنى بعض نورك
- لست الشمس ولست القمر.. ما أنا الا مراَة تعكس شىء من النور الساطع هناك
قالها عنبر وهو يشير نحو قمة الجبل
- خذنى معك الى هناك
- لا يصعد الى هناك غير الرجال.. فهل انت رجل ؟
- أحسبنى كذلك يا عنبر
- اذا .. أرنى منديلك
قالها عنبر صارخا.. بصورة أفزعت قلب يحى.. وقلب الليل و قلب الجبل الذى ردد صداها.
(6)
- عليك بالصوم ان أصبح الخوف والذل هما خبز القوم وملحهم
- أسفل الجبل .. الرجال والنساء سواء.. فجميعهم مماليك للمماليك
- الثورة ليست سبب فقركم وهوانكم وأمراضكم.. انما هى علاجا لكل ذلك.. فثوروا تصحوا يا نعاج
- عجبت لقوم ولوا مفسديهم وأطاعوا فاسقيهم ثم ناموا واستكانوا على اعتاب المذلة وتركوا الفئران تعبث بمقدراتهم.. وتأكل لحم صغارهم ثم استيقظوا على أسألة فاجرة.. أين عدل الله .. اين انصافه.. اين رحمته.. وغاب عنهم ان الله لا يستجيب لدعاء مظلوم رضى بالدنية من دينه وقنع بالمذلة والجبن والتخاذل.
- لا تقبل اليد التى تعجز عن قضمها..وابصق عليها حتى تاتيك الفرصة لان تكسرها.
لروح الرجل بكارة مثل جسد الانثى.. لكنها أرق وأطهر وأعف.. فبكارة روح الرجل يهتكها الخوف ..يهتكها الفقر.. يهتكها الجبن و الضعف والنفاق والسكوت على الظلم.. فاستعيدوا بكارة أرواحكم يا أمة من الأرانب .
عالم اخر اكتشفه يحى فوق الجبل.. مئات الحرافيش والمنبوذين والزعار يشكلون هناك كيانا مارقا متمردا على فساد وظلم المماليك.. كثيرون منهم غير عنبر يجمعهم به نفس النسب. مروان ومغبوب وقصى حكيم الجبل وأكبر من فيه سنا.
على كلمات الحكيم قصى تفتحت عينا يحى على الحقيقة المرة.. ان ما تعانيه الهاشمية لا يعود الى طغيان المماليك وفسادهم.. انما يعود الى تقاعس اهل الهاشمية وتفريطهم.. فقد انعم الله عليهم بالأرض وخيراتها والدين وتعاليمه وبفطرة الانسان السليمة والنسب الشريف.. فماذا فعلوا فى مقابل كل ذلك ؟!!.. هانوا وتهاونوا.. جبنوا وفسدوا فانسحقوا تحت احذية دود الأرض ولقطاء الأمم المسمون بالمماليك.
ضيق الله عليهم حتى يرجعون اليه.. ضربهم بطغيان الحاكم وبجبروت العسكر والفقر والجدب والأمراض وقلة البركة فلم يرتدعوا.. لم يصلحوا من حالهم.. بل انهم تمادوا فى هوانهم وانبطاحهم حتى كادوا يعبدون خصاة الأرض من دون الله.. ف ..
- فماذا يا سيدى
قالها يحى وهو ينصت بشدة
- فنزع البكارة من أجساد نسائهم
صمت قصى بعدها.. انتابت جسده الهزيل رعشة فامتقع وجهه المنقبض الأسارير وهو يتابع عصف كلماته الأخيرة بسكينة يحى الذى مادت الأرض من تحته.. وشعر ان الجبل يهتز ويكاد ان ينفجر متفتتا ككرة من البلور لهول ما سمع.
- نزع البكارة من أجساد نسائهم!! .. هل تقصد يا سيدى ان ما حدث لزوجتى وشقيقتى عقاب الهى ؟!!
- نعم.. ما حدث لزوجتك وشفيفتك هو قضاء الله على ارضنا الخانعة
- وما ذنب زوجتى؟.. ما ذنب اختى؟
-الذنب ذنبك انت وذنب زوج شقيقيتك.. فمن يفرط فى بكارة الروح .. لا يستحق بكارة الجسد .. بكارة العرض كرامة من الله لمن يحفظها وانتم جعلتم من كرامتكم بساطا تطأه اقدام كلاب الارض.. من منكم يملك ان يحول بين يد مملوك وصدر زوجته.. من منكم يملك ان يرفع سيفا فى وجه الظلم.. من....
-وهل انا وابن عمى وحدنا من رضيا بظلم المماليك.. يا سيدى.. كل رجال الأكرمية يحيون بهذا الذل
- لذلك.. كل اناث الأكرمية سيحيون بهذا العار
- ماذا قلت يا سيدى
- ما سمعته يا بنى.. لا توجد عذراء واحدة فى كل أرض الأكرامية
- كل الأكرامية!!!
- نعم.. وجيلك هو ثالث جيل يحمل هذه اللعنة
- ماذا تقصد
- جيل أبائك وأجدادك كانا كذلك.. فامك لم تكن عذراء.. وأم أبيك .. لم تكن عذراء هى ايضا.
صمت قصى بعدما وجد يحى يسقط على الارض بظهره.. مغشيا عليه.
(7)
خمسة ايام قضاها يحى بالجبل.. مثل قشة على سطح بئر كلما مر الوقت كلما اختمرت بالفواجع وغاصت نحو القاع .. فاجعة عنبر وفاجعة مغبوب وفاجعة مروان وفاجعة سهيلة عاهرة الأكرامية وسيدة نساء أهل الجبل كما أطلق عليها قصى..أربعة فواجع فى شكل حكايات سمعها هنا على حقيقتها بعد عمرا كاملا من التزييف والتلفيق والتشويه لاصحابها الذين نبذتهم الأكرامية ليس لانهم ملوثون وفسدة وانما لانهم قالوا كلمة الحق فى ارض أدمنت الخضوع فلم تنبت غير الكذب.
لم يلتقى يحى بقصى منذ الليلة التى غاب فيها عن الوعى بين يديه الا مصليا خلفه فى اوقات الصلوات الخمس.. وفى اليوم السادس.. طلب مقابلته وقابله
- لا صمت ولا خنوع بعد ما قد عرفته
تأمل قصى بصيص العزم فى عينى يحى وابتسم
- خلعنا الصمت والخنوع كما تخلع الثمرة قشرتها وكما يخلع الصوفى رداء الدنيا منذ صعدنا إلى هذا الجبل .
- لكن العار هناك يا سيدى.. أسفل الجبل
- والمقاومة هنا.. لا شمس تشرق هنا بغير اغتسال كفى مجاهد بدماء مملوك فاجر
- اجعلنى نذيرا لهم
- لن ينصتون اليك.. سيكذبونك ويرمونك بالباطل وربما قتلوك
- ألن يكون جهادا؟
- خير جهاد يكون
ابتسم يحى مطمئنا والتقط يد قصى وقبلها
- انتظرنى يا سيدى.. فسوف أعود.. ولن أكون وحدى.
(8)
- لا يعرف قيمة الأكرمية الا أكرمى وكرامة الأكرمى لا تصونها الا أكرمية..
- ابن العم لبنت العم.. وبنت الخال لابن الخال..
- اناثنا لسن سبايا كى نمنحهن لأغراب.
لم يفعلوا بنا ذلك حفاظا على النسب الشريف وإنما خوفا من انفضاح الأمر بين رجال العائلات الاخرى.. حتى منديل العرض.. الحمامة البيضاء التى كانت ترفرف ساقطة من شباك غرفة العريس بعدما يلتصق بجناحيها ورقة وردة حمراء.. حبسوها فى قفصها.. لم يسمحوا لأجنحتها ان ترفرف على مدار أجيال ثلاثة.. حتى لا تطير وتفضحهم .. وليس لان منديل العرض عادة جاهلية كما يزعم مشايخ الفتنة .. والفتة.
- ااااااااه يا أرض العار والكذب والخنوع
خرجت منه مثل زفرة مهمومة وهو يقترب من ربع منازل عائلة العطار.. كانت علياء أول من قابل.. وأول من مسح عن عينيها نظرة العار و المذلة
- أرفعى عينيكى يا حبيبتى.. فأنت شريفة.. وإن كان هناك عار.. فهو عارى انا .. لا عارك انت
شق قلب صمت الليل صوته الهادر.. الذى ايقظ اسرته واسرة عمه وكل من فى الربع من أعمام وأخوال وأقارب
- العار عار رجالك يا أكرمية.. دماء بكارات نساءك قد حقنها جبن رجالك فى عروق وأوردة المماليك .. لا عذارى هنا.. لا أحرار هنا.. لا رجال هنا .. لا حياة هنا .. لا شىء غير الموت و الصمت والمقت والكبت والنفاق والانبطاح .. فألف لعنة ولعنة عليكى يا أرض الخوف والعار والعفن.
- اسكتوه
- اضربوه حتى يفيق من سكره
- لقد سحره عنبر
- لقد مسه جان
مناوشات عديدة تعرض لها خلال ساعة.. تعنيف وسب وتطاول بالأيدى.. لكن ما ألمه أكثر هو موقف علىا.. شقيق الزوجة وزوج الشقيقة وتوأم الروح.. وقف عليا من خلف شباك غرفته يتابع ما يحدث له.. مثلما كانا يتابعان فى السابق ما يحدث لعنبر.. شىء اخر أدمى قلبه فى نهاية تلك الساعة.. وهى الصفعة التى نالها من يد والده.. الذى بعد نفاذ صبره طالبه بان يصمت فواجهه أمام الحشد كله وقال صارخا
- هل كانت أمى عذراء يا أبى.
(9)
فى نفس الليلة عاد يحى الى الجبل.. محافظا على صدق وعده للحكيم قصى.. فقد كانت علياء معه.. هى التى اختارت ذلك.. وتحدت ارادة الجميع خاصة شقيقها عليا وهى تهرول من خلف يحى .
شهور مضت عليه هناك.. قضى معظمها فى التدريب وما تبقى منها فى القيام بعمليات انتقامية ضد جنود المماليك .. حتى كانت الليلة التى تمكن فيها من قتل مملوك سكران هاجم بيت أرملة عجوز.. غمس يده فى دم المملوك قبل ان يلتقط خوزته وسيفه ويصعد مع افراد المجموعة الى الجبل وهو يمتطى جواد المملوك.
هناك قابله قصى بسعادة لم يكن يتخيل ان يحمل تعبيراتها وجه كوجه قصى القاسى والمحتد التعبيرات دائما.
- اذهب وقابل زوجتك..
ثم اشار قصى نحو يد يحى التى لازالت دماء المملوك الطرية تلمع عليها
- لا تغسل هذه اليد الا بعد الانتهاء من لقاء زوجتك
فعل يحى كما أمره قصى.. التقى بعلياء.. ومع ان لقاءاته معها لم تنقطع منذ ان صعدت معه الى الجبل.. الا انه قد شعر بانه اللقاء الأول.. اذ انه وجدها قد أصبحت عذراء.
(10)
برغم اعتراض قصى وتحذيره من اصطياد المماليك له.. هبط يحى الى الأكرمية ممتطيا جواد المملوك.... كان يريد ان يمنح الأكرامية وخاصة عليا فرصة اخيرة.. فلما وصل اليها هتف
- أموت مقتول واشوف فيكى يا بلد راجل
ثم دخل بيت عليا..وأطلعه على امره.. طالبه ان يحذو حذوه وان يثأر لهند.. حتى يعيد البكارة الى جسدها وجسد أمه ومن قبلهما يعيد البكارة الى روحه التى اغتصبتها مذلة وهوان حكم المماليك.. ثم اشار نحو هند.. وقال انه مستعدا لان يقتل ألف مملوك من أجلها.. لكن ذلك لن يجدى.. لانها فى عصمة رجل هو أولى بحقها من غيره.. حتى لو كان اخيها.. طالبه بان يحذو حذوه او يطلق هند.. ثم امتطى جواده وعاد الى الجبل.. وهو يصرخ فى كل من يقابله
- الرجل فيكم يرنى منديله
(11)
تلاحقت الضربات التى وجهها أهل الجبل الى عسكر المماليك وأذنابهم.. كان ليحى دورا هاما فى ذلك عندما استحدث طرق جديدة للهجوم وللاغارة على معسكرات المماليك .
عشرات المماليك قتلهم يحى.. وفى كل مرة كان يعود الى الجبل ويرفع يديه المخضبتين بالدماء أمام وجه قصى
- الا تطهر هذه الدماء عرض امى وعرض اختى ؟
- للبيت رب يحميه كما قال جد رسولنا الكريم.. ولعرض امك وعرض أختك رجال هم اولى بحماية اعراضهم والذود عنها
- لكنهم جبنوا
- من أجل هذا استحقوا حياة العار
- الى متى يا سيدى ؟
قالها يحى صارخا فى وجه قصى الذى بدا سعيدا بحماسته .. فقال له وهو يشير للأرض من تحت قدميه
- الى ان يسكر تراب الأرض بدماء اخر مملوك تلوث قدماه أرضنا.. عندها ستعود بكارة الروح الى رجال الأكرمية وبكارة الجسد الى نسائها.. حتى اللاتى سقطت اسنانهن وامتص العجز عودهن .. سيعدن عذراوات مثل حور الجنة.
- اذا.. لنجعلن من أرض الأكرمية نارا
- نعم.. لتكن أرض الاكرمية نارا تشوى لحم الطغاة وتطهر أرواح وأجساد اهلها من نجاسات الخزى والمذلة والعار.
(12)
كان لكلمات قصى فعل السحر فى يحى وباقى الرجال.. الذين شددوا ضرباتهم بصورة أطارت النوم من عينى امير الأكرمية.. الذى عقد مجلسه فى حضور أعوانه من المماليك وأذنابهم من المصريين( محتسبين وملتزمين ونظار) وعدد من مشايخ الأفك يتزعمهم الشيخ عكاشة الذى عرض على الامير خطة التصدى.
فرض ضرائب ومكوث جديدة وسحب بعض السلع الاساسية من الأسواق ورفع اسعار ما تبقى منها تحت مبرر تعويض الخسائر التى تسبب فيها الهجوم والاضطرابات التى اثارها حرافيش وزعار الجبل .. وكذلك حشد المدجنين وأشباه الرجال من حرافيش الاكرمية فى مايشبه ثورة مضادة تنادى بالتصدى لممارسات أهل الجبل الغير مسئولة والتى تنال من أمن وأمان واستقرار الأكرمية.
لم يعر قصى مخطط أمير الأكرمية أدنى أهتمام .. خاصة بعدما سرى التعاطف مع رجال الجبل بين أهل الأكرمية.. فصعد عدد كبير منهم مع زوجاتهم ومن بينهم عليا وهند وزاد عدد المتطوعين فى عمليات تستهدف ضرب دعائم سلطة المماليك .. مما حدا بقصى ان يخطط لعملية كبيرة تستهدف قتل محتسب الأكرمية واختطاف شيخ مشايخ الأفك والضلال المسمى بالشبخ عكاشة.
(13)
انكشف نجاح مخطط الأمير بعد تصدى عدد من رجال الأكرمية لرجال الجبل.. ففشل الجزء الأول من العملية وأفلت محتسب الأكرمية .. فعاد رجال الجبل الى الجبل مع جثث ثلاثة من الرجال بينهم المغبوب .. وجوال يضم جسد الشيخ عكاشة..الذى لم يشفى قلب قصى وضعه فوق الخازوق على أعلى سنة من الجبل.. فبكى وهو يتأمل أجساد الشهداء الثلاثة .. واعتصر قلبه الحزن مع باقى رجاله الذين هالهم ان يقتل الأكرمى بيد أكرمى دفاعا عن المماليك وأذنابهم.. عندها استدار قصى ببطىء لييمم وجهه شطر الأكرمية وهو يطلق صرحة أرتجت لها جدران الجبل وأجساد من فيه من رجال
- نزعت بكوريتكم كما نزعت بكارة اناثكم يا أهل المذلة والخيانة والانبطاح .
(14)
حتى الغطاء الذى كان ينكفىء على عار أهل الأكرمية قد انكشف.. لا مولود ذكر يمتص عار انثى غير عذراء.. ابنه عم كانت او ابنة خال او ذات قربى.. على مدار ثلاثة أعوام لم تحبل امراة أكرمية بولد.. فقبع عنبر فى مكانة أعلى الجبل.. بعدما شعر ان مهمته قد انتهت.. فأهل الأكرمية لم يصبحوا فى حاجة الى من يستفزهم بالتحقير من رجولتهم.. بعدما اصبحت الرجولة والكرامة والشرف محض ذكرى.. محض سراب.. وسط جيل كامل من الاناث والعار والفضيحة.
عدد من الرجال والنساء حملوا اناثهم وصعدوا باكين الى الجبل.. عفروا وجوههم بالتراب تحت أقدام قصى ورجاله.. خيروه بين ان يدعوا الله ان يرفع بلائه عنهم او انهم يئدون اناثهم فى سفح الجبل.. حتى يوارى ترابه عارهم الذى ما بعده عار.
- لا منجاة لكم اليوم من غضب الله.. ارتدوا الى جاهليتكم الأولى حتى يتلاشى وجودكم.. أو ثوروا.
- لا عاصم لكم من طوفان العار والمسخ الا بالغضب والثورة والثأر.. انتفضوا.. اقتصوا ممن ظلموكم ومسخوكم وأهدروا ادميتكم حتى تستحقوا ان تحيوا كراما يا رعاع.
- بكارة اناثكم هناك.. بكورية نسلكم هناك.. ما فقدتموه من كرامة ومن حقوق ومن خير ومن حب ومن حرية هناك.. مصلوب هناك.. مسجون هناك.. فى عروق وأوردة الأمير الفاسد وكبار مماليكه ومحاسيبه وأغواته وخصيانه وكلابه الناهشة فى لحمكم .
قال قصى ما قاله وهو يشير نحو الأكرمية.. وبالتحديد.. نحو قصر امير الأكرمية.. والى هناك.. ألى حيث أشار قصى.. توجهت الجموع الغاضبة
(15)
- هذه من أجل أمى
- هذه من أجل طفلى الذى قتله الطاعون
- هذه من اجل حبيبة وزوجة عاشت دهرا بين ذراعى دون ان ترى رجلا
- هذه من أجل أبى الذى مات مظلوما
- هذه من أجل وليد سوف يولد
-هذه من أجل شمش سوف تشرق
-هذه من أجل غدا سوف يأتى
- هذه من اجل نبتة سوف تنبت.. وثمرة سوف تثمر وسماء سوف تمطر وأرض سوف تحبل بالعطاء
- هذه من أجل الحياة
- هذه من أجل الموت.. تقدس سر الموت حين يحصد أروح الكلاب
-هذه من أجل لا شىء.. فلأنكم لم تتركوا لى شىء.. أصبحت لا شىء.. انها ضربة يسددها العدم الى العدم والمقت الى المقت والخواء الى الخواء.
فى هذه النهار.. كان لكل رجل ليلى.. يبكى عليها .. ويبكى من أجلها.. يسكب دم المملوك الذى يقتله على جسدها .. ويغسل به جلدها حتى يمحو بصمات عصر من المذلة والهوان والتردى .
نهارا أحمرا .. نهارا بلون الدم عاشته الأكرمية.. قاتل فيه الثوار وقتلوا .. تحت ظلال الكرامة والشرف والكبرياء.. حتى خلت الأكرامية من المماليك.. فمن لم يقتل فيهم قد لاذ بالفرار.
وعندما أسبل الليل سدوله.. طاف قصى من فوق جواده بالثوار وقد ارتفعت اصواتهم بالتكبيرات.
- أذهبوا وقابلوا زوجاتكم قبل ان تغتسلوا
- وماذا يفعل من ماتت زوجته يا بنى؟
التفتت اعناق الرجال المحتشدين نحو مصدر الصوت.. وعلت وجوههم تعبيرات التعجب قبل ان تقع أعينهم على صاحب الصوت الذى نادى قصى وهو اكبر من فيهم سنا قائلا "يا بنى "
رجل طاعن فى السن على مشارف العقد التاسع يقف ممسكا بسكين يقطر الدم من نصله وقد سكنت عيناه نظرة حزن عميقة
- أذهب الى قبرها.. واسئلها ان تسامحك يا عماه
مضى العجوز فى طريقه ومن حوله تفرق الرجال نحو منازلهم .. التى انفتحت شبابيكها على مدار ساعات الليل .. ليطلق كل شباك حمامة.. و الحمامة لونها أبيض.. ترفرف ساقطة وعلى جناحيها ورقة وردة حمراء.. بعدما عادت الى نساء الأكرمية بكارة الجسد والى أجساد رجالها.. بكارة الروح .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق