بقلم محمود عبد الرحمن - القدس العربي واهم من يزعم أنه يستطيع بناء سيناريوهات متماسكة للفترة المقبلة في مصر، أوالتنبؤ بطبيعة الخطوات التالية للمرحلة الانتقالية، في ظل حالة الغموض والالتباس والتغير اللحظي''لمعطيات العملية السياسية الذي لا يسمح بصمود تقديرات المحللين، سواء من داخل أو خارج المشهد، وإن كان الأمر يتطلب الاجتهاد قدر المستطاع. وهذا المناخ الضبابي حين نتأمل فيه نجد أنه متواصل بشكل ممنهج منذ خلع الديكتاتور العجوز مبارك وتسلم جنرالاته الحكم نيابة عنه، تحت''أكذوبة حماية الثورة والسعى لتنفيذ أهدافها. وتتكشف يوما تلو آخر ملامح الصورة الحقيقية التى تبرز هيمنة الحضور الأمريكي في إدارة المرحلة الانتقالية، وهاجس ترميم أركان نظام مبارك، وحماية المكتسبات التى حصلت عليها واشنطن ورأس حربتها في المنطقة 'إسرائيل' منذ حقبة السادات، وتعاظمت في عهد الرئيس المخلوع الذي كان خادما مطيعا للأمريكان، وكنزا استراتيجيا للصهاينة. وفي هذا الاطار لم يكن المجلس العسكري ولا التيار الديني بقيادة الأخوان المسلمين سوى أدوات يتم توظيف قوتها على الأرض، وما تمتلكه من منابر دعائية وهياكل تنظيمية في إحتواء الثورة وتحييد الجماهير الغفيرة التى باتت تُعرف بـ'الأغلبية الصامتة'، وعزلها عن الثورة والثوار، حيث كان نزول هذه الملايين لميادين مصر مؤشرا خطيرا، وكان كفيلا لو تواصل بهذا الزخم غير المتوقع، أن يعمل ليس فقط''على تصفية نظام مبارك بكل ما تعنيه الكلمة ماديا ومعنويا، بل وضرب المصالح الأمريكية والصهيونية في مقتل. من هنا كان دخول الأمريكان المبكر على خط الثورة، ومباركة انتقال السلطة للجنرالات، وإشراك الاخوان المسلمين معهم في لعبة توجيه المسار إلى غير الوجهة الديمقراطية السليمة، وامتصاص الطاقة الثورية، وسحب الظهير الشعبي من الثورة والثوار الحقيقيين. ورغم نفي العسكر والاسلاميين وجود صفقة بينهما، والتظاهر من وقت لآخر بأن ثمة صراعا بينهما، أو بينهما وبين واشنطن، إلا أن الشواهد تكذب ذلك. وصراع الغنائم البارز من جهة والاتصالات المارثوانية للمسؤولين الأمريكان المعلنة، ناهيك عن تلك التى وراء الكواليس، مع كل طرف منهما من جهة أخرى، علاوة على ثبات توجهات السياسة المصرية الداخلية والخارجية رغم أجواء الثورة، تؤكد أن واشنطن هي من تدير فعليا الفترة الانتقالية في مصر، وتوزع الأدوار على العسكر والاسلاميين، خاصة الأخوان. وتبدو الادارة الاستخباراتية''هي الخيار المفضل في الحالة المصرية، التى تلعب على المتناقضات وصناعة أزمات متوالية وتشتيت متواصل وغياب لليقين، وسط حالة سيولة سياسية مصنوعة، لا تمكن حتى الفاعلين في المشهد السياسي من وضع تقديرات، وتوقع ما سوف يحدث حتى في الغد، وفي هذا المناخ الهلامي يسهل عملية تمرير المخطط الأمريكي بيسر، لجهة إعادة استنساخ رئيس بدرجة موظف لدى الإدارة الأمريكية، وإن بدا الأمر عكس ذلك، وأن ثمة زخما ديمقراطيا في مصر، افرز برلمانا، وعلى الطريق رئيس سوف يأتي بارادة حرة وبانتخابات نزيهة، لكن الإجراءت الديمقراطية المنزوعة من سياق ديمقراطي لا تنتج اثرا، ولا تحولا ديمقراطيا حقيقيا، وأنما تكرس للفساد والاستبداد بورقة الارادة الشعبية، ونتائج صناديق الانتخاب. 'وفي تصوري أن الأمريكان يلعبون الآن في المشهد المصري بمنطق المدير الذي يخطط ويشرف، وأثنين مساعدين تنفيذيين، وتعطي واشنطن لكل واحد من المساعدين ما يبغيه، طالما سيظل على نهج السمع والطاعة المباركي والساداتي، فالعسكر يريدون دورا سياسيا ولو من وراء ستار، وحماية لمكتسباتهم الاقتصادية، وجعل المؤسسة العسكرية دولة داخل الدولة بلا رقيب ولا حسيب، وضمانات بعدم المحاسبة على الجرائم التى تورطوا فيها أثناء الفترة الانتقالية، والاخوان لديهم شهوة السلطة والتمكين ويرغبون في التواجد في مفاصل الدولة المختلفة كبديل جاهز للحلول محل الحزب الوطني المنحل، فيما السلفيون تكملة للمشهد وأداة طيعة يمكن أن يوظفهم العسكر كمخزون احتياطي يصلح لتوجيه ضربات للقوى المدنية الديمقراطية أحيانا، أو فزاعة تظهر الأخوان بمظهر الاعتدال في أحيان أخرى. والأمريكان لا مانع لديها من التوفيق بين متطلبات وأطماع كل طرف، طالما كانا سيخدمان المصالح الأمريكية ولن يقترب أحد منهما مما يمس المصلحة الإسرائيلية، وهذا يتطلب الحفاظ على بنية التبعية ونظام اقتصاد السوق الرأسمالي وسياسات الافقار، وعدم التفكير في إعادة بناء التحالفات الاقليمية والدولية، أو لعب دور''سياسي خارج الحدود الضيقة لدولة بحجم مصر لها امتدادتها العربية والأفريقية، أو الاقتراب من اتفاقية كامب ديفيد. وهذه التفاهمات باتت واضحة، والكل قدم أوراق اعتماده للبيت الأبيض منذ وقت مبكر. وكلما اقتربنا من نهاية الفترة الانتقالية الأولى التى بات الشك يحوم حول أنها ستنتهي بنهاية يونيو المقبل، تزداد الاجواء سخونة، وتزادد معها حالة الغموض المتعمد والتوجسات ذات التوجيه الاستخباراتي. ولاشك أن استحضار ملفين في غاية التعقيد في ذات الوقت رغم انهما حاسمان في تقرير مصير هذه الثورة، وهما ملفي الدستور والرئاسة،''بعد مذبحة بورسعيد، يكشفان الرغبة في تواصل نهج الإلهاء المقصود، وعدم إتاحة الفرصة للجماهير لتستوعب كل ملف بتعقيداته، وتبدي موقفا سليما نحوه، وأنما تقف موقف المتفرج على صراعات الفرقاء حول كل منهما، أو العاجز عن تبيان موطن الحقيقة والصواب، والقدرة على التقييم وتشكيل اتجاه سليم. ولاشك أن الدفع ناحية هيمنة التيار الديني على الجمعية التأسيسية للدستور، رغم كل الاعتراضات والتحذيرات، لم يكن مقصود منه سوى توظيف هذا التوجه لتكريس انقسام المجتمع من جديد، وتعطيل انجاز دستور جديد يعبر عن كل المصريين، حتى يأتي الرئيس القادم بلا دستور، فيتسلم صلاحيات مطلقة ديكتاتورية من المجلس العسكري كما تسلمها من الرئيس المخلوع، وإذا ما جرى الالحاح في كتابة دستور قبل الرئاسة، فليأتي على عجل مشوها، غير معبر عن أهداف الثورة، وغير بعيد عن دستور النظام الساقط. ويبدو كذلك أن الدفع قبيل غلق باب الترشيح لانتخابات الرئاسة بمرشحين يثير كل منهما مخاوف المجتمع أحدهما محسوب على العسكر وكان يشعل منصب رئيس جهاز الاستخبارات، وهو عمر سليمان، والأخر من قيادات الاخوان المسلمين، وكان مسؤولا عن التنظيم السرى للجماعة وهو خيرت الشاطر، لم يكن عبثا ولا اعتباطيا، وأنما لإستخدامهما كفزاعة حتى تهرول الجماهير بما في ذلك قوى ليبرالية ويسارية وأطراف عديدة ترفض سطوة الاخوان والعسكر على مؤسسة الرئاسة، إلى وجهين يبدوان أكثر اعتدالا وقبولا من السابقين، وهما عمرو موسى أحد رموز نظام مبارك، الذي ظل حتى النهاية لا يجرؤ على معارضته ويعلن تأييد له، وعبد المنعم أبو الفتوح الذي شب وشاب في حجر جماعة الاخوان، وإن بدا أنه على خلاف معها، وانشق عنها، لكنه يحمل ايديولوجيتها وسيظل حتى النهاية.. تلك الايديولوجية القائمة على خلط الدين بالسياسة والبراجماتية التى تتيح التحالف مع الشيطان وتغيير المواقف حسبما تكون المصلحة. وسواء وصل عمرو موسى أو أبو الفتوح إلى سدة الحكم، فالنتجة واحدة والتشابهات واضحة، فكلاهما لديه مهارات خطابية وقدرة على العزف على الأوتار العاطفية للجماهير، وكلاهما ليس بعيدا عن واشنطن، ولا أحد فيهما سيقترب من تحقيق أهداف الثورة، وسيكون أي منهما الأقدر على إعادة إنتاج نظام مبارك بتوجهاته الداخلية والخارجية، وتلبية مطالب كل من الأخوان والعسكر، وقبلهما التناغم مع المصالح الأمريكية الإسرائيلية. من هنا يتم اللعب الآن على تسويق كليهما، لأن كل منهما يصلح للعب دور الرئيس التوافقي بين العسكر والأخوان برعاية أمريكية، وكل منهما بتجاربه وطموحه الجارف للسلطة يبدو رجل المرحلة. 'لكن هل تصمد مثل هذه المعطيات أم أن ثمة مفاجأت سوف تقلب الطاولة على الجميع وتنسف كل المخططات؟ هذا هو السؤال الصعب، خاصة أن الحكم على الرئيس المخلوع وعصابته في قضية قتل الثوار، المؤجل بقصدية إلى أوائل يونيو، ربما يفجر الأوضاع حال تبرئتهم أو حصولهم على حكم مخفف، قبيل إنجاز الاستحقاق الرئاسي. المصدر:جريدة القدس العربي اللندنية |
20 أبريل 2012
هيمنة الحضور الامريكي وهاجس ترميم نظام مبارك
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق