من أغرب الأطفال الذين يمكن أن تقابلهم في حياتك لم يتجاوز الخامسة من عمرة ووجهه يحمل شدة وصرامة وعدوانية رجل في الخمسينيات اعتقد أنني لم أره يبتسم أبداً إلا وكأنه يخاف أن يسقط عن وجهه هذا القناع الذي تغلغل بين اللحم والدم فصبغة صبغة غريبة ، والحق أنني رغم ضيقي الشديد من عدوانيته التي لا تنقطع خاصة وأنه تعود ضرب الأطفال لا لشيء اللهم إلا لأنهم يذكرونه بهذا الشبح القابع في أعماق نفسه وهي الطفولة بما تحمله من براءة ولعب , إلا أنني لا أنكر أنه شغل مساحة كبيرة من تفكيري ، فالمشروع الميدو هذا هو إفراز لهذا العصر الذي نحياه فوالديه وهما من أرثي لحالهما أكثر منه ينشأه أن يعتمد على نفسه في العدوان على الغير وأن يستخدم خامات البيئة المتاحة لعدوانه وفرض هيمنته وسطوته على الأطفال في الشارع وأهمها الحجارة فليس المهم أن يقتلع لأحد عينية أو أن يفتح لأحد رأسه الأهم ألا يرجع إليهما يبكي من أحد مهما كانت الخسائر البشرية والتقنية ، ولأن المشروع الميدو مشروع قومي تتبناه كل البيوت المصرية اليوم فمشكلة المشاكل أن ميدو هذا يجد نسخاً أشد شراسة منه فيفضل حفاظاً على تقاليد وتعاليم والديه أن يتراجع عن مواجهتهم ولكي لا يرجع مهزوماً ويمر يوم دون أن يسجل فيه لوالديه بطوله فذة فإنه يبطش بمن هم دونه سناً وقوة ، وشهادة للتاريخ فأبوية رغم علمهما بهذه الهزائم النفسية لميدو إلا أنهما يقبلان منه نصف نصر على هزيمة كاملة ، وأجدني وأنا أتأمله أنظر للغد القريب فإن هذا الميدو ومن على شاكلته مشاريع لشبيحة وبلطجية في المستقبل القريب والأهم أن عقلية الآباء أصابها الخبل في نظرتها للحياة وحلمها لأبنائها ، كانت أمي تحدثني وأنا صغير عن حلما في أن أكون طبيباً ، ولم تحدثني يوماً أن أكون بلطجياً تخضع له الرقاب ، وسألت نفسي كيف لطفل في مثل سنه أن يسب رجل أو امرأة كبيرة وحدثوني أنه تهجم على امرأة عجوز اعترضت على بلطجته ووالديه ينظران بفخر وهو يسبها سباب شديد , وقلت في نفسي هل ينقلب السحر على الساحر في المستقبل ويبلطج هذا الميدو على والديه وأن يتعامل معهما كما يتعامل مع الناس ؟ واستغرقتني الفكرة فسألت عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الفذ طبائع الاستبداد وصعقت لما قاله الكواكبي عن كل ميدو سواء أكان دولة أو أفراد يلخص لحالهما بقوله "إن الحكومة من أي نوع كانت لا تخرج عن وصف الاستبداد ما لم تكن تحت المراقبة الشديدة والاحتساب الذي لا تسامح فيه "والقضية أن الظلم والميل إلى الهوى فطرة ثابتته ف النفس تقوم بالمراقبة الشديدة ممن وكل إليه أمر التربية , ويضيف ولا تسامح معه في التقويم ، فإن لم نفعل فسيصير الظالم كما قال الكواكبي سيف يُنْتَقَمُ به ثم ينتقم الله منه ، ورسالتي لكل أب يربي أولاده يقول الكواكبي :"الاستبداد أعظم بلاء يتعجل الله به الانتقام من عباده الخاملين ولا يدفعه عنهم حتى يتوبوا توبة الأنفة "وإذاً لماذا يبتلي الله عباده بالمستبدين ؟ يجيب الكواكبي بقوله : إن الله عادل مطلق لا يظلم أحداً فلا يولي المستبد إلا على المستبدين ، ولكن ما علاقة كل هذا بالعم ميدو إننا جميعاً أيها السادة نعمل جاهدين لأن نقتل في هذا الميدو ذلك البريق الذي يراوضه بين حين وآخر الحلم في أن يعيش طفلاً طبيعياً يستمتع بطفولته ويعيش سنه ، وكيف له أن ينمو وكل ما حوله يخنقه ، وحدث ولا حرج انفلات في كل شيء وأهمه وأخطره الأخلاق ذلك اللفظ الذي فقد بريقه وسحره من نفوسنا وأصبح اليوم من كوابيس الماضي ، فشعار المرحلة "عبيله و أديله " ، فإذا تحدثت إلى أي أحد مهما كانت ثقافته فهمه الشاغل متطلبات الحياة اليومية والتي اشقت الناس جريا ورائها –وأنا لا ألوم أحد في ذلك – فكلنا ذلك الرجل ، ولكن حتى ونحن في رحلة البحث عن الرغيف صبغنا أولادنا بهذا الهم على براءتهم ورسخنا فيهم قيمة المادة ، ثم الداهية الكبرى من الذي يربي أولادنا ؟ إما إعلام انغمس في الواقع فخرج بعاهات تربوية لا يستوعبها الأطفال فينحرف بنفوسهم فتزيد الصورة تشوهاً وترسخ فيهم الشهوات والعنف واللا مبالاة بكل صورها أو مسلسلات للكارتون تعلمهم ثقافة وافدة يريدون لأطفالنا أن يقتدوا بها ’ أو الشارع وما أدراك ما الشارع بكل ما فيه من مخرجات مشوهة وأفكار مغلوطة لكل القيم وهو كما أراه تربة خصبة لكل المتناقضات الطيب والشرس والرخيص والغالي والحقير والعظيم ولكن سرعان ما تبهت الصورة شيئاً فشيئاً ، ثم لا يبقى إلا قانون الغابة الأولى وهيمنة القوة على كل شيء وعندما تمتد الأيدي لتبطش فالكل يرتب حسب قوته لا أخلاقه ، والحق لقد استوعبت متأخراً كلمة قالتها إحدى المتخصصات وهي تتحدث عن طلاب المدارس والطلاب الذين يتغيبون عن المدارس وكيف أنهم يعوضون ذلك بالدروس الخصوصية قالت : لا تقلقوا من طلاب المدارس بهذا القدر على الأقل فهؤلاء رأوا العلم وغنوا النشيد الوطني ، جيلاً لم نربه في مدارسنا لهو أشد خطراً على البلاد من مشاغب في الفصل لأنه لا يعرف لمصر علم ولا يسعه أن يتلاحم مع غيره ويعلم أن الأمة إنما تبنى بتعاون أبنائها وهذا ما سنخصص له مقالات قادمة إن شاء الله ولكن رسالتي أو قل صرختي إننا أيها السادة بسلبيتنا في التصدي لكل ميدو نساهم في صناعة جيل من الميدويات والذين لن يسعنا أن نتعايش معهم في المستقبل القريب بل إننا لن نتفاهم معهم إلا عبر ميدو جديد يكون أشد شراسة من هذه النسخة ، أتمنى أن نأخذ بكل طفل حاد عن طريق الطفولة بيد اللين قبل القوة وأن نكون نحن الآباء البدلاء لهذا الخطل وأن ننمي فيه حب الخير بالهدايا وباللعب وبالتواصل ولو بالكلمة فلعل الله أن يفتح لنا باباً من هذا الجحيم القادم وصدقوني فطوفان الميدويات قادم وسيغرقنا كلنا ، فهل نحن فاعلون ؟؟؟
a.elhamed29@yahoo.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق