لأني لم أعترف يوماً بسوريا الشمالية والجنوبية، وبشرقها وغربها، أو مجزأة عن مكملاتها الجغرافية، ولأن خارطتي ويقيني أنها أم واحدة لأبناء، منهم الأوفياء المخلصين البررة، ومنهم المعوقين فكرياً ووطنياً، ومنهم الدخلاء، الذين ما علموا قط معنى الانتماء لأرض الوفاء.
ولأن أمي احتضنها ثرى دمشق عاصمة أقدم أبجدية في التاريخ، وأعرق عاصمة عرفتها البشرية، فإن وفائي لتلك الأرض وكل ما تحمله من معانٍ سامية. أحمل منها ذكريات جميلة ومرّة، وحنيني لها ما زال ينبض في عروقي، ورغم بعد المسافات بيننا، فالحبل السري يربطنا، وتسري فيه روحي، التي تعلقتْ بمائها وياسمينها، وبأرضها وسمائها، لأحلف بها بعد الله، وأسير في أزقة النسيان، كما تركتها، دامعة العين، نازفة القلب، لفراق من أحببت، ووداع من حملوا هذا العشق في دواخلهم، وفي العلن، وتكبدوا الآلام وهم يشاهدون الأم الحنون، تئن من طعنات الغدر والجبن والخيانة.
أخوة التراب يغفرون ولا ينسون، يعلمون ولا يجهلون.. غاب لفرط انتشائهم بفرقتنا، أن دمشق نبض قلب القدس، وتوأم بغداد العروبة، نحن أبناء الأبجدية الأولى، وأحفاد من نحتوا بالصخر حضارة إنسانية، لا شرعة الغاب.
في عرسك يا شام، تزهر ساحاتك بالياسمين الدمشقي، وتلوح أعلام الحلم القادم، وستبقين أجمل الأحلام، وفي أحزانك جليلة شماء، والكبرياء من سماتك. فارفعي مشاعل الصبر من بين أكداس الخوف والهواجس، ولا تتمنعين.
نحن منك وإليك ترنو عيوننا، وترفرف أجنحة القلوب شوقاً لرؤياك، يا ابنة الأكارم، اعذرينا أو اعزلينا، فما أروع العتاب بين الأحبة، وما أعمق المودة بعد التكدر، وعزل المحب حرام ونكران، وإن صغرنا بعيونك، لكن قلبك أكبر وأعظم من كل خطايانا مهما قلنا وكتبنا، فالمداد يجف أمام عظمة صمودك، والأوراق تتبعثر لرهبة محياك، طوبى ليمناك إن رُفعت بوجه الظالمين للعلياء، وسحقاً لهم حين جاؤوك زاحفين كالأفاعي يبثون السموم، غادرون بطبع اللئام، حاسدين، تقفين من قاسيون الأشم، موشومة بنسيم الطهر، والعهر نقيصة الجبناء. لو كانوا غير ذلك، لواجهوك، ولن يجدوا سوى الصد لنفوس تلعثمت على عتباتها الأضداد، وتاهت منها المعاني.
إن جلتَ في أحيائها يوماً، تعلم كيف تناجي الأرض الإنسان، وتدرك من عبق التاريخ، تلاحم الأجساد وإتلاف الأرواح، وانصهار لا ينفصل عن الذات، فليست سوريا التي تركع، وليس أبناؤها بالأذلاء، بل هؤلاء غرباء القلب واللسان، العقل فيهم نسي عنوانه، والضمير أذاعوا هجرانه.
في ضحاك تلهّف ظمآن، وعلى شواطئك، أمان عاشق تلهبه ذكريات الطفولة وبعض أماني رحلت وبقيت غريبة في دفاتر الزمان. هناك تركت على حيطان الماضي، صور وحروف دونتها من ربكة الوجع، عصية على النسيان.
آخر هاتف من لازمني من المهد إلى لحده، والدي رحمه الله، ما زالت كلماته تلح علي، في ليلي ونهاري.. الله يعمرك يا شام، فأنت الوطن الثاني، والطير مهيض الجناح، الذي غادر جنوبك هلعاً من كائنات متوحشة، عاد ينشد في سمائك، عزف أناشيدي. جمل قالها، عاشق سوريا الكبرى قبلي، وبعد رحيله، ما زالت تسكنني، فإن عدت إليك، عاد ذلك الزمان والمكان، وإن ذاب في حشاك من رحلوا، فستبقين في روحي ووجداني، ما دمت حيّة.
يا شام..آه يا شــام، أنت السكن وإليك لجأنا بعد تشرد، فلن ننسى ابتسامات أهلك وكرمهم، وبين هذا وذاك، تظلين الأم الجامعة، لا تفرقين أصحاب الدرب الواحد.
هي الحقيقة في زمن الباطل المتحول، ومن كان على حق، تصيبه النوازل، والصمود شيم العظماء، ومن كان على غيّه، له جولة، وبعدها ترمي به أمواج تقذف النفايات.
أمنا الحبيبة، لا تهوني ولا تحزني، فما بعد الشدّة إلا الفرج، وما بعد العواصف إلا شوك يحصدونه في حلوقهم وبطونهم، وتنقشع الغمامة، مبشّرة بموعد مشرق، وحب متجدد، وأمل لا بد أن يتحقق لمن آمنوا، بأن سوريا الكبرى تجمعنا، وحلم الوحدة يوحدنا، وهدف حرية الأوطان، مذهبنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق