التوجهات الشعبية والجماهيرية غالبا ما تكون خاطئة بدون توجيه رأي، وبدون توعية، ولو كانت الأكثرية على حق دائما، لما وردت في القرآن الكريم الأكثرية مقرونة بعدم الفهم (إن أكثرهم لا يعقلون)، ولو كانت الشعبية على حق لما قال الذين تجمعوا حول قارون إعجابا به: (وي).
ولذلك نحن نحمد الله وسوف نحمده أن باعد بين أبي إسماعيل والسلطة، وقد لاحظنا أن فكرة إقامة شرع الله جمَّعت الملايين حول أبي إسماعيل دون أن نطمئن تماماً لفهم أبي إسماعيل لشرع الله، ودون أن نلتفت إلى التاريخ الإنساني سواء في الشرق أو الغرب وكم حجم الدماء التي أريقت تحت هذا الشعار السياسي الذي يوظف الدين، فقد أزهق الأمويين دماء خصومهم به، كما صفي به فقهاء السلطان خصومهم المفكرين الآخرين المستقلين في العصرين الأموي والعباسي وماتلاهما من عصور، وإلى وقتنا هذا يقتتل السنة والشيعة سياسياً تحت هذا الشعار الديني، كما كنا سنقتتل نحن تحته سياسياً وفقهياً ومذهبياً، لو نجح أبو إسماعيل في الوصول إلى السلطة، ولعل ما حدث في ميدان العباسية هو نوع من الحرابة بدعوى الرغبة في تطبيق شرع الله, وتلك هي المفارقة.
غير أن التاريخ يقول إن مصر احتلتها دول كثيرة ووقعت تحت حكم إمبراطوريات عدة ولم يشهد التاريخ أن استعمارا ما منع المصريين من التعبد أو إقامة شعائرهم الدينية والروحية أو حتى منعهم من الاحتكام إلى شرع الله في حياتهم.. لم يشهد التاريخ بهذا ولم يسجل واقعة واحدة، بل سجل العكس فقد كان المستعمر حريصاً على المحافظة على الحالة الدينية والروحية في مصر من أجل اكتساب مرضاة الشعب، لم تمر على مصر حقبة كانت بحاجة إلى رجل يحكمها لإقامة الشرائع الدينية، لأن تلك الشرائع لم تغب عن الشعب يوماً. ولكن الأفاقين السياسيين يمكن أن يقيموا سلطة روحية مزعومة على الشعوب في غيبة الوعي ثم يستفيدوا منها سياسياً.
الأخطر من أبي إسماعيل على الحياة السياسية والاجتماعية المصرية هو نجاح الفريق أحمد شفيق العسكري.
ثمة سذاجة شعبية يستغلها الدعائيون السياسيون كما استغلها الحكم السابق لترسيخ بقاء مبارك والإعداد لتوريث ابنه، ولعله نفس أسلوب الاستغلال يُمارس الآن لصالح المرشح الرئاسي العسكري أحمد شفيق (عز الدين أيبك) آخر رئيس وزراء مصري ولاه مبارك، والذي ينتظر الفلول (المماليك الجدد) نجاحه.
الدعاية تقول إن نجاح أحمد شفيق يعني عودة الاستقرار إلى الحياة الاجتماعية والسياسية المصرية كما كان الحال قبل تنحي مبارك، ومن ثم ستنضبط الحالة الأمنية، ويعود الاستقرار للسوق والأسعار والبورصة ويتحسن الحال ويعود الغاز للبيوت والبنزين للسيارات، وسوف يحيا المواطن آمنا في بيته وماله وعياله.
والحقيقة أن للدعاية جذورها وأسبابها وممهداتها، فقد نجح أداء العسكريين الركيك وغير المستوعب للحالة الثورية والسياسية الجديدة، متضافراً مع جهود الفلول، نجحا معاً في إرباك المجتمع سياسياً وأمنياً واقتصادياً وتموينياً وأوصلوا الناس إلى حالة من التباكي الأجوف على أيام المتنحي.
ولكن بقليل من التعقل يمكن أن نكشف خدعة الدعاية للفريق شفيق، ولنبدأ بسؤال أنفسنا: هل كان هناك استقرار حقيقي أيام مبارك؟ هل كانت الحال قبل سقوط مبارك مستقرة بالفعل؟! أم كانت منهارة في أساسها؟ ، وإلا : لماذا قامت الثورة؟ إن قيام أي ثورة في أي مجتمع يعني أن هذا المجتمع لم يكن مستقراً، وأن هناك مظالم طافحة وقلاقل واضطرا بات وأزمات اجتماعية وسياسية وربما فكرية وعرقية، وهل نسمي التعطل عن العمل والغلاء واحتكار السلع وبيع القطاع العام والاستيلاء على المال العام وتهريبه، وتركيز الثروة والسلطة في يد حفنة من مساعدي النظام وأساطينه، وتمييع الرأي وإفساد الحياة الثقافية والروحية والفكرية للشعب، ووأد الحريات وإفشاء القمع وتزوير الانتخابات، والتنازل عن المصالح الوطنية والقومية خدمة لأغراض استعمارية وسياسية خارجية، والتضحية بكل ما هو شعبي من لقمة العيش أو الكرامة من أجل تمرير مشروع التوريث، هل نسمى كل ذلك استقراراً؟، أم نسميه مواتاً ؟!.
لقد كنا ميتين بالحياة في مقبرة مبارك، وليس هناك استقرار أروع من استقرار الموتى!.
أما نجاح أحمد شفيق فلا يعني العودة مرة أخرى إلى مقبرة مبارك بل يعنى أخطر من ذلك، فلا عودة إلى ما كانت عليه الحال قبل تنحي مبارك، فالحياة لا تمضي إلى الخلف.
إن نجاح شفيق يعني أولا استمر النمط العسكري الذي بدأ مع بداية ثورة 52 وحتى اليوم والذي أوصلنا إلى مبارك وشفيق وطنطاوي بآخرة من الوقت.
كما يعني قيام دولة الفلول (المماليك الجدد) وقد اثبت الواقع العملي السياسي حتى الآن أنهم أعداء الشعب سواء قبل الثورة أو بعدها، وسوف تكون أخطر دولة عرفها التاريخ المصري، من حيث تكريس العدائية للشعب والتعالي على ثقافته وطموحاته، أو من حيث تكريس الطبقية، وتضخيم الفساد وفرض الجباية والضرائب، والتسلط على الشعب وإطلاق يد العسس، وعودة الإقطاعية وتفشي الرأسمالية بكل مساوئها، أو من حيث سير الدولة على غير رؤية منهجية أو من حيث الترامي في أحضان الكيانات السياسية المتسيدة كالأمريكان أو الصهاينة أو من حيث وأد الروح الثورية أو الفكرية أو الثقافية التي بدأت تبزغ في المحيط الاجتماعي، أما الأخطر من ذلك هو محاسبة كل من تسبب في الثورة، وعلى الشعب المصري أن يتنازل عن دماء شهدائه وعن طموحاته وأحلامه المشروعة، وأن يعتذر للمماليك الجدد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق