في فيلم تأثير الفراشة الأمريكي يصطدم البطل بواقع مسدود فيسرع للاختباء تحت مائدة أو في ركن الحجرة ويخرج كراسته من مخبأها ليقرأ منها على عجل بعض ما خطه من أحداث حياته فيعود إلى نقطة البداية ليبدأ مساراً مختلفاً يفضي به إلى مصير مغاير تماماً للأحداث السابقة, فماذا لو كنا نحن الآن نمتلك آلة الزمن وعدنا إلى شهر فبراير سنة 1954 وغيرنا خياراتنا فهل كانت الأمور ستفضي بنا إلى غير ما نحن عليه ؟
سؤال شغلني منذ الأمس بعد أن قرأت تعليق الصديق العزيز الثائر أ. صلاح بديوي ذلك الضمير الثوري النقي الذي يمشي على قدمين على مقال كتبته عن عبد الناصر بعنوان " الزعيم الحنجوري " محاولاً إثنائي عن الإتجاه للكتابة عن عهد عبد الناصر بدعوى أن هذا لا يفيد أحداً محاولاً سرد بعض محاسن الرجل من وجهة نظره, فرددت عليه بتعليق على موقع الجورنال موضحة أسباب اتجاهي للكتابة عنه وأن العلم بالتاريخ هو أمر لا غني عنه لبناء المستقبل, كنت بالأمس أنوي أن يكون مقالي عن تلك الوقفة الذليلة التي وقفها قائد الانقلاب في موسكو أمام بوتين وانحناءة رأسه أمامه وتلك الحالة العجيبة من المسكنة والخضوع التي بدا عليها أمام بوتين, لولا تعليق الصديق العزيز أ. صلاح بديوي, وها أنذا أكتب من جديد عن الزعيم الحنجوري أبين فصلاً آخراً من فصول التاريخ الذي يتكرر الآن كما لو كانت مصر تعيش فيلم تأثير الفراشة الشهير, فعبد الناصر هو الحاضر الغائب حتى بعد وفاته سنة 1970, بل عاد عبد الناصر ليطل برأسه من جديد بعد الإنقلاب بصورة فرضت نفسها بشكل أكبر على المشهد وبدا على الرغم من غيابه عن المشهد حاضراً بقوة, فوزير الدفاع لا يترك فرصة الا ويحاول فيها التشبه بجمال عبد الناصر حتى في زيارة موسكو واللعب على نغمة الاتجاه إلى الشرق وتغيير موازين القوى في المنطقة وصفقة السلاح الروسي إلى أخر تلك الهلاوس المضحكة التي لابد أنها من ابداعات عقل كاهن الهزيمة هيكل والتي عرتها و كشفتها تماماً صورة وزير الدفاع وهو يقف منحنيا مطأطأ الرأس كسيراً أمام بوتين
بالإضافة إلى تصريحات السفير الروسي التي قال فيها أن الحديث عن صفقة سلاح بهذه التفاصيل هو (( اجتهاد )) من الإعلام المصري, وربما راقت تلك الصورة الزائفة التي حاول الإعلام رسمها لمؤيدي الانقلاب, في حين دفع هذا كثيرين كانوا مخدوعين في الصورة النمطية التي تقدمها وسائل الإعلام المصرية منذ ستين عاماً, للبحث في حقيقة عبد الناصر وهل كان فعلاً ذلك المناضل الذي كافح من أجل قضايا أمته وحارب الإستعمار أم أنه كان مجرد صنم صنعته آلة الدعاية الناصرية ليخدم أهدافاً بعينها ؟
ما دفعني منذ البداية لفتح هذه الملفات التي كانت تصنف في خانة المحرمات في الإعلام المصري هو ذلك الشبه الشديد في الأحداث ووجود هيكل فيلسوف الهزيمة خلف الستار والذي برز كلاعب أساسي يحرك الأحداث بلا ابتكار ولا رؤية متناسياً ربما بسبب سنه التي تخطت التسعين أننا الآن في عام 2014.
كلما تعمقت في سيرة عبد الناصر مؤسس دولة العسكر, كلما ازددت قناعة أن علاج الكوارث التي جرها الانقلاب على مصر يقتضي أولاً فتح الجرح المغلق منذ 60 عاماً, وبالأمس نشرت على صفحتي مقتطفاً صغيراً من كتاب " أسرار حركة الضباط الأحرار والإخوان المسلمين " حكى فيه كاتبه حسين محمد حمودة وهو أحد الضباط الأحرار وزميل عبد الناصر في التنظيم كيف روى له عبد الناصر دور الإخوان المسلمين في حماية السفارات الأجنبية وتأمين طريق السويس للإبلاغ عن أي تحركات للقوات البريطانية, وحكى كيف نكل بهم عبد الناصر حتى قال بالحرف في صفحة 153 من نفس الكتاب "
الحقيقة للتاريخ كما ثبت من تسلسل الحوادث بعد الثورة أن عبد الناصر لم يؤمن قط بالفكر الإسلامي وإلا لما بطش هذا البطش بالإخوان المسلمين, ذلك البطش الذي لا يصدر إلا من عدو للفكر الإسلامي وعدو لله ورسوله.", كانت هذه الشهادة الصادمة هي ما دفعني لمعاودة البحث في تاريخ الصدام بين عبد الناصر والإخوان المسلمين, كيف تحول الرجل الذي بايع الإخوان على السمع والطاعة سنة 1946 وأقسم على المصحف والمسدس في شقة صغيرة بحي السيدة زينب بل وكان مسؤولاً عن تدريب عناصر الإخوان التي كانت تهاجم معسكرات الإحتلال الإنجليزي في منطقة القناة كما روى بالتفصيل صديقه وزميله في تنظيم الضباط الأحرار خالد محيي الدين في كتابه " الآن أتكلم ", إلى أعدى أعداء الإخوان المسلمين بل وأقدم على إعدام رموزها الذين كانوا قادة له في السابق ؟
كيف أقدم الرجل الذي وقف على قبر حسن البنا ليقول " نحن على الدرب سائرون " على إصدار الأوامر بتنفيذ مذبحة سجن طرة سنة 1957, ففي سنة 1954 قام مجلس قيادة الثورة بعزل الرئيس محمد نجيب الذي كان ينادي بعودة العسكر إلى ثكناتهم فخرجت مظاهرات عملاقة في انحاء القاهرة أثارت الذعر في قلوب العسكر, عبرت المظاهرات التي خرج أغلبها من جامعة القاهرة ومدارس الجيزة طريقها إلى ميدان التحرير ففتح الجيش عليها النار فسقط عدد من الشهداء, فازدادت المظاهرات مما اجبر عبد الناصر وزملاءه على إعادة الرئيس محمد نجيب إلى الحكم ولكن المظاهرات لم تنقطع, فانطلق طوفان هادر من البشر إلى ساحة قصر عابدين يحملون ملابس الشهداء المضرجة بدماءهم, وهم يهتفون " دم الشهدا بدم جمال " كان المتظاهرون يريدون القصاص من جمال عبد الناصر على مقتل إخوتهم الطلبة حتى شقت الطريق بينهم سيارة مكشوفة وبها القاضي عبد القادر عودة والذي شاركهم الهتاف " دم الشهدا بدم جمال " ثم صعد إلى القصر لتهنئة الرئيس محمد نجيب بعودته, كان محمد نجيب يخطب من شرفة القصر أمام جموع من المتظاهرين الغاضبين لدماء إخوتهم الشهداء ويعدهم بالديموقراطية وبالحكم النيابي ويطلب منهم الانصراف, فلم يطعه أحد, فطلب الرئيس محمد نجيب من المستشار عبد القادر عودة أن يستخدم تأثيره ليصرف المتظاهرين من الميدان, ويبدو ان المستشار عبد القادر عودة كان مفرطاً في حسن ظنه بالناس فدعى المتظاهرين للانصراف, على الرغم من موقفه السابق مع عبد الناصر حينما حثه على التراجع عن قرار حل جماعة الإخوان المسلمين خوفاً من تهور أحد الشباب فسأله جمال عبد الناصر مستهيناً " كم عدد الإخوان؟ مليونان، ثلاثة ملايين... إنني مستغنٍ عن ثلث الأمة، ومستعد للتضحية بسبعة ملايين إذا كان الإخوان سبعة ملايين"، وهنا غلب الذهول الشهيد "عودة"، وقال في ثورة: "سبعة ملايين ثمنًا لحياة فرد... ما أغناك عن هذا يا جمال!" وهو الموقف الذي ذكرته بالحرف موسوعة الويكيبيديا والتي سيتهمها البعض الآن أنها عضو بالتنظيم الدولي للإخوان المسلمين, على الرغم من هذا الموقف خطب المستشار عبد القادر عودة في المتظاهرين ثم قال لهم " انصرفوا في آمان " فخلي الميدان عن بكرة أبيه في دقائق معدودة ....
دفع الشهيد عبد القادر عودة حياته ثمناً لخطأه هذا حين تم اعتقاله بعد ذلك بخمسة أيام ثم اعدم شنقاً, الآن عدنا لسنة 1954 ولكن لم يخرج علينا أي من قيادات التحالف الوطني ليطلب من المتظاهرين في الشوارع الانصراف إلى بيوتهم, وما نراه الآن من قتل ومواجهة تأخر 57 عاماً, كان مقرراً لهذه المواجهات أن تجري سنة 1954 ولم تتعفف قوات الجيش وقتها عن فتح النار على المتظاهرين ولم يكن عبد الناصر الذي نقل عنه بعدها قائد سلاح الطيران في مجلة روز اليوسف أمره بضرب مظاهرات الطلبة سنة 1967 بالطيران, ليتعفف عن فتح النار مجدداً على الطلبة والمتظاهرين حتى لو أفنى في سبيل الكرسي 7 ملايين مصري كما قال, ثبات المصريين في الشوراع الآن هو ما يدفع وزير الدفاع المنقلب إلى التمسك أكثر بالعنف, بل أن حتى تمسكه بمنصب الرئاسة وإن كان رغبة دفينة لديه ربما لتعويض نقص, فإنه أساساً لتجنب المسائلة على الدماء التي سفكت منذ أن قام بانقلابه, مصر الآن تعيش تأثير الفراشة, فقد عدنا إلى سنة 1954, ولكن الزخم الثوري في شوارع مصر لا يخفت بل أن الأعداد تزيد والمصريين أكثر وعياً وإدراكاً الآن, ووسائل الإعلام متاحة الآن عن ذي قبل والرغبة في إزالة حكم العسكر من مصر وتحريرها تزداد اشتعالاً مع الوقت ولا تخبو شعلتها وكأن الله أراد أن يسدل الستار على تلك المرحلة الكئيبة البائسة من تاريخ مصر بثورة يتصرف فيها العسكر كعسكر 54 بينما يواجههم ثوار يفكرون بعقلية 2014, بل حتى اختلاف الصفات الشخصية بين مؤسس حكم العسكر وبين من سينتهي في عهده حكمهم, فالأول كان يتمتع بذكاء فطري وقوة شخصية وثقافة ربما كانت من مكتسبات التعليم وقتها, أم هذا الأخير فكما رأينا ضعيف الشخصية يحني رأسه وينكسر لمن فوقه كما فعل أمام بوتين, ضحل الثقافة, تكشف تصرفاته وردود أفعاله عن مستوى ذكاء ضعيف إذا ما قورن بذكاء عبد الناصر, الشبه الوحيد بينهما هو أن عبد الناصر كان يعيش سنة 1954, بينما وزير دفاع الإنقلاب يعيش في 2014 بعقل ينتمي إلى 1954.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق