13 سبتمبر 2012

القومية العربية ، والمواطنة ( 1 من 2 ): سورية نموذجاً ... يكتبها : حبيب عيسى



 ( 1 )
           لقد فتح جيلنا عينيه في منتصف القرن المنصرم على حلم الوحدة العربية بين المحيط والخليج ، كحامل لمشروع حضاري تنويري للإنسانية جمعاء ، لم تكن القومية العربية بالنسبة إلينا في يوم من الأيام مشروعاً عرقياً ،  أو عنصرياً ، أو شوفينياً ،أو دينياً ، أو مذهبياً ، أو طائفياً ، ولم تكن القومية العربية بالنسبة لجيلنا في يوم من الأيام نظاماً إقليمياً مافوياً استبدادياً فاسداً قامعاً طاغياً يتسلط على جزء من الأجزاء العربية ، ولم يخطر لنا يوماً أن نظماً تحمل تلك المواصفات ، أو بعضها يمكن أن تتخذ من القومية العربية النبيلة قناعاً لأفعالها الشائنة والجرمية ، بل كانت القومية العربية ، وما زالت بالنسبة للقوميين ، "القوميون حقاً" ، مشروعاً حضارياً ، في مواجهة العرقية والعنصرية والشوفينية ، وعلى النقيض تماماً من العصبوية الدينية والمذهبية والطائفية ، وقبل ذلك وبعده كانت القومية العربية في مقاومة الطغاة والمستبدين وأنظمة الفساد والإفساد والتبعية للأجنبي على طول الخط ، بدليل أننا في خمسينيات القرن المنصرم هجرنا علاقات ما قبل المواطنة ، لننسج علاقات سياسية فكرية اجتماعية ثقافية عابرة للأديان والطوائف والمذاهب والإثنيات والأقاليم ، حتى بات مجرد الحديث الفتنوي في مثل تلك المسائل مثيراً للإشمئزاز والقرف ، كان المشروع القومي العربي النهضوي التنويري التقدمي مشروعاً للأنسنة والمساواة والعدالة والمواطنة السامية وحلماً بالحرية والديمقراطية ، ونبذاً للتوحش والفرقة والظلم والظلام ، لكن هذا المشروع انتكس لإسباب ذاتية وموضوعية داخلية وخارجية ، ليس هنا مجال البحث فيها ، فقط ، نحن هنا ، في مجال معالجة نتائج هذا الانتكاس الذي لم يقتصر على الصعيد السياسي ، وإنما امتد النكوص إلى تدمير النسيج الاجتماعي  للدول الإقليمية ذاتها التي صنعّها سايكس وبيكو ، وامتطى كراسيها أفاقين وقتلة ومعتوهين ، ولو كان البعض منهم يتلطىّ خلف شعارات القومية العربية ، حيث تغولتّ أجهزة السلطات الإقليمية في الاستبداد والفساد بالاعتماد على عصبيات ماقبل المواطنة ، مما أدى إلى إضعاف النسيج المجتمعي ، ووضع المجتمع أمام أحد خيارين : إما الرضوخ خوفاً من أجهزة القمع السلطوية ، وإما الرضوخ خوفاً من تفتيت المجتمع ، وهكذا امتد الخوف من الحاضر إلى المستقبل ، فاستوى الطغاة على عروشهم طيلة النصف قرن الأخير في الوطن العربي بنسب متفاوتة ، وتحت عناوين مختلفة ، لكنهم نسجوا معاً هذا الليل العربي الطويل بتواطؤ بيّن ، واضح أحياناً ومستتر أغلب الأحيان ، مع عصبويات فاسدة ومفسدة في الداخل ، وبصفقات مستترة مع قوى الهيمنة الخارجية .
               ما يعنينا هنا أن بعض الجماعات والأحزاب التي نشأت قومية عربية في الأساس ، قد تورّطت في السيطرة على السلطات في أقاليمها ، ومنذ لحظة سيطرتها على السلطة الإقليمية وجدت نفسها أمام خيارين : إما تسخير ما حصلت عليه من سلطة في خدمة المشروع القومي العربي التقدمي ، وإما تسخير المبادئ والأهداف النبيلة كغطاء للتسلط والفساد في الإقليم ، وقد اختارت الخيار الثاني للأسف ، واعتبرت أن الحفاظ على الإمساك بالسلطة الإقليمية هو الغاية ، وأن جميع الوسائل في هذا السبيل مشروعة ، بل اعتبرت أن كل تمرد على سلطاتها المطلقة يندرج تحت عنوان مؤامرة إمبريالية صهيونية رجعية ، ومنذ تلك اللحظة التي سطت فيها على السلطة التهمت تلك السلطة وفسادها واحتكاراتها أحلام القوميين الذين انخرطوا في دهاليزها ، وأكثر من ذلك فقد التهمت الأنظمة الاستبدادية "التي نُسبت للقومية العربية" التهمت الأحزاب والمؤسسات القومية العربية ذاتها ، ودمرتها في الطريق لتدمير نسيج المجتمع ، وحولتهّا إلى أدوات للاستبداد في مواجهة المشروع النهضوي العربي  ، وتم الطلاق البائن بين النهجين ، فدخلت نظم الاستبداد والطغيان القديمة والجديدة في نادي الأسر الحاكمة والمتحكمة في الوطن العربي مما دعى المفكر القومي العربي المرحوم عبد الله الريماوي لتخصيص كتاب بحث فيه آلية "الإقليمية الجديدة" وأخطارها التي فاقت الإقليمية التقليدية ، والأسوأ في الموضوع كله أن ذلك الفساد والتوحش الإقليمي بات يُحسب على القومية العربية وُينسب إليها ، حتى بات أي حديث عن القومية العربية يرتبط بالاستبداد والفساد والقهر والقمع والمخبرين والقتلة ، بات الحديث عن أنبل قضية في التاريخ العربي المعاصر يحمل شبهة الطغيان والفساد والتخريب والعصبوية المقيتة والتكاذب الوضيع ، حتى باتت ثورة الحرية والعدالة والمساواة تبدو وكأنها في مواجهة القومية العربية رغم أن تلك الثورة هي جوهر القومية العربية النبيلة والإنسانية والحضارية ، فكيف نفرز رجس التوحش والاستبداد عن طهارة المقصد ، ونبل المقصد القومي العربي التقدمي ؟ .
( 2 )
               لقد أحكمت أنظمة الاستبداد الإقليمية ، القديمة والجديدة ، حصارها على المجتمع العربي ، وأباحت موارده للنهب الخارجي ، واستباحت مع مافيات الفساد الداخلي ما تبقى من تلك الموارد ، وانتقلت تلك السلطات من رفع أهداف الشعب العربي بتحرير فلسطين ، والمحتل من الوطن العربي شرقاً وشمالاً وجنوباً وغرباً إلى اللهاث وراء صفقات مع صهاينة فلسطين ، وغير فلسطين ، وكانت نظم الاستبداد تلك ، وخلال مسيرتها الطويلة ، عبر عقود ، تُغلق بإحكام كافة الطرق المحتملة للثورة عبر تغّول أجهزتها القمعية من جهة ، وعبر تدمير النسيج الاجتماعي في الأجزاء ، وفي الكل العربي بالتوازي ، فقد استنفرت جميع أدواتها لنفي وجود المجتمع العربي ، وقد تفلسف في ذلك المتفلسفون ، ثم انكفأت لتنفي "المجتمعات" حتى في الأجزاء التي تحكمها ، فهي الأخرى ، كما يريدها المستبدون مطية للاستبداد ، عبارة عن تكوينات مختلفة مُتخلفة من أقليات وأكثريات ، من حاكمة ومحكومة ، من ظالمة ومظلومة ، وبالتالي ، فإن الحديث عن المواطنة والمساواة في الأجزاء يجافي الواقع الموضوعي من وجهة نظرها ، ومن باب أولى في هذه الحالة أن ينتفي الحديث عن المواطنة في الكل العربي . وعلى أية حال ، فإن الاستبداد مهما كان عنوانه يؤدي إلى تدمير النسيج الاجتماعي في البلاد ، أية بلاد ، كما قال ذو الفقار علي بوتو في أواخر أيامه .
              لقد استمر هذا الواقع المرّ عقوداً من الزمن إلى أن أبدع الشباب العربي في تونس أسلوباً غير مسبوق في علم الثورات حيث ، لا أحزاب ، لا قيادة ، لا رمز كاريزمي ، بالإضافة إلى أجهزة قمع تحصي أنفاس الشعب ، وتتوحش قتلاً وتعذيباً، ومع ذلك الشعب يثور ، ويُبدع أساليب لم تخطر على بال الطغاة ، فيهرب الطاغية ، ويفتح الشباب نافذة في الجدار الذي كان يُعتقد أنه مسدود ، ثم تنتقل الشعلة في أرجاء الوطن العربي ، لتسّتفذ ملكة الإبداع لدى جيل شاب بين المحيط والخليج ، وضع حداً للخوف ، وقرر المواجهة التي مازالت مستمرة ، لكن هل تسلق سلم تلك الثورة من لا يستحق ؟ ، هل تتعرض للسرقة والانحراف ؟ ، نقول : نعم ، لكن إلى حين ، وبسبب من تقصير مشروع النهوض القومي العربي التقدمي في تنظيم صفوفه والتصدي لمهامه ، والتلهي بشتم المؤامرة والمتآمرين ، وكأن على أعداء مشروع النهوض القومي العربي التقدمي أن يقفوا مكتوفي الأيدي وهم يرون الثورة العربية تطيح برموز الاستبداد والتبعية للأعداء ؟ .
( 3 )
              لا أعتذر عن هذه المقدمة ، فلا يمكن فهم ما جرى ، وما يجري في سورية إلا باعتباره قبس من هذا الربيع العربي الذي يلوح في الأفق ، ويجّد السير باتجاهه جيل عربي هجر الخوف ، وغادر حلقات تبرير الهزائم ، وتسرّب من حلقات أحزاب أنهكها القمع وحّولها إلى "هياكل عظمية" عاجزة عن النهوض ، جيل خلع رداء الاستسلام والاستلاب ، وقرّر أن يقلعّ شوكه بيديه ، وأن يستعيد حلم التحرر والحرية ، قد ينتصر ، وقد ُيهزم ، لكنه يحاول ، وهذا شرف عظيم أشبه بالحلم بالنسبة لجيلنا الذي أنهكه الفشل .
              أعرف ، وأعترف أن الكثيرين في الوطن العربي لا يشاركونني هذا التفاؤل ، ومنهم رفاق درب طويل من المعاناة ، وأخوة وأصدقاء ، إنهم جميعاً يتوجسوّن خيفة من مستقبل يبدو غامضاً ، ولعل أكثر ما يخيفهم أن ما يجري من حراك ثوري في الوطن العربي يتم من خارج صفوفهم ، واصطفافاتهم ، وإيديولوجياتهم ، وأساليبهم ، إضافة إلى أن الذاكرة العربية تختزن ما لا يحصى من المؤثرات والمؤامرات الخارجية ، والفتن الداخلية ، لذلك ، ورغم إقرارهم بسوء الواقع ، فإنهم اعتادوا عليه ، فربما يكون القادم ، من وجهة نظرهم ، مغامرة إلى  الأسوأ .
                إنها مخاوف مشروعة على أية حال ، لكن الركون إلى الواقع المأساوي السائد في الوطن العربي لم يعد يطاق من وجهة نظري ، والسكوت عليه هو الذي يقود إلى الأسوأ ، على العكس من ذلك الحراك ضده يفتح الأبواب للخروج من المحنة ، ولعل المخاوف لدى البعض بأن هذه الثورة العربية لا قائد لها ، ولا عسكر، هي ذاتها مصدر التفاؤل بالمستقبل ، ذلك أننا نجد أنفسنا أمام جيل كامل من الرموز لا تابع ، ولا متبوع ، ولا يخيفني أبداً ما يبدو على السطح من أن قوى غير جديرة بحمل الحلم العربي تسلقت سلم الثورة بعد انتصارها في هذا الجزء العربي أو ذاك ، لأن هذا أمر طبيعي في غياب الطليعة الثورية المنظمة ، والسؤال هو : هل كان يمكن لتلك الطليعة أن تنتظم صفوفها في ظل القمع والاستبداد  ؟ ، الآن هناك فرصة لتنتظم صفوفها ، وهي وحدها تتحمل نتائج الفشل ، أو النجاح ، فليس لها بعد الآن أن تلقي فشلها على الآخرين ، إن هذا الواقع الجديد بحد ذاته قيمة عظمى كان حلماً بالنسبة لجيلنا الهرم ، على القوميين التقدميين أن يكفوا عن الشكوى والإحباط وشتم الآخر ، وأن يتقدموا الصفوف إلى الميادين ، فهذا بالضبط ما يحصّن الثورة ، ويسّد الطرق أمام المؤمرات الخارجية ، والفتن الداخلية  .
                إنها ثورة بين المحيط والخليج ، وهي إما أن تنتصر بين المحيط  والخليج أو تهزم بين المحيط والخليج ، والثوار الآن في مصر وليبيا واليمن يدركون اليوم مدى خطورة تعثرّ نجاح الثورة في بقية أرجاء الوطن العربي ، وأثره السلبي على نجاح ثورتهم في تونس ومصر وليبيا واليمن  .
( 4 )
               ولعله من المفيد في هذه المرحلة التاريخية التأكيد أن القومية العربية التي عبرّت عن نفسها مع بداية القرن العشرين في بلاد الشام من خلال جمعيات ومنتديات وإرهاصات مؤسسات شبه حزبية كانت في مواجهة حملة التتريك التي قادتها جمعية الاتحاد والترقي التركية ، ولم تكن القومية العربية في يوم من الأيام دعوة عرقية ، أو عنصرية ، أو شوفينية تميّز بين المواطنين في بلاد الشام ، أو الوطن العربي ، بمقتضى أروماتهم العرقية أو الدينية أو الطائفية أو المذهبية ، وبالتالي فإن القومية العربية انطلقت أساساً من فكرة المواطنة والعدالة والمساواة ، وباتجاه المواطنة والعدالة والمساواة ، وليست دعوة شوفينية داخل المجتمع العربي بين هذا المواطن أو ذاك ، بين تلك الجماعة أو تلك  ، وهذا ما يميزها ، وللذين يهتمون بالتوثيق التاريخي نقول أن نظرة سريعة على رواد ورموز التيار القومي العربي الذين أسسوا لمشروع النهوض العربي القومي التقدمي تبين بوضوح الدور البارز لمختلف فئات المجتمع ، طوائف ومذاهب وإثنيات والأسماء المضيئة في هذا المجال هي الرد المناسب على المهووسين هذه الأيام بتحويل الخصوصية الدينية والطائفية والعرقية والمذهبية إلى حالة مرضية لطمس موقعها الإيجابي في المجتمع ، حتى أننا نؤكد أن الخطر الحقيقي على تلك الجماعات يتأتى من داخلها بالدرجة الأولى ، من طرف أولئك المهووسين الذين يبحثون عن أدوار لأنفسهم على حسابها خارج إطار الوطن والمواطنة ...
              وهكذا ، فإن القومية العربية أساساً هي دعوة توحيد المجتمع في مواجهة العدوان الخارجي ، وفي الوقت ذاته توحيده في مواجهة جميع أشكال التمييز والامتياز والتهميش والإقصاء والاستبداد في الداخل العربي ، وبالتالي عندما وقف الرواد يقاومون مخططات تقسيم الأمة ، فلأنهم رأوا في ذلك التقسيم انتقاصاً من الحرية والمساواة والعدالة والمقدرة على التطور ، ووضع الأجزاء ، والكل في إطار التبعية للخارج ، وإنتاجاً لعصبيات الاستبداد والفساد والتخلف في الداخل ، وقد أثبتت أحداث القرن المنصرم صحة هذا الموقف ، حيث لم تؤد التجزئة إلى 22 دولة في الوطن ، وإنما أدت إلى تخريب النسيج الاجتماعي داخل تلك الدول أيضاً .
              وأنا هنا لست في وارد الحديث عن أرومات الأعراق والقبائل ، ومسار الأديان ، فمجموع تلك الأرومات تشكل التاريخ الوطني الجمعي للمجتمع كله ، أما بما يتعلق بالأديان ، فنتمسك بالخطاب الإلهي الأخير للبشرية "فليؤمن من يؤمن وليكفر من يكفر" ، على مسؤوليته في الدنيا والآخرة ، وعلى أن يتم ذلك كله في إطار المواطنة ، وعدم التمييز ، وليتمسك كل بعقيدته دون الانتقاص من خيارات الآخر ، وهذا ما عبّر عنه الثوار الذين قاوموا التتريك أولاً ، ثم واصلوا الثورة لمقاومة الاستعمار الغربي بعد ذلك بعزيمة أشد ، والقوميون العرب ، القوميون ، القوميون حقاً ، هم الذين رفضوا الانخراط في السلط الإقليمية ، ورفضوا الانخراط في فسادها وإجرامها وطغيانها وانضموا إلى صفوف الثوار عليها ، ورفضوا أن تكون شعارات القومية والتحرر والنهوض غطاء للاستبداد والطغيان ، لقد كان القوميون التقدميون في الوطن العربي أول ضحايا نظم الاستبداد والقمع التي تقنعت بالشعارات القومية ، والزنازين شاهد على ذلك ، وهنا لابد من تقدير المواقف الحكيمة والنبيلة التي تنكبّها المناضلون القوميون التقدميون العرب يتبّرأون من نظم الاستبداد ، نجد هذه المواقف النبيلة في مختلف أرجاء البلاد من قبل حكماء ، حلماء أفاضل واجهوا الجهالة ، والعصبية الجاهلية ، ووقفوا بصلابة ضد جميع أشكال الفتن الطائفية والمذهبية والعرقية أياً كان مصدرها من درعا والسويداء والقنيطرة ودمشق وحمص وحماه إلى طرطوس واللاذقية وأدلب وحلب والاسكندرونة والرقة ودير الزور والحسكة مروراً بالبلدات والقرى في هذا الوطن ، يتبرأون من الأعمال الجائرة التي اقترفها ، ويقترفها السفهاء ، أياً كانوا ، وممن يقرّها ، كائناً من كان .
                 نقول ذلك للتأكيد أن كل جماعة بشرية في سورية سواء كانت دينية أو طائفية أو مذهبية أو عرقية أو مناطقية ، وبعد عقود من  الاستبداد والظلم باتت محكومة بواحد من خيارات ثلاثة ، الأول : ويعبر عنه المناضلون الذين رفضوا الاستبداد وقاوموا النكوص عن المواطنة وهؤلاء وجدوا أنفسهم مجردين من الأدوات والوسائل التي تعبر عن المجتمع من أول الأحزاب السياسية إلى آخر مؤسسات التعبير عن الرأي ، وقد وجدوا أنفسهم طيلة عقود بين قمع الطغاة والأجهزة وبين عصبويات القاع التي نمّاها الاستبداد ، والثاني : هو الكتلة الواسعة من الجماعة والتي استسلمت للاستلاب وانكفأت للفردية والمصالح الذاتية وبالتالي هجرت السياسة ، ويعبر عنها عادة بالأغلبية الصامتة ، أما الثالث فلم يكن خياراً ، وإنما كان نتاج إكراه مادي ومعنوي بالفعل تنفيذاً للأوامر الوظيفية في مؤسسات السلطة ، أو برد الفعل من قاع المجتمع على ظلم وقهر وقمع فائق ، وفي الحالتين سواء الفعل ، أو رد الفعل ، فإننا نكون بمواجهة أفعال لا إرادية تحدث غريزياً منفلتة من العقل والقيم ، ففي الحالة الأولى نكون بمواجهة فعل تنفيذاً لأوامر ، وفي الحالة الثانية نكون بمواجهة رد فعل هو نتاج غضب وثأر يجعل الإرادة معيبة عيباً جسيماً ، وقد راعت جميع الأنظمة والقوانين والشرائع التعامل مع الأفعال الناتجة عن إرادة معيبة أو إكراه أو غضب أو أهلية ناقصة أو مفقودة ، وبالتالي فإن تلك الأفعال وردود الأفعال تُنسب لأصحابها أولاً على سبيل الحصر ، وللقوى التي مارست الإكراه ثانياً ، ولا تُنسب لجماعة بشرية بعينها قد تكون هي ضحية إكراه مادي ومعنوي عنيف ، يترتب على ذلك الانطلاق من قاعدة تحرّم تعميم الحكم على جماعة ، ما ، فالعدالة ، وخاصة في مراحل المحن والفتن يجب أن تكون بصيرة بحيث تحدد الفاعلين حصراً لوضع حد للاحتراب الأهلي ، فلا توجد جماعة بشرية في الوطن ملائكية ، والأخرى شريرة ، وفي كل جماعة موضوعياً مناضلين شرفاء ، وسفهاء مجرمين ، كرماء وفاسدين ، وإن كانت النسب تختلف بحسب الظروف الموضوعية ، وتلبية لحاجة الطغاة في توزيع المظالم على المجتمع بذلك ، وبذلك فقط يمكن تحصين النسيج الاجتماعي من التهتك .
( 5 )
                  إن الواقع الموضوعي في الجمهورية العربية السورية ، والظروف الاستثنائية التي تمر على البلاد ، وكذلك استمرار احتلال أجزاء من أرض الوطن في الجولان ، والاسكندرونة ، وانكفاء مشروع التحرر العربي على امتداد الساحة العربية خلال النصف قرن الأخير ، هذا بمجمله انعكس سلباً على الدولة ، ومؤسسات المجتمع ، وأعاق ، ويعيق تطور المجتمع ، وتقدمه ، كما أدى من حيث النتيجة إلى الاستئثار بالسلطة ، وبالتالي انكفاء قطاعات واسعة من المجتمع عن المساهمة في الشأن العام ، والسياسي منه ، بخاصة : خوفاً ، أو عجزاً ، أو يأساً ، أو إحباطاً .
           لهذا ، ولأسباب أخرى كثيرة ، وتفاصيل لا حصر لها ، فإن جميع القوى الحية في المجتمع مطالبة الآن باستنهاض ، وتجديد شباب أدواتها ، وبرامجها ، لمواجهة الفتن ، والفساد ، والاستغلال ، والمساهمة في بناء مؤسسات الدولة على أسس ديمقراطية ، ومنهجية تنظفهّا من الفساد ، والشخصنة ، والمحسوبية ،  وتطبيق النظام العام وفق أسس العدالة ، والمساواة ، وصيانة حقوق الإنسان الأساسية ، وحرية الرأي ، والتنوع السياسي ، وتحديث القوانين ، والأنظمة ، والقواعد الدستورية ، بما يتلاءم مع التطورات ، والمتغيرات الاجتماعية والسياسية  ، والتي بموجبها يتم رفع القيود عن تطور المجتمع الذي ينهض بذلك مُستنداً إلى مبادئ الحرية ، والمساواة ، والعدالة ، بدون استثناء ، أو امتياز ، أو إقصاء ، أو استئصال ، أو إهمال ، أو قهر ، كما أن الظروف الراهنة تفرض تنظيم جميع القوى الحية في المجتمع ، واستنهاضها للمساهمة في التخطيط الشامل ، والبناء المتوازن ، ومواجهة جميع أشكال استغلال الإنسان للإنسان ، أو ظلم الإنسان للإنسان ، أو استبعاد الإنسان للإنسان ، أو طغيان الإنسان على الإنسان ، أو إقصاء الإنسان للإنسان ، أو عدوان الإنسان على الإنسان ، أو إيذاء الإنسان للإنسان ، بهذا ، وبهذا فقط ، ينهض المجتمع ، ويساهم كل مواطن بدوره في بناء صرح الجمهورية .
               بمقتضى هذا كله ، بالاستناد عليه ، وبالانطلاق منه ، ولتغيير الواقع بمقتضاه ، يجب أن يتداعى جميع المواطنين ، لوضع حد نهائي وحاسم للمحاولات التخريبية التي تستهدف تحطيم النسيج الاجتماعي عمودياً في الجمهورية ، ووضع حد نهائي للنكوص عن المواطنة ، ذلك أن البناء في المرحلة الانتقالية لا يمكن أن يباشره مجتمع مفكك .
              هنا نعود على بدء ، لتحديد العلاقة بين استعادة المجتمع لعافيته وإرادته وبناء المؤسسات التي تتيح له التعبير عن إرادته ، وتنفيذ هذه الإرادة ، وبين مشروع النهوض القومي العربي التقدمي ، فقد أثبتت التجارب المرة على امتداد العقود الماضية أن الأحرار وحدهم يمكن أن يكونوا الحامل لمشروع النهوض القومي التقدمي من أول التحرر إلى آخر درجات الحرية والتقدم ، فخلال نصف قرن من الاستبداد في الوطن العربي المبرر بالمواجهة والتحرير والوحدة ، لم تتحرر الأرض ، ولم تتحقق خطوة وحدوية واحدة ، بل باتت وحدة كل جزء مهددة تهديداً شديداً ، ولم تتحقق تنمية ، ولا عدالة اجتماعية ، وبالتالي فأن الحرية أولاً ضرورة لتحقيق الحرية أخيراً ، وبهذا تكون الحرية والديمقراطية مطلب أول للقوميين التقدميين ، نقول ذلك ليفرز القوميين التقدميين من بين صفوفهم بكل حزم أولئك الأدعياء الذين لا ينخرطون في ثورة الشعب العربي في الأجزاء ، وفي الكل العربي من أجل الحرية ، والذين يدعون للاستنقاع تحت ظل الاستبداد بحجة المؤامرات الخارجية ، والبدائل ، وكأن الأوضاع الراهنة التي استدعت ثورة الشعب العربي لم تكن نتاج مؤامرات خارجية وداخلية على مشروع النهوض القومي التقدمي ، نعم ، إن المؤامرات الخارجية والداخلية على الأمة ومشروعها النهضوي لم ، ولن تتوقف ، ومحاولات احتواء الثورة في الوطن العربي وحرفها عن مسارها والعمل على إجهاضها في أوج نشاطها ، لكن هل الموقف القومي التقدمي يكون بالتهجم على الثورة والثوار والوقوف مع الطغاة ؟ ، أم يكون بالانخراط ميدانياً في صفوف الثوار لتصويب المسار ، وتحصين المناضلين والإضاءة على الطريق الصحيح حتى لا يتوه مشروع النهوض القومي التقدمي مرة أخرى في متاهات وارتكابات مخذية ، والأدهى من ذلك أن بعض المحسوبين على المشروع القومي العربي في بعض البلدان التي حررها الربيع العربي من الاستبداد ، وأطلق ألسنتهم بعد عقود من الخرس ، يستعملون ألسنتهم هذه الأيام في التهجم على ثوار الربيع العربي في باقي الأجزاء ، عوضاً عن مراجعة أنفسهم ومحاسبتها لأنهم فشلوا في تنظيم صفوفهم وحماية الثورة في بلدانهم من المتسلقين ، ففشلوا في أن يكونوا الحامل لطموحات الشعب في بلدانهم باتجاه الحرية والتقدم والبناء ، وبالتالي فشلوا في أن يكونوا حادياً لثورة الأمة بين المحيط والخليج ، فبماذا ، ولماذا هم قوميون ؟ .
               لقد هُزم مشروع النهوض والتقدم القومي العربي التقدمي ، وانحسر على مدى النصف قرن الأخير على يد الأدعياء من داخله ، هُزم من داخله أولاً ، ومن ثم تمكنت منه المؤامرات ، خارجية كانت أو داخلية ، والحل يبدأ بالفرز داخل صفوفه والتخلص من الذين كانوا على مدى عقود عقبة كأداء أمام بناء مؤسسة قومية تقدمية ذات فعالية نضالية تؤهلها لتكون حاملاً للمشروع النهضوي القومي التقدمي ، إنها فرصة تاريخية للفرز الآن ، بالضبط الآن ...
              ثم نعود إلى النموذج الذي اخترناه ، للحديث عن بنيته الاجتماعية ، وهل هناك أساس موضوعي يمكن أن تعتمد عليه المؤامرة بتدمير النسيج الاجتماعي في سورية  ؟ .
"للحديث صلة"
E-mail:habeb.issa@gmail.com     

ليست هناك تعليقات: