03 مارس 2012

'شيطنة الثورة' وإشكالية إلغاء الذاكرة الوطنية والتاريخية!

عن صحيفة "القدس العربي" اللندنية

'شيطنة الثورة' وإشكالية إلغاء الذاكرة الوطنية والتاريخية!
محمد عبد الحكم دياب

2012-03-03


توقيت حديث الشيخ محمد بديع المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين جاء معبرا عن توجه التيار القطبي المسيطر على الجماعة، وهو تيار يمثل حاضنة للعنف والدم، وغير قادر على التكيف أو التعايش مع المجتمع بما فيه من اتفاق وخلاف، في الآراء أو العقائد.
ويعيش على بث الكراهية والفرقة والإقصاء. ومشاكله ليست خارجه فقط إنما في داخله وبين قياداته وقواعده. فلفظ جيل الشباب، الذي لم ينفذ قرار مكتب الإرشاد بعدم الخروج يوم 25 يناير، وابتعد مكونا 'حزب التيار المصري'، ونفس الشيء حدث مع جيل سبعينات وثمانينات القرن الماضي، مما اضطرهم لتشكيل 'حزب الوسط الإسلامي' بقيادة أبو العلا ماضي.
ووصلت العلاقة مع عبد المنعم أبو الفتوح، وهو من جيل السبعينات كذلك، ومرشح محتمل لرئاسة الجمهورية، وصلت العلاقة معه إلى طريق مسدود، فاستبعد وفصل من الجماعة.


وعلاقة القطبيين والمتطرفين متوترة مع الجيل المخضرم من أمثال الشخصية الإسلامية البارزة كمال الهلباوي، المتواصل مع تيارات وقوى وطنية وقومية ودينية عديدة، وسألته وأنا أعد هذه السطور عن وضعه الحالي في الجماعة، فما كان منه إلا أن أحالني إلى تصريح نائب المرشد العام رشاد البيومي الذي قال فيه 'ان الهلباوي ليس له وضع'، ولما استفسرت عن ماذا يعني البيومي؟ رد قائلا: ليس المسؤول بأعلم من السائل.. مستطردا 'إذا عرفت المعنى أرجوك إبلاغي'!!.


في مرحلة يسعى الوطنيون والثوار المخلصون إلى لم الشمل والبحث عن حدود وقواسم مشتركة يجتمعون عليها، فيها توكل عملية 'شيطنة' جمال عبد الناصر وتكفيره إلى الشخصية الأولى في قيادة الإخوان المسلمين، وهي الجماعة التي ضمت إلى تحالفها الانتخابي 'حزب الكرامة العربية' وهو حزب إنحاز لأحلام عبد الناصر، على حد قول زعيمه ومؤسسه، فكيف يضع يده في يد الكفرة والشياطين؟ أليس هذا انفصاما؟ إن لم يكن نفسيا فهو سياسي!!.
الشيخ بديع استأنف في حديثه المطول لصحيفة 'الحرية والعدالة' الناطقة باسم الحزب الذي تحمل اسمه الأسبوع الماضي 'شيطنة' جمال عبد الناصر. كسلاح لا يملك غيره مع شخصية بذلك الحجم. ونسي أن هناك مياها غزيرة تدفقت وجرت في أنهار الحياة، محليا وعربيا وعالميا، غيرت وطورت وعدلت نظم وأساليب وأفكار وأيديولوجيات من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ويبدو أنه لم ير المستجدات ولا الضرورات التي فرضت نفسها على الواقع الراهن. في ظروف نعيش فيها التاريخ وكأنه يعيد نفسه. حيث يذكرنا النهج المتبع لـ'شيطنة' ثورة 25 يناير، بالنهج الذي اتبع مع ثورة يوليو 1952 كان بذات الأدوات ونفس القوى.
وأريد هنا أن أسجل جملة اعتراضية أرجو ألا تكون خارج سياق الموضوع، وهي أن من يريد تقييم عبد الناصر عليه أن يُقيمه كثائر، وليس كضابط محترف يرتدى زيا خاصا بلون خاص، وهكذا كان محمد علي، وأحمد عرابي، ومحمود سامي البارودي، وعزيز علي (المصري). فمعايير التعامل مع الثوار غير التعامل مع من التقليديين، مدنيين ودينيين وعسكريين، والثورة ليست وظيفة والانتماء لها ليس حكرا على جيل أو فئة أو مهنة أو عقيدة، فالثوار يحصلون على جدارتهم من دورهم في أي زمان ومكان.
وبعد الجملة الاعتراضية، ليعلم الجميع أن 'الشيطنة' الراهنة تفسر على وجهين.. الأول أنها ورقة اعتماد لإثبات الولاء للغرب وللإدارة الأمريكية ولممالأة المنظومة الصهيونية، التي كرهت عبد الناصر وتآمرت عليه.
والوجه الثاني هو أنها وسيلة لإلغاء الذاكرة الوطنية والتاريخية، وشعب بلا تاريخ شعب بلا شخصية، وأمة بلا ذاكرة أمة بلا هوية، تعيش التيه بكل معانيه! وهذا أشعل صراعات وحروبا أسقطت الوطن العربي والعالم الإسلامي تحت سنابك الهيمنة الغربية، وتحت رحمة التطبيع الصهيوني، وأدخلت إلى حقبة التقسيم و'الكنتونات' الطائفية والمذهبية.
ولا يمكننا تناول حديث تصريحات الشيخ بديع إلا ضمن هذا السياق. ومن المهم التعرف على أفكاره وعلى منطلقاته التي تحرك موقفه. فهو أحد صقور الإخوان المسلمين، ومحسوب على القطبيين، نسبة للشيخ سيد قطب، الذي بلور نظرية التكفير وأصّلَه في كتابه 'معالم على الطريق' الذي صدر في ستينات القرن الماضي، وانطلق من موقف وحكم واحد على جميع المجتمعات الحالية، أساسه 'الجاهلية الحديثة' باعتبارها الأشد والأكثر ضلالاً من جاهلية ما قبل الإسلام حسب ما جاء في النظرية، وفي هذا يقول الشيخ سيد قطب 'إن الجاهلية ليست فترة تاريخية سبقت بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، ولكنها حالة تتكرر كلما بعد الناس عن منهج الله واتبعوا الطواغيت، فحكام العالم بوصفهم الراهن كفار.. والعالم أجمع في وضعه الراهن ليس إلا دار حرب بالنسبة للمسلم لأن دار السلام هي التي تنفذ شريعة الإسلام'!!.
ونهج التكفير استعاد قوته بين صقور الإخوان المسلمين منذ عام 1965 وشق طريقه بداية بإنشاء تنظيم تزعمه سيد قطب نفسه، ومعه كل من عبدالفتاح إسماعيل، وعلي عشماوي، وأحمد عبدالمجيد، وصبري عرفة، ومجدي عبدالعزيز، وزينب الغزالي. وأنيط بكل عضو من هؤلاء بمسؤوليات نوعية وإقليمية. وأتخذ الشيخ سيد قطب محمد يوسف هواش نائبا له، وعلي عشماوي مسؤولا عن القاهرة والتدريب والسلاح، وعبدالفتاح عبده إسماعيل مسؤولا عن الشؤون الدينية والمالية والاتصالات الخارجية وتنظيمات المنطقة الشرقية، وأحمد عبدالمجيد عبد السميع مسؤولاً عن الأمن والمعلومات وتنظيمات الصعيد، وصبري عرفة الكومي مسؤولا عن الدقهلية والغربية ودمياط، ومجدي عبدالعزيز متولي مسؤولاً عن الشؤون العسكرية ومندوب الاتصال بين الإسكندرية والبحيرة. ونشط التنظيم في تجميع أعداد من الشباب ورباهم على أفكار مبادئ التكفير واستخدام العنف بالأسلحة النارية، وتصنيع القنابل والمتفجرات وممارسة الرياضيات العنيفة، والتمرين على المهام السرية، كتجميع المعلومات عن مقار الشرطة، ومحطات توليد الكهرباء والمياه، والتليفزيون والاذاعة والسفارات الأجنبية، وكافة المنشآت العامة والحيوية، وتقديم تقارير سرية عن كيفية حراسة هذه المنشآت وعدد الحراس وإعداد رسوم تخطيطية لها، كما تم تدريب بعض أعضاء التنظيم على اقتفاء الأثر ونقل الأخبار والاشاعات، وترجمة البحوث عن إعداد المواد الناسفة خاصة مادة 'النتروغلسرين' الناسفة إلى العربية، وكُلف آخرون بتقديم تقارير عن الصحافة والصحافيين ودور الإعلام، وتمرير مقالات وموضوعات سياسية تطعن في الحكومة، تصفها تارة بالعمالة للأمريكان وتارة أخرى بالتبعية للسوفييت، وتعلم أحد أفراد التنظيم مهنة 'الزنكوغراف' لصناعة الأختام المزورة، وتمكن بعض المهندسين الكيميائيين بمؤسسة الطاقة الذرية من تحضير زجاجات المولوتوف الحارقة بمعامل هذه المؤسسة.
يذكر رياض حسن محرم في دراسة له نشرت في سبتمبر الماضي على موقع 'الحوار المتمدن' أن المرشد 'محمد بديع' اعترف أثناء المحاكمة، وكان وقتها معيدا بكلية الطب البيطرى بجامعة أسيوط بإنتمائه للتنظيم، وأفشى معلومات تفصيلية عن أسماء من تعرف عليهم، بمن في ذلك طلاب سوريون يدرسون بالجامعات المصرية أثناء الوحدة، ويذكر محرم بعض ما جاء في أقواله بمحضر التحقيق ما يلى: 'فى سنة 1962 أو قبل كده، تعرفت عن طريق زميل لي في الكلية على سوري يدعى محمد سلمان النجار، وطالب سوري في كلية الطب معانا.. كان سابقني بسنة يدعى أحمد فارس. ومن ترددي على محمد النجار توثقت الصلة بيني وبين أحمد فارس ونشأت بيننا صداقة لاتحاد ميولنا الدينية. وفى العام نفسه سنة 1962 سافر محمد سلمان النجار واستمرت علاقتي بـأحمد فارس، وقبل ما يسافر إلى سورية بمدة بسيطة بعد إنهاء إجازته، عرفني بـمحمد عبدالمنعم شاهين الشهير بـعاطف، ومرسي مصطفى مرسي في منزل عاطف، عشان نكون مجموعة منا'. وهكذا أفشى بديع تفاصيل عن زملائه في التنظيم وهو ما لم يطلب منه.
وأعطت الدراسة نبذة عن الصراع المتجذر تاريخيا بين التشدد والاعتدال داخل جماعة الإخوان المسلمين، منذ بداية الصراع الذي نشأ بين الشيخ حسن البنا والجهاز الخاص (السري)، وكذلك بين الهضيبي المرشد الثاني ونفس الجهاز، وإعتبار عمليات الإغتيال قبل ثورة 1052 وبعدها بما في ذلك الإعتداء على عبدالناصر في 1954 من عمله، والإدعاء أن من قاموا بتلك الأعمال خرجوا عن الخط الأساسي للجماعة، وأن تنظيم 1965 تشكل من جناح متطرف تبنى أفكارا تخالف النهج الوسطي الذي جاء في كتاب المرشد العام الثاني حسن الهضيبي 'دعاة لا قضاة'، وهما جناحان تعايشا في بنية الجماعة وهياكلها، وتعبر عنه كثير من أدبياتها، وظهر ذلك جليا في تعظيم أفكار ونهج الشيخ، وعدم تناولها بملاحظة أو نقد في كتابات الإخوان. ولهذا تبوأ القطبيون مواقع ومسؤوليات مفصلية، وشغلوا مساحة كبيرة ومؤثرة وحاكمة في بنية التنظيم، إلى أن تمكنوا من السيطرة على الجماعة في انتخابات مجلس الإرشاد الحالي في 2010 بمن في ذلك منصب المرشد العام الحالي محمد بديع. والقطبيون لم يتعودوا نقد الذات، وليست لديهم رغبة في مراجعة الأفكار، كما حدث من جماعات إسلامية أخرى، ويرى رضا محرم إمكانية حدوث ما أسماه المحنة الرابعة وربما الأخيرة لهم حسب قوله. وجريمة عبد الناصر التي يعاقب عليها، كما يعاقب صناع ثورة يناير، هي انحيازه للشعب والأمة، وتصديه للاحتلال والاستعمار، وسعيه لإنصاف المظلومين ومساندة المحرومين، وعمله من أجل فلسطين والوحدة العربية، ووقوفه مع الساعين للتحرر في إفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، ولا بد له من دفع ثمن عدائه للسياسة الأمريكية ومقاومته للعنصرية الصهيونية، وسعيه للمساواة وعمله على تحقيق العدل الاجتماعي بين الجميع.

قال بديع في حديثه أن ما حدث في الفترة الناصرية هو 'تحطيم القيم والناس بالقهر والظلم، ومن مظاهر هذا السحق التمسح بالاشتراكية والقول إن الاشتراكية هي أصل في الإسلام وإن الصحابي الجليل أبا ذر كان اشتراكيًّا'. وكأنه لم يقرأ مؤلف المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية، الراحل مصطفى السباعي، وكان عنوانه 'اشتراكية الإسلام'، وكان من أهم الكتب التي اطلعت عليها في صغري، وأبحث عن نسخة منه لنشره ثانية ليطلع الشباب على اجتهادات من سبقوهم!


ان من 'شيطن' عبد الناصر لم يتعرض للسادات، أساس ما نحن فيه من بلاء واستسلام للدولة الصهيونية، فصار مبارك كنزا استرتيجيا لها، أليس هذا ملفتا للنظر؟

ليست هناك تعليقات: