عن صحيفة "القدس العربي" اللندنية
محمد عبد الحكم دياب
2012-03-17
قصة جرحنا النازف في غزة هي باختصار قصة العنصرية والتطرف في أقصى درجاتها من جانب العدو الصهيوني، وباب في سِفر الهوان والمهانة فيما يخصنا نحن العرب في وضعنا الراهن. منا من ينام قرير العين بعد مشاهدة ما يجري على أرض فلسطين من استيطان وتطهير عرقي وإبادة ثقافية. ورغم الخروج العسكري من غزة في ايلول/سبتمبر 2005 إلا أن سكانه أدرجوا على قائمة التصفية والحصار الخانق، وقوات الاحتلال وإن كانت قد خرجت تخلصا من مأزقها ووقوعها في مرمى نيران المقاومة، فهذا يعني أن غزة استبسلت حتى أحالت حياة الاحتلال إلى جحيم باهظ التكلفة؛ وهذا لم يمنع استمرار التقسيم وقضم فلسطين قطعة قطعة، وتحولت إلى أشلاء ممزقة وأطلال محطمة.
كان من المفترض أن يكون خروج آخر جندي صهيوني من القطاع صباح الإثنين 12/9/ 2005، بعد احتلال دام ثمانية وثلاثين عاما، إيذانا بولادة جديدة تزيد من فعالية المقاومة ومن التفاف المواطنين حولها، فتتحول بقعة محررة من أرض فلسطين إلى نقطة انطلاق ومركز عبور إلى هزيمة الاستيطان وفك الحصار وإنهاء التمييز العنصري. وهو امر لم يحدث، وجاء العدوان الأخير في ظل وضع عربي في أسوأ حالاته، فجبهاته الثائرة شغلتها صراعاتها وانفلاتها وحروبها المشتعلة بين فرقها؛ وانكفاؤها بعيدا عن الاهتمام بما يدور حولها وعلى حدودها، واستسلمت للاختراقات وتركت إراداتها في مهب ريح تستجير من الرمضاء بالنار، ولأول مرة نجد 'ثوارا' يطلبون تدخلا خارجيا يحارب لهم معاركهم، وبذلك يستبدلون الاستبداد بالغزو والاحتلال.
ورغم ذلك وجدنا من يستمر في التآمر على فلسطين، وهو في حقيقة الأمر يتآمر على نفسه، ويتمادى في تقديم المال والسلاح والإعلام لـ'تحرير' أي بقعة من العالم إلا فلسطين؛ يذهب إليها مهرولا ويعطي ظهره للقدس 'عروس المدائن'؛معلنا صراحة إسقاط فلسطين من حسابه؛ مجنَّدا لخدمة العالم الصهيو غربي الذي أسقطها له من حساب الجغرافيا والتاريخ.. حبا في الحركة الصهيونية وانحيازا لها وطلبا لرضاها، ورياح الثورة التي هبت على المنطقة منذ نهايات 2010 واجهتها عقد وحروب سرية وعلنية؛ ثورات العرب بلا استثناء فقدت الوعي بالاستقلال الوطني، وعجزت عن مد بصرها عبر حدودها لترى المخاطر المحيطة بها.
والإنسان ليعجب كيف للمارد العربي الذي انتفض منذ أكثر من عام ألا يفرق بين عدو وصديق وبين شقيق وجار؟ وكيف لا يرى عدوه وهو يخترق ثوراته ويوجه بوصلتها في الاتجاه الذي يريده؟، وإن كنا نقر بأن الاستبداد والفساد والتبعية أعداء الثورة والثوار في الداخل، فهؤلاء تمت مواجهتهم بإجراءات 'ديمقراطية' وانتخابات وصناديق اقتراع ومقاعد في البرلمان، وتهافت على مواقع التشريع والمسؤوليات التنفيذية، وكان من الممكن أن تكون تلك إجراءات أكثر فائدة وتأثيرا لو تجاوزت الثورات العربية الانكفاء الذميم، وزادت ارتباطا ببعضها البعض.
كانت مصر على سبيل المثال تنتفض وتتحدى آلة مبارك البوليسية القامعة؛ عمل شبابها وشيبها.. رجالها ونساؤها على كسر الحصار والزحف نحو غزة. أما الآن فكثير من الثوار منشغل عنها واستغرقته مشاكله، وتطلعات نخبه؛ المتكالبون على المناصب والمغانم. وليست مصر وحدها على تلك الحال، فالعرب الآخرون باعوا فلسطين ومنها غزة؛ بوعود ورشاوى وفتن أعجزتها عن التقدم ولو خطوة للأمام، فنظامهم الرسمي مهلهل؛ لكنه متشبث بالبقاء، ويوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ومع ذلك يموت ولا يتخلى عن دور السمسار والعراب، والمستجيب لمخطط إفراغ الثورات العربية من مضامينها وعزلها عن جمهورها وعمقها الشعبي.
كانت فلسطين طوال القرن العشرين ملهمة للشعوب، ومحط أنظار العالم وقادة حركات التحرير، وكانت من محفزات الثورة والتمرد في المنطقة وما هو أبعد منها، وغرست في الوعي العربي والإنساني أن العدو واحد؛ يستوي في ذلك المتخفي خلف قناع الدين أو المذهب أو الطائفة، أو من يرتدي البدلة أو العقال. كانت فلسطين معيارا للسلوكين العام والخاص.. من وقف معها فقد وقف مع نفسه ومع المثل العليا، ومن تخلى عنها فقد تخلى عن ذاته ورمى بالقيم والمبادئ عرض الحائط.
كنا لا نفرق بين غزة أو القدس أو القاهرة وبين دمشق وبغداد وغيرها من عواصم العرب، وقرأنا الخرائط القديمة - خرائط سايكس بيكو - وعرفنا أنها رسمت لاغتصاب فلسطين، ونتابع الجديدة - فسيفساء الشرق الأوسط الجديد - المصممة لضمان أمن الدولة المغتصبة (بكسر الصاد) وضمان بقائها بتقسيمات وانسلاخات جديدة؛ بدأت بالفعل ولم تعد تنتظر صراخنا ولا شكاوانا، وصارت واقعا نلمسه في مواقع عدة على أرضنا وحولنا؛ ليبقى كيان الاغتصاب هو الأقوى والأكثر تماسكا على حساب كل ما يحيطه.
وهذا في وقت لم تعد فيه الآلة العسكرية الصهيونية قادرة على حسم الصراع عسكريا، وسبق لحملاتها أن فشلت في جنوب لبنان وفي غزة، ولو كانت مؤهلة للنصر لأبقت احتلال القطاع وحمت مستوطنيه بدلا من ترحيلهم والهروب بهم إلى الداخل. ونشطت الضغوط والمعونات والفتن والتحريض والتخريب تعويضا عن عجز الآلة العسكرية الأقوى على مستوى الإقليم العربي والشرق أوسطي، وشاعت ثقافة الفتنة وعقائد التحريض الديني والمذهبي والطائفي، ونجحت الحرب النفسية والحملات الاعلامية في تأليب العرب على بعضهم البعض، وعميت الأبصار والبصائر عن فلسطين وفيها الأقصى، وكأنها تقع فوق جزيرة نائية في عمق 'بحر الظلمات'.
العدوان على غزة عنوان لمرحلة؛ هان فيها العرب على أنفسهم فهانوا على الناس، وهي نتاج دور المال السياسي، وثقافة البترو دولار؛ الخادمة لأعداء فلسطين والعاملة من أجل 'التطبيع'، والضامنة لأمن وسلامة الدولة الصهيونية، والمختصة في تدمير كل بنيان يعزز الصمود ويعظم من المقاومة. والعدوان الصهيوني على غزة لا يستهدف المقاومة وحدها بل يستهدف ثورات المنطقة العربية، ويعمل على رد الاعتبار لمنظومة الاستبداد والفساد والتبعية، وينشط في تعطيل مسيرة الثورات وحرف مسارها.. ويساعد الثورة المضادة على استعادة زمام المبادرة.
ولا يجب إغفال 'العامل الإيراني' كسبب رئيسي في إشعال نار العدوان على غزة، فبعد التهديدات التي وُجهت لايران بخصوص الملف النووي، وفشل الآلة العسكرية والأمنية الصهيونية في تدمير هذا الإنجاز لأسباب إيرانية واقليمية ودولية، وما ينطوي على ذلك الفشل من خطر على البنيان العنصري للدولة الصهيونية، وكانت قد جربت حظها في جنوب لبنان في 2006، وحين عجزت عن كسر المقاومة الإسلامية في غزة 2008/ 2009.
ولفتت صحيفة هآرتس الصهيونية الأنظار في 12/3/ 2012 إلى أن الداعين للهجوم على ايران لم يجدوا عرضا أشد إغراء من الإغارة على غزة. وان وضع 'مليون مواطن تحت حمم النار' ما هو إلا عينة لما يُتوقع ردا على التهديد الذري الايراني، ووضع سبعة ملايين يهودي تحت تهديد النار وخطر الاشعاع الذري.
بدا العدوان 'بروفة' في ظروف مواتية من وجهة النظر الصهيونية.. فالعالم منشغل بسوريا. وتل أبيب متأكدة من عدم حدوث ضرر يذكر - حسب قول الصحيفة - نتيجة الهجوم على ايران، بعد أن أثبتت القبة الحديدية جدواها بنسبة 95' حسب ما صرحت به مصادرها العسكرية في تل أبيب. وترى ان التصعيد ضد غزة مفيد للدولة الصهيونية. وقد وضعت في الحسبان أنه لن يمر دون رد من 'اللجان الشعبية' أو من 'الجهاد الاسلامي' على عمليات الاغتيال، التي راح ضحيتها الامين العام للجان الشعبية زهير القيسي.
ووُصف اتخاذ قرار اغتيال القيسي بأنه ترجمة لاستراتيجية 'الرد المتوازن'. وتعني ردا متوازنا يواجه انطلاق الصواريخ من غزة، وتأكد ذلك بتصريح يقول بأن الدولة الصهيونية 'لا تطمح الى تصعيد الوضع'. وهل هذا صحيح؟.
الواقع لا تكفيه التصريحات إنما يؤكده أو ينفيه ظرف حماس الراهن، الذي لا يسمح لها بالتصعيد. بسبب أوضاعها الداخلية، وانتقال قيادتها من سوريا بحثا عن ملاذ آخر، وعدم وصول مفاوضاتها مع فتح إلى اتفاق على حكومة مؤتلفة، بجانب قلق نراه مشروعا مما تسرب من استعداد جناح قوي داخل الاخوان المسلمين في مصر لتلبية رغبة الإدارة الأمريكية وإعلان الالتزام بمعاهدة 'كامب ديفيد'. وحماس وإن نجحت في التوصل الى تفاهمات مهمة مع 'الجهاد الاسلامي' المنضم الى جهود المصالحة مع فتح. وترعاه مصر. تصبح في حالة لا تتحمل فيها ترف الابتعاد عن مصر؛ المكبلة بقيود معاهداتها مع الدولة الصهيونية. وكل هذا وضع قيودا على حماس عكستها تصريحات خالد مشعل بأنها ستلزم نفسها بالنضال السلمي، وتفضل المسار الدبلوماسي في اتصالاتها التي أجرتها الأسبوع الماضي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر.
ومن الممكن تبرير تردد وزراء الخارجية العرب، وحلفائهم الامريكان في ادانة المجازر الاسرائيلية، لو ان فصائل المقاومة هم من بادروا بالقتال، وما حدث عكس ذلك، فالصواريخ الاسرائيلية هي التي اغتالت الشيخ زهير القيسي الامين العام للجان المقاومة الشعبية، وبعض مساعديه، ليكون الامين العام الثالث الذي يتعرض للاغتيال بعد جمال ابو سمهدانة وكمال النيرب.
الامريكان كعادتهم ينحازون دائما للجلاد ضد الضحية، ويساندون تل أبيب على طول الخط.
ولم يكن ما صرح به الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي مفاجئا يوم السبت الماضي، وهو ينهي مؤتمره الصحافي الذي عقده في ختام اجتماع وزراء الخارجية العرب مع نظيرهم الروسي سيرغي لافروف؛ عندما قال 'ان الاجتماع لم يكن مخصصا لأحداث غزة، وان هناك العديد من القرارات الدولية بشأن هذه الاعتداءات لم تلتزم بها اسرائيل'!. وهذا أقصى ما تقدمه جامعة العرب.
محمد عبد الحكم دياب
2012-03-17
قصة جرحنا النازف في غزة هي باختصار قصة العنصرية والتطرف في أقصى درجاتها من جانب العدو الصهيوني، وباب في سِفر الهوان والمهانة فيما يخصنا نحن العرب في وضعنا الراهن. منا من ينام قرير العين بعد مشاهدة ما يجري على أرض فلسطين من استيطان وتطهير عرقي وإبادة ثقافية. ورغم الخروج العسكري من غزة في ايلول/سبتمبر 2005 إلا أن سكانه أدرجوا على قائمة التصفية والحصار الخانق، وقوات الاحتلال وإن كانت قد خرجت تخلصا من مأزقها ووقوعها في مرمى نيران المقاومة، فهذا يعني أن غزة استبسلت حتى أحالت حياة الاحتلال إلى جحيم باهظ التكلفة؛ وهذا لم يمنع استمرار التقسيم وقضم فلسطين قطعة قطعة، وتحولت إلى أشلاء ممزقة وأطلال محطمة.
كان من المفترض أن يكون خروج آخر جندي صهيوني من القطاع صباح الإثنين 12/9/ 2005، بعد احتلال دام ثمانية وثلاثين عاما، إيذانا بولادة جديدة تزيد من فعالية المقاومة ومن التفاف المواطنين حولها، فتتحول بقعة محررة من أرض فلسطين إلى نقطة انطلاق ومركز عبور إلى هزيمة الاستيطان وفك الحصار وإنهاء التمييز العنصري. وهو امر لم يحدث، وجاء العدوان الأخير في ظل وضع عربي في أسوأ حالاته، فجبهاته الثائرة شغلتها صراعاتها وانفلاتها وحروبها المشتعلة بين فرقها؛ وانكفاؤها بعيدا عن الاهتمام بما يدور حولها وعلى حدودها، واستسلمت للاختراقات وتركت إراداتها في مهب ريح تستجير من الرمضاء بالنار، ولأول مرة نجد 'ثوارا' يطلبون تدخلا خارجيا يحارب لهم معاركهم، وبذلك يستبدلون الاستبداد بالغزو والاحتلال.
ورغم ذلك وجدنا من يستمر في التآمر على فلسطين، وهو في حقيقة الأمر يتآمر على نفسه، ويتمادى في تقديم المال والسلاح والإعلام لـ'تحرير' أي بقعة من العالم إلا فلسطين؛ يذهب إليها مهرولا ويعطي ظهره للقدس 'عروس المدائن'؛معلنا صراحة إسقاط فلسطين من حسابه؛ مجنَّدا لخدمة العالم الصهيو غربي الذي أسقطها له من حساب الجغرافيا والتاريخ.. حبا في الحركة الصهيونية وانحيازا لها وطلبا لرضاها، ورياح الثورة التي هبت على المنطقة منذ نهايات 2010 واجهتها عقد وحروب سرية وعلنية؛ ثورات العرب بلا استثناء فقدت الوعي بالاستقلال الوطني، وعجزت عن مد بصرها عبر حدودها لترى المخاطر المحيطة بها.
والإنسان ليعجب كيف للمارد العربي الذي انتفض منذ أكثر من عام ألا يفرق بين عدو وصديق وبين شقيق وجار؟ وكيف لا يرى عدوه وهو يخترق ثوراته ويوجه بوصلتها في الاتجاه الذي يريده؟، وإن كنا نقر بأن الاستبداد والفساد والتبعية أعداء الثورة والثوار في الداخل، فهؤلاء تمت مواجهتهم بإجراءات 'ديمقراطية' وانتخابات وصناديق اقتراع ومقاعد في البرلمان، وتهافت على مواقع التشريع والمسؤوليات التنفيذية، وكان من الممكن أن تكون تلك إجراءات أكثر فائدة وتأثيرا لو تجاوزت الثورات العربية الانكفاء الذميم، وزادت ارتباطا ببعضها البعض.
كانت مصر على سبيل المثال تنتفض وتتحدى آلة مبارك البوليسية القامعة؛ عمل شبابها وشيبها.. رجالها ونساؤها على كسر الحصار والزحف نحو غزة. أما الآن فكثير من الثوار منشغل عنها واستغرقته مشاكله، وتطلعات نخبه؛ المتكالبون على المناصب والمغانم. وليست مصر وحدها على تلك الحال، فالعرب الآخرون باعوا فلسطين ومنها غزة؛ بوعود ورشاوى وفتن أعجزتها عن التقدم ولو خطوة للأمام، فنظامهم الرسمي مهلهل؛ لكنه متشبث بالبقاء، ويوشك أن يلفظ أنفاسه الأخيرة ومع ذلك يموت ولا يتخلى عن دور السمسار والعراب، والمستجيب لمخطط إفراغ الثورات العربية من مضامينها وعزلها عن جمهورها وعمقها الشعبي.
كانت فلسطين طوال القرن العشرين ملهمة للشعوب، ومحط أنظار العالم وقادة حركات التحرير، وكانت من محفزات الثورة والتمرد في المنطقة وما هو أبعد منها، وغرست في الوعي العربي والإنساني أن العدو واحد؛ يستوي في ذلك المتخفي خلف قناع الدين أو المذهب أو الطائفة، أو من يرتدي البدلة أو العقال. كانت فلسطين معيارا للسلوكين العام والخاص.. من وقف معها فقد وقف مع نفسه ومع المثل العليا، ومن تخلى عنها فقد تخلى عن ذاته ورمى بالقيم والمبادئ عرض الحائط.
كنا لا نفرق بين غزة أو القدس أو القاهرة وبين دمشق وبغداد وغيرها من عواصم العرب، وقرأنا الخرائط القديمة - خرائط سايكس بيكو - وعرفنا أنها رسمت لاغتصاب فلسطين، ونتابع الجديدة - فسيفساء الشرق الأوسط الجديد - المصممة لضمان أمن الدولة المغتصبة (بكسر الصاد) وضمان بقائها بتقسيمات وانسلاخات جديدة؛ بدأت بالفعل ولم تعد تنتظر صراخنا ولا شكاوانا، وصارت واقعا نلمسه في مواقع عدة على أرضنا وحولنا؛ ليبقى كيان الاغتصاب هو الأقوى والأكثر تماسكا على حساب كل ما يحيطه.
وهذا في وقت لم تعد فيه الآلة العسكرية الصهيونية قادرة على حسم الصراع عسكريا، وسبق لحملاتها أن فشلت في جنوب لبنان وفي غزة، ولو كانت مؤهلة للنصر لأبقت احتلال القطاع وحمت مستوطنيه بدلا من ترحيلهم والهروب بهم إلى الداخل. ونشطت الضغوط والمعونات والفتن والتحريض والتخريب تعويضا عن عجز الآلة العسكرية الأقوى على مستوى الإقليم العربي والشرق أوسطي، وشاعت ثقافة الفتنة وعقائد التحريض الديني والمذهبي والطائفي، ونجحت الحرب النفسية والحملات الاعلامية في تأليب العرب على بعضهم البعض، وعميت الأبصار والبصائر عن فلسطين وفيها الأقصى، وكأنها تقع فوق جزيرة نائية في عمق 'بحر الظلمات'.
العدوان على غزة عنوان لمرحلة؛ هان فيها العرب على أنفسهم فهانوا على الناس، وهي نتاج دور المال السياسي، وثقافة البترو دولار؛ الخادمة لأعداء فلسطين والعاملة من أجل 'التطبيع'، والضامنة لأمن وسلامة الدولة الصهيونية، والمختصة في تدمير كل بنيان يعزز الصمود ويعظم من المقاومة. والعدوان الصهيوني على غزة لا يستهدف المقاومة وحدها بل يستهدف ثورات المنطقة العربية، ويعمل على رد الاعتبار لمنظومة الاستبداد والفساد والتبعية، وينشط في تعطيل مسيرة الثورات وحرف مسارها.. ويساعد الثورة المضادة على استعادة زمام المبادرة.
ولا يجب إغفال 'العامل الإيراني' كسبب رئيسي في إشعال نار العدوان على غزة، فبعد التهديدات التي وُجهت لايران بخصوص الملف النووي، وفشل الآلة العسكرية والأمنية الصهيونية في تدمير هذا الإنجاز لأسباب إيرانية واقليمية ودولية، وما ينطوي على ذلك الفشل من خطر على البنيان العنصري للدولة الصهيونية، وكانت قد جربت حظها في جنوب لبنان في 2006، وحين عجزت عن كسر المقاومة الإسلامية في غزة 2008/ 2009.
ولفتت صحيفة هآرتس الصهيونية الأنظار في 12/3/ 2012 إلى أن الداعين للهجوم على ايران لم يجدوا عرضا أشد إغراء من الإغارة على غزة. وان وضع 'مليون مواطن تحت حمم النار' ما هو إلا عينة لما يُتوقع ردا على التهديد الذري الايراني، ووضع سبعة ملايين يهودي تحت تهديد النار وخطر الاشعاع الذري.
بدا العدوان 'بروفة' في ظروف مواتية من وجهة النظر الصهيونية.. فالعالم منشغل بسوريا. وتل أبيب متأكدة من عدم حدوث ضرر يذكر - حسب قول الصحيفة - نتيجة الهجوم على ايران، بعد أن أثبتت القبة الحديدية جدواها بنسبة 95' حسب ما صرحت به مصادرها العسكرية في تل أبيب. وترى ان التصعيد ضد غزة مفيد للدولة الصهيونية. وقد وضعت في الحسبان أنه لن يمر دون رد من 'اللجان الشعبية' أو من 'الجهاد الاسلامي' على عمليات الاغتيال، التي راح ضحيتها الامين العام للجان الشعبية زهير القيسي.
ووُصف اتخاذ قرار اغتيال القيسي بأنه ترجمة لاستراتيجية 'الرد المتوازن'. وتعني ردا متوازنا يواجه انطلاق الصواريخ من غزة، وتأكد ذلك بتصريح يقول بأن الدولة الصهيونية 'لا تطمح الى تصعيد الوضع'. وهل هذا صحيح؟.
الواقع لا تكفيه التصريحات إنما يؤكده أو ينفيه ظرف حماس الراهن، الذي لا يسمح لها بالتصعيد. بسبب أوضاعها الداخلية، وانتقال قيادتها من سوريا بحثا عن ملاذ آخر، وعدم وصول مفاوضاتها مع فتح إلى اتفاق على حكومة مؤتلفة، بجانب قلق نراه مشروعا مما تسرب من استعداد جناح قوي داخل الاخوان المسلمين في مصر لتلبية رغبة الإدارة الأمريكية وإعلان الالتزام بمعاهدة 'كامب ديفيد'. وحماس وإن نجحت في التوصل الى تفاهمات مهمة مع 'الجهاد الاسلامي' المنضم الى جهود المصالحة مع فتح. وترعاه مصر. تصبح في حالة لا تتحمل فيها ترف الابتعاد عن مصر؛ المكبلة بقيود معاهداتها مع الدولة الصهيونية. وكل هذا وضع قيودا على حماس عكستها تصريحات خالد مشعل بأنها ستلزم نفسها بالنضال السلمي، وتفضل المسار الدبلوماسي في اتصالاتها التي أجرتها الأسبوع الماضي مع المجلس الأعلى للقوات المسلحة في مصر.
ومن الممكن تبرير تردد وزراء الخارجية العرب، وحلفائهم الامريكان في ادانة المجازر الاسرائيلية، لو ان فصائل المقاومة هم من بادروا بالقتال، وما حدث عكس ذلك، فالصواريخ الاسرائيلية هي التي اغتالت الشيخ زهير القيسي الامين العام للجان المقاومة الشعبية، وبعض مساعديه، ليكون الامين العام الثالث الذي يتعرض للاغتيال بعد جمال ابو سمهدانة وكمال النيرب.
الامريكان كعادتهم ينحازون دائما للجلاد ضد الضحية، ويساندون تل أبيب على طول الخط.
ولم يكن ما صرح به الأمين العام لجامعة الدول العربية نبيل العربي مفاجئا يوم السبت الماضي، وهو ينهي مؤتمره الصحافي الذي عقده في ختام اجتماع وزراء الخارجية العرب مع نظيرهم الروسي سيرغي لافروف؛ عندما قال 'ان الاجتماع لم يكن مخصصا لأحداث غزة، وان هناك العديد من القرارات الدولية بشأن هذه الاعتداءات لم تلتزم بها اسرائيل'!. وهذا أقصى ما تقدمه جامعة العرب.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق