شبكة البصرة
نزار السامرائي
في 9 نيسان/أبريل 1972 وقع الرئيس العراقي الراحل أحمد حسن البكر، وأليكسي كوسيجين، رئيس وزراء الاتحاد السوفيتي حينذاك معاهدة الصداقة والتعاون العراقية السوفيتية، ودخلت العلاقات بين البلدين مرحلة جديدة من التعاون الاقتصادي والتسليحي، أو على الأقل هذا ما كان يجب أن يتحقق، غير أن تطابقا أو تقاربا في المجالات السياسية لم يكن من الميسور الوصول إليه، ذلك أن السوفييت لم يكونوا بحاجة إلى أصدقاء بقدر حاجتهم إلى وكلاء محليين ينفذون نيابة عنهم إقليميا، استراتيجيتهم الكونية أو يخوضون حروب النيابة، فقد حرصوا على الحصول على قاعدة بحرية في أقصى شمال الخليج العربي، وحصرا في ميناء أم قصر العراقي وذلك لمجرد إرسال رسالة للولايات المتحدة، بأن الخليج العربي لم يعد بركة تطفو فوقها الحيتان الأمريكية، ولكن هذه الفكرة لم تخطر ببال العراق في أن يكون مجرد أداة لإزعاج هذا الطرف أو ذاك، فقد كان طبيعيا أن المشروع سيتعثر في خطوته الأولى، فالقيادة العراقية كانت تنظر إلى العلاقات مع أي بلد في العالم ومهما كان وزنه أو ثقله في العلاقات الدولية، على أساس مبادئ التكافؤ التي ثبّتها ميثاق الأمم المتحدة، لذلك فإنها نظرت إلى المعاهدة الثنائية على أساس عدم المس بسيادة العراق باعتباره بلدا صغيرا مقارنة بمكانة الاتحاد السوفيتي وقدراته الاقتصادية والتكنولوجية، ومساحته الهائلة وعدد سكانه الكبير، ومكانته الدولية كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن الدولي.
ولما وصلت محاولات الاتحاد السوفيتي إلى طريق مسدودة، فقد طلب الحصول على تسهيلات مستمرة لأعمال الصيانة للأسطول الحربي السوفيتي في منطقة الخليج العربي والمحيط الهندي، إلا أن أقصى ما قدمه العراق من مرونة في هذا الخصوص، هو استعداده لقبول زيارات ودية غير منتظمة لقطع الأسطول السوفيتي، من أجل التزود بالوقود والتموين، وهذا ما حصل فعلا ومع ذلك فإن الاتهامات كانت توجه للعراق بلا توقف عن منحه قاعدة بحرية للاتحاد السوفيتي على شواطئه القصيرة على الخليج العربي، ولكن تلك الوصلات لم تكن ذات تأثير حقيقي على مواقف العراق الاستراتيجية، غير أن رفض العراق للطلبات السوفيتية المتكررة، انعكس بكل سلبياته على التزامات الاتحاد السوفيتي اللاحقة تجاه العراق، وخاصة في مجال التسليح والتجهيز، بل أن موسكو لم تتردد في تزويد إيران بصفقات أسلحة كبيرة وخاصة في مجال الدبابات السوفيتية من طراز T55 وكذلك بناء مجمع أصفهان للحديد والصلب، في تفسير بمنتهى السذاجة لتبرير تعاون موسكو مع شرطي الخليج العربي الشاه السابق وكيلا عن التحالف الغربي، فقد قالت الزعامة السوفيتية إن بناء هذا المجمع سيتيح فرصة حقيقية لنمو طبقة البروليتاريا الإيرانية بما يخدم مستقبلا فرصتها للقفز إلى السلطة، على الرغم من إيران الشاه كانت جزء من منظومة التحالف الغربي.
وبعد توقيع المعاهدة، بدا إقليميا وكأن الاتحاد السوفيتي سجل ثلاث نقاط تفوّق حاسم على الولايات المتحدة والتحالف الغربي، وخاصة بعد توقيع ثلاث معاهدات بين موسكو وكل من القاهرة وبغداد ودمشق، ولهذا حاولت الزعامة السوفيتية توظيف إيجابيات المعاهدات الثلاث، في تحركات سياسية ودبلوماسية، كان من بينها فكرة قيام الزعيم السوفيتي ليونيد بريجنيف، بجولة في المنطقة كانت بغداد إحدى محطاتها، حينها لم تكن في العراق محطة اتصالات عبر الأقمار الصناعية، ولأن الزعامة السوفيتية كانت حريصة على أوسع تغطية إعلامية للزيارة على مستوى العالم وخاصة الولايات المتحدة وأوربا الغربية، ومن أجل استعراض مكانتها في الشرق الأوسط أمام شعوب الاتحاد السوفيتي والكتلة الشيوعية، فقد باشر مندوب لمحطات الإذاعة والتلفزيون والصحافة السوفيتية، وغالب الظن أنه أحد رجال المخابرات، الذي كان يغطي نشاطاته كممثل لجهاز الاستخبارات السوفيتية KGB، بالعمل مندوبا لأكثر من جهاز إعلامي، باشر اتصالاته مع المؤسسة العامة للإذاعة والتلفزيون وكنت حينها أشغل وظيفة، مدير الأخبار فيها، من أجل تأمين جهاز للاتصالات مع القمر السوفيتي، وقيل وقتها إن السوفييت سيتركون المحطة الأرضية المتنقلة، هدية للحكومة العراقية، ولكن الزيارة ألغيت بصمت كما تمت تحضيراتها بصمت أيضا، وطوي بذلك ملف التغطية الإعلامية.
يسجل المراقبون أن مسؤولين اثنين فقط من الزعامة السوفيتية فقط قاما بزيارة للعراق، الأولى كانت زيارة أنستاس ميكويان نائب رئيس الوزراء السوفيتي، وتمت تلك الزيارة أثناء حكم عبد الكريم قاسم، والذي كان قريبا من الحزب الشيوعي، ومع ذلك لم يمنح السوفييت الحزب الشيوعي العراقي وجاهة مثل هذه الخصوصية، أما الزيارة الثانية فكانت لألكسي كوسيجين رئيس الوزراء السوفيتي وأحد الأضلاع الثلاثة للترويكا السوفيتية، وتمت الزيارة في ذكرى تأسيس حزب البعث العربي الاشتراكي في 7 نيسان/أبريل 1972.
ولكن السوفييت ظنوا أن العراق فقد بوصلته القومية، وأصبح جزء من منظومة التحالف الشرقي في مرحلة اشتداد الحرب الباردة، وفي لقاء صحفي أجري مع الرئيس الراحل صدام حسين حينما كان نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة، سأله صحفي سوفيتي عما تعنيه معاهدة الصداقة والتعاون العراقية السوفيتية بالنسبة للقيادة العراقية، وما تفرضه على العراق من التزامات؟
فكانت إجابة صدام حسين قنبلة سياسية هائلة، قطع فيها كل الشكوك التي يمكن أن تفرضها المعاهدة لدى الطرفين أو تتركه من تفسيرات، فقال لو أن المملكة العربية السعودية تعرضت لغزو سوفيتي، فإن الجندي العراق سيكون في الصف الأول الذي يقاتل قوات الغزو وحتى قبل الجندي السعودي، لا شك أن الموقف العراقي القوي الذي عبر عنه صدام حسين، كان بمثابة صدمة للسوفييت، ولكن الانتماء القومي للعراق يأتي بالمرتبة الأولى ولا يتقدم عليه شيء آخر، ولم يكن موقفا استعراضيا من صدام حسين بقدر ما كان يجسد معنى التطابق في الفكر القومي بين النظرية والتطبيق، ربما ذهب بعض المراقبين إلى الاعتقاد بأن تصريحات صدام حسين لم تمر من دون أن تترك أخاديد متعرجة على طريق العلاقات الاستراتيجية بين موسكو وبغداد.
عروبة الخليج وأزمة الانتماء القومي
يعاني القوميون، والبعثيون منهم بشكل خاص في منطقة الخليج العربي، من انحرافات مؤكدة في تعاطيهم مع ملف الأطماع الإيرانية بالمنطقة، أو من تشوهات فكرية قادتهم إلى الوقوع في المنطقة الضبابية وانعدام الرؤية السياسية والفكرية السليمة، وخاصة في مواجهة ما تخططه إيران من برامح لإلحاق البحرين بالإمبراطورية الفارسية الجديدة، لتنطلق منها إلى سائر الأراضي على الساحل الغربي للخليج العربي، وخاصة المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية.
وقع القوميون والبعثيون في البحرين في خلط لا يخلو من الغرض السيء أو عدم صدق الانتماء للفكر القومي، أو الغباء السياسي في أحسن التفسيرات التي يمكن أن تطلق عليه، عند تعاطيهم مع موضوعة الإصلاح السياسي في البلاد، ومن حيث لم يدروا فقد وضعوا أنفسهم في خدمة المشروع الإيراني التوسعي، الذي ينظر بعين واحدة إلى ما يسمى بأحداث الربيع العربي، ففي الوقت الذي تبنت قيادة البحرين برنامج الإصلاح السياسي في البلاد، وفي الوقت الذي مارست أعلى درجات ضبط النفس، مع محاولات العبث بالأمن الوطني وتخريب مؤسسات الدولة، من جانب أطراف مدفوعة للتحرك بفتوى الولي الفقيه، لإثارة الاضطراب تمهيدا للصفحات اللاحقة، بصرف النظر عن وجاهة الشعارات المرفوعة والتي تحركها دوافع هي في واقعها أبعد ما تكون عن أهداف إحداث إصلاحات سياسية في البلد، ومدى تطابقها مع ما يحصل على الأرض من وقائع، فلماذا البحرين بالذات؟ وهل كانت الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية في إيران، حيث تصدر فتاوى التظاهر ضد الحكومة البحرينية، في أي وقت من الأوقات وخاصة منذ وصول الخميني إلى الحكم في طهران في شباط/فبراير 1979، أفضل مما هي في البحرين؟ أو متقاربة معها؟ ومتى كان الإيرانيون مصدّرين للديمقراطية إلى الوطن العربي؟ بل هل لديهم شيء منها أصلا؟
ملفات التدخل الإيراني
يتساءل كثير من مراقبي المشهد السياسي في الخليج العربي، عن دوافع القوى القومية (إن كانت صادقة في انتمائها للفكر القومي)، في الوقوف مع البرامج الإيرانية التوسعية، وعما إذا بقي لتلك القوى شيء من صدق الانتماء للفكر القومي، عندما تتراصف مع دولة إقليمية غير عربية تحمل فكرا قوميا تصادميا وعدوانيا مع العرب على وجه الخصوص، ويريد استئصال الآخر بكل ما لديه من قوة مادية توفرها الدولة، من مال سياسي وأجهزة قمع، وتجربة عرب الأحواز تعطي الدليل على طبيعة النهج الإيراني تجاه الوطن العربي، وعلى مدار الساعة، عما يتعرضون له من قمع باسم الدين تارة، وبسطوة التشيع تارة أخرى، فهل هي مازوكية سياسية تعاني منها الحركات التي تطلق على نفسها صفة قومية وتريد جلد الذات، وتجربة المجرب مما أوقعته إيران على عرب الأحواز، وسائر القوميات التي تم إلحاقها بقوة السلاح إلى الكيان الإيراني.
وهل يعطي وقوف القوميين والبعثيين في مطلع السبعينات من القرن الماضي، ضد مشروع الشاه لضم البحرين إلى امبراطوريته الفارسية، حق الانتقال إلى الموقف التاريخي المضاد بالوقوف مع المشروع نفسه، بعد أن غير أرديته، ونزع قبعة الكاوبوي، وارتدى العمامة؟ وهل رأى قوميو البحرين وبعثيوها أن المتاجرة برصيد الماضي يمكن أن تجلب أرباحا مفتوحة؟ وهل كانوا في موقفهم السابق على خطأ فأرادوا إصلاحه الآن؟ أم أن الذين اتخذوا تلك المواقف الواضحة في التصدي لمشروع الشاه التوسعي، هم من جيل التألق القومي والذي انقطعت جذوره لدي الجيل الجديد من القوميين الجدد، حينما خالطت أفكارهم القديمة نزعات طائفية أقامت جدران الفرز بين جيلين من الزعامات التي تحاول التمسك بإرث الماضي في شكله الظاهر، ولكنها تتنكر له عمليا في كل لحظة، أم أن تغير الشعارات المرفوعة في طهران من إمبراطورية تقام على أساس التحديث، إلى إمبراطورية متحجرة تعيش خارج الزمن، هو الذي أجاز لهم نزع جلودهم وإجراء عملية تجميل لم تغير شيئا من الصفات الوراثية الثابتة، وأيا كانت المبررات سياسيا أو فكريا أو مذهبيا، فإنها ما كانت لتتم بهذه الصورة المسرحية المملة، لا لتسيء إليهم فقط وإنما لتوجه إساءة للفكر القومي، على الأقل لمن ليس مطلعا بما فيه الكفاية على المنهاج القومي العربي.
إن من تراصف مع المشروع الإيراني، وحاول أن يضفي عليه شعارات ثورية، أو يتماهى مع ما يتردد من شعارات غوغائية في طهران وقم، إنما ارتد عن إرادة وسبق إصرار، إلى هوية فرعية على حساب الهوية الوطنية والقومية الجامعة، فبعد أن كان الموقف العدائي من نظام حكم شاه إيران، يمثل مرحلة ترف فكري التقت عندها قوى تعاني من طفولة يسارية أو مراهقة فكرية ولم يكن تعبيرا ناضجا لصدق الانتماء للمدرسة القومية، وخاصة أن الشاه لم ينجح في تغليف أهدافه التوسعية بشعارات وردية وثورية بصخب عال وضجيج يصك الآذان والأعين، جاء النظام الجديد في إيران والذي أعلن دفعة واحدة عن عنصرية وطائفية تزعم التفوق على القوميات والأديان والمذاهب الأخرى، وتم تثبيت أسسها في الدستور الإيراني المعقد، بدأت حوارات داخلية لدى بعض الأوساط السياسية والتيارات الفكرية، عن مدى وجاهة الوقوف ضد المذهب المدعوم بالسلطة الدينية والدنيوية التي تجد بفتوى الولي الفقيه التعبير المطلق للولاية على جميع أتباع المذهب، والتي تم ابتكارها أو تلفيقها في وقت متأخر جدا.
هذه الممارسات المنحرفة من جانب أطراف محلية بتبني الأطروحة الإيرانية، سياسيا ومذهبيا، هي التي أغرت طهران لأن تمد المزيد من أصابعها وعناصرها لتعبث في أمن دول عربية تريد طهران منها أن تدور في فلكها وهي مغمضة العين، ولم يكن مفاجئا أن يعلن الرئيس اليماني عبد ربه منصور هادي، عن اكتشاف شبكة تجسس إيرانية يقودها ضابط استخبارات كبير في الحرس الثوري الإيراني، وتمتد منطقة نشاطها إلى القرن الأفريقي، مما يعني أن الزعامة الإيرانية وعن طريق تقديم الإغراءات المالية لعناصر الحوثيين، والوعد بالمساعدة على إيجاد موطئ قدم عسكري وسياسي، في شمال اليمن عن طريق دعم كل طرف لديه الاستعداد للتخلي عن ثوابته، نتيجة الفقر الذي يسحق جزء كبيرا من أبناء اليمن تحت عجلته، تتمدد على الأرض العربية، وهذا الموقف يمر من دون أن توضع الخطط التي تدرأ أخطاره على المملكة العربية السعودية وسائر دول الخليج العربي، لذلك فإن التصدي للخطط الإيرانية في اليمن والقرن الأفريقي وفي أفريقيا، يعد جزء حيويا من منظومة الدفاع المشروع عن النفس الذي يجب أن تنهض به دول مجلس التعاون الخليجي ذات الموارد العالية، فالمساعدات الاقتصادية على هيئة مشاريع استثمارية، تعد استثمارا سياسيا بمردود عال إلى حدود بعيدة.
إن بسط السيطرة على محافظة صعدة القريبة من الحدود الدولية بين اليمن والمملكة العربية السعودية يعد هدفا مرحليا لخطوة أبعد من ذلك، وإذا ما تمكنت الخلايا الإيرانية الناشطة في صعدة، من الوصول إلى حجة، فمعنى ذلك أن الإمدادات الإيرانية بالسلاح وعناصر الحرس الثوري الإيراني ستتدفق عبر جسر بحري طويل يشمل منطقة عمل شبكة التجسس آنفة الذكر والتي تمتد إلى القرن الأفريقي، حيث تعيش المنطقة البحرية نشاطا خارجا عن السيطرة الدولية، لقراصنة استطاعوا فرض كلمتهم على الأسرة الدولية وبواسطة زوارق سريعة وأسلحة خفيفة يمارسون خلالها أسوأ أنواع الإرهاب الدولي، الذي يهدد الملاحة التجارية وخاصة امدادات النفط الواهنة أمام الأسلحة النارية للقراصنة، وحصلوا على إتاوات وفديات غير معقولة أغرتهم بتوسيع فعالياتهم البحرية، أما على الأرض الصومالية فإن الحرب الأهلية تمزقها وتفتح شرايين للدم لا يستطيع أحد التكهن بنهايته، وإيران البلد الأكثر استغلالا للظروف الاستثنائية في أية بقعة جغرافية في أي مكان في العالم، وجدت في هذه الظروف فرصتها النادرة، لتطويق المملكة العربية السعودية بحزام الفتن الطائفية والانتقال إلى المرحلة اللاحقة وهي الإجهاز على مجلس التعاون الخليجي وإلحاقه تحت ولاية الفقيه، ولم يكن مصادفة أن تترافق كل هذه التحركات مع محاولة بعض المعممين في المنطقة الشرقية، للتحرك بموجب إشارات بجهاز السيطرة عن بعد، لإثارة أسباب الفتنة ظنا منهم أن ذلك يمكن أن يعين إيران على أقلمة القضية أو تدويلها، والبحث عن دور تحصل بموجبه على مكاسب سياسية ومعنوية، تجعل منها رقما لا يمكن تجاوزه في المعادلة الإقليمية، بعد أن تضعها على لائحة المنظمات المدافعة عن حقوق الإنسان.
إيران تتحرك على كل المحاور والملفات التي تظن أنها قادرة على التأثير فيها، ولا نريد المناقشة في حقها من هذا التحرك من دونه، على الرغم من إن ذلك على وفق توصيف القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، يعد تدخلا سافرا بالشؤون الداخلية لدول مستقلة وذات سيادة، ولكن ما يعنينا من هذه الصور المتلاحقة على مسرح عمليات الخليج العربي والبحر الأحمر والجزيرة العربية، أن الدول العربية المستهدفة بالتدخلات الإيرانية، أو معظمها على الأقل، بدأت تفكر بصوت عال وتعبر عن مخاوفها من خروج التدخل الإيراني عن نطاق السيطرة بسبب امتلاكه أدوات داخلية تتحرك على وفق إملاءاته، على الرغم من أن الأسلحة المادية والفكرية متاحة للعرب للتأثير على الوضع الإيراني أكثر بكثير من قدرة إيران على تحريك ملفات نائمة، ولكن المعضلة تكمن في توفر الإرادة السياسية لاتخاذ القرار المناسب، وربما لم يفت الوقت بعد، على الرغم من خروج العراق من معادلة التوازن الاستراتيجي مع إيران، بل وتحوله إلى قاعدة وثوب إيرانية متقدمة للعبث بالأمن القومي لمنطقة الخليج العربي.
اليمن والقرن الأفريقي رئة إيرانية
إذا كانت لإيران شبكة تجسس تعمل في اليمن والقرن الأفريقي منذ سبع سنين، فهل يعني ذلك أن إيران كانت تعد العدة وتشتري الوكلاء وتقيم لنفسها قواعد بشرية، وحتى قبل أن تبرز على السطح السياسي تقاطعاتها مع دول الاعتدال العربي، سواء ما يتصل بالوضع في سوريا أو في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية أو في البحرين؟ وماذا تريد إيران من اليمن؟ وهل أن ذلك هدف قائم بذاته؟ أم هو خطوة ضئيلة على طريق طويل؟
أصلا لم يساور من عانى من ويلات التدخلات الإيرانية، شك في أن إيران تتعامل مع العرب بألف وجه ولغة وتقية، فالعلاقات الدولية مصالح ثابتة، ولعل إيران أفضل من يجسد عمليا مقولة دزرائيلي رئيس وزراء بريطانيا بدايات القرن العشرين، (ليس لبريطانيا أصدقاء دائمين أو أعداء دائمين، لبريطانيا مصالح دائمة)، وربما حصل التطابق بين الشخصية الفارسية المنطوية على نفسها، والتي تظهر ما لا تبطن لانعدام الثقة بالنفس، وشخصية رجل الدين المتطفل على أرزاق الناس، والذي يعيش أكثر من شخصية في وقت واحد، ولتصنع منهما بالتالي نموذجا نادرا من الخديعة والغدر، بحيث تصبح مقولة ميكافيلي (الغاية تبرر الوسيلة)، مجرد بيت من شعر الغزل من دون زيادة أو نقصان.
ولكن هل على المتضررين بصورة مباشرة من المشروع الإيراني التوسعي، الانتظار لحين إحكام طهران الطوق عليهم كي يبدأوا بدراسة الخطوات اللازمة لحماية أمنهم الوطني؟
إن الدول بما فيها تلك التي ترتبط بعلاقات صداقة متينة، لا يمكن أن تهمل تأثير الرياح السياسية القادمة عبر الحدود بما فيها الودية وخاصة مع أحداث الربيع العربي، فالجهد الاستخباري لا يمكن أن يتوقف بين أي بلدين في عالم اليوم، من أجل التعرف على النوايا الحقيقية لكل طرف تجاه الطرف الآخر، ويأخذ الأمر أهمية أكبر حينما لا تكون النظم مستقرة، ويمكن أن يأخذ مفهوم الأمن الوطني لها تفسيرات أخرى تبعا للتغيرات السياسية التي تحصل هنا وهناك، وبالإمكان أخذ نموذجين على الساحة العربية، فبعد أن ظلت أبواب مصر وتونس مغلقة بوجه أي دور إيراني، فإن تبدل نظامي الحكم فيهما ومجيء حركات سياسية هي واجهة للإخوان المسلمين، فقد بات من غير المثير للدهشة أن إيران ستسعى لتوقيع اتفاقيات ذات طابع اقتصادي برئ في ظاهره، ولكنها ستزحف تدريجيا نحو الحصون الثقافية والفكرية، بهدف إحداث تصدع مجتمعي للتسلل منه نحو علاقات تديرها المراكز الدينية في طهران وقم، بإشراف مباشر من مكتب الولي الفقيه، ويكون دور وزارة الخارجية مجرد واجهة بروتوكولية لتجميل صورة المسرح الدبلوماسي.
صحيح أن الرئيس المصري الجديد محمد مرسي، اختار المملكة العربية السعودية في أول خروج رسمي له بعد انتخابه، وصحيح أنه أدلى بتصريحات واضحة السطور وقال فيها إن أمن الخليج العربي خط أحمر، إلا أن المراقبين لا يستبعدون حصول مفاجئات دراماتيكية في الموقف المصري من السياسة الإيرانية والتهديد الذي تمثله على أمن الخليج العربي، قد لا يتوقف عند مجرد تبادل الزيارات الرسمية.
إن إنشاء صندوق من جانب مجلس التعاون الخليجي للاستثمارات في الوطن العربي، وخاصة الدول محدودة الموارد، يمكن أن ينتشل اقتصادات دول عربية كثيرة تعاني من أزمات ومديونية عالية داخليا وخارجيا، وقد يواجه هذا المقترح بردود فعل غاضبة من بعض الأوساط التي لا تنظر بعيدا، لكن هذا الصندوق يمكن أن يحول دون استنزاف موارد الدول العربية الثرية، دفاعا عن نفسها عندما تجد نفسها وجها لوجه أمام أخطار خرجت عن السيطرة، فالصندوق استثمار سياسي ومالي يؤدي دورا ناجحا إذا ما تم وضع أسسه القانونية وقواعد التسليف التي سيعتمدها وفقا للمعايير الدولية الحديثة، خاصة في المشروعات الانتاجية الكبيرة، لاسيما في مجال انتاج المحاصيل الزراعية الاستراتيجية التي تحمي الأمن القومي الغذائي من أية أخطار خارجية، وإذا كانت خطط جامعة الدول العربية، في مجال التعاون الاقتصادي العربي، سواء باتفاقية الوحدة الاقتصادية العربية، أو السوق العربية المشتركة قد فشلت في تحويل الحلم العربي إلى حقيقة على الأرض، فإن اعتماد معايير المنفعة المتبادلة في الصندوق المقترح، يمكن أن تحوله إلى مشروع مارشال عربي، أو بنك عربي يأخذ من البنك الدولي إيجابياته في شروط التسليف وكيفية حماية القروض من التآكل، وهذا يتطلب جهازا إداريا ورقابيا بمنتهى الكفاءة والاخلاص لملاحقة المشاريع المشمولة بالتسليف ومراقبة طرق إدارتها على النحو الذي يضمن إحداث نقلة في البنى التحتية والركائز الاقتصادية للبلدان المستفيدة من الإقراض من جهة، وتحمي أموال الصندوق من الضياع وتطور موارده من أجل توسيع نطاق نشاطاته في ساحات جديدة.
فهل تتحول فوائض النفط إلى أسيجة متينة تحمي الأمن القومي العربي من الأخطار والتهديدات الخارجية؟ أم تبقى سببا لمزيد من التدخلات الخارجية الطامعة بالأرض والثروة، أو تبقيها مجرد فوائض غير منتجة في البنوك العالمية التي توظفها لتنشيط اقتصادات الدول المثقلة بأعباء التصادم بين القدرات الاقتصادية المحدودة والإنفاق الذي يزيد على الموارد؟
مثل كل الطموحات الكبيرة، لا يمكن إعطاء جواب فوري عنها، ولكن الإرادة السياسية في حال توفرها، قادرة على تغيير الواقع من جذوره.
20/7/2012
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق