إبان الحرب العالمية الأولى، مَثُل تشارلز شنك، أمين عام الحزب الاشتراكي الأمريكي، أمام القاضي إثر ضبطه متلبسا بحيازة خمسة آلاف منشور مناهض للتجنيد الإجباري. يومها رفع شنك عقيرته مدافعا عن حقه في التعبير عن رأيه، لكنه اضطر، بعد حكم مقتضب، لقضاء ستة أشهر كاملة في غياهب السجون.
يومها ثارت ثائرة المدافعين عن حقوق الإنسان، واعتبرت المعارضة الحكم انتهاكا للدستور وقامت بالطعن عليه، لكن القاضي أوليفر وندل الذي نطق بالحكم عن طيب قناعة، وقف بالمرصاد لمحاولة التشهير بحياديته، وقال مدافعا عن صوابه: "صحيح أن الأفكار الواردة في المنشورات لا يعاقب عليها القانون وتقع ضمن إطار الحريات التي يحميها ميثاق الحقوق، إلا أن ظروف الحرب تقتضي إيقاف العمل بتلك القوانين. فلا يمكنني أن أسمح لأحد أن يضرم النار في مسرح مكتظ بالنظارة لأي سبب كان."
كان أوليفر يومئ بالكلمات إلى فاجعة تسببت فيها حنجرة عابثة حين أطلقت صرخة مدوية في حفل كريسماس بأحد مناجم النحاس مات على إثرها إثنان وسبعون متدافعا عام 1913. وخالف القاضي يومها إعلان الحريات متحملا تبعة حكمه. صحيح أنه اعترف فيما بعد بتناقض حكمه مع الأحكام الصادرة في حالات مشابهة، إلا أنه ظل متشبثا بصواب نظرته إزاء منشور شنك والذي كان يعتبره لغما سياسيا من شأنه إسقاط البلاد في حرب ضارية لا يُبقي فيها العدو ولا يذر.
وعدل المشرع الأمريكي نص الحريات في الدستور مرتين ليعاقب الذين لا ينتقون توقيتات صرخاتهم في المناجم والمسارح وحين البأس، حتى اجتمعت لجنة الدستور في ولاية أوهايو عام 1969 وقصرت الاستثناء المتعلق بالحريات على الكلمات التي تحرض على العنف والشغب. لكن أحدا لا يدري إن كانت المحاكم الأمريكية مستعدة لمخالفة تلك المواد إذا ما نشبت - لا قدر الله - حرب كونية أخرى.
حتما لن يحظى الاستفتاء على حكم أوليفر وندل في بلادنا الثائرة بإجماع أو بأغلبية، ويقينا لن تنزل الجموع الساخطة من حزب المقهورين للإدلاء بأصواتهم في معركة هزلية أخرى يجري إعداد منشوراتها على قدم وساق في مطابع الفتن، لأن مصيرها المعتاد التأييد والشجب فحتما سيختلف طرفا الهزيمة على الضرورات التي تبيح المحظورات، وحجم الأزمات التي تبيح القمع والكبت. وحتما ستنفرد القنوات على الجانبين بعزف موسيقى جنائزية بائسة توزع الحزن على سكان هذا الوطن.
سيصر وندل لا شك أن شنك مذنب لأنه خرق سفينة البلاد وعرضها للغرق في وقت يجب أن ينضح فيه الجميع ماء الحزن عن حجر الوطن، وسيظل المدافعون عن الحريات يتصايحون في فضائهم الضيق عن حق المرء في التعبير عن رؤاه دون قيد أو شرط. ويظل البائسون من النظارة يوزعون أبصارهم يمينا تارة ويسارا أخرى دون أن يروا ثمة انتصار في أي أفق، وسيكتفون كعادتهم بإحصاء خسائرهم بعد كل صيحة.
Shaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق