ذات حوار حاولت أن أقف فيه على الحياد كعادتي بين منصتي صراعنا البسوسي الجاهلي، حاول صديقي أن يحشرني في زاوية اتهام، فرماني بالتحيز للطرف الآخر من معادلة الهزيمة. ورغم أنني أقسمت له بوكيد الأيمان أنني لا أنتمي إلا لتراب وطن تدمره الفئتان الباغيتان عن يمين وشمال، إلا أنه وضع إصبعي عناد في أذنيه وأطلق لسانه للريح يعوي عواء ضبع جائع.
حاولت أن أستمهله قليلا لأضع بين جمله المثبته عبارة نفي واحدة، إلا أنه استرسل في تعداد الأسانيد اللازمة للتدليل على عدم نزاهتي وزيغ منطقي. وحين وجدت منافذ الحوار بيننا قد أغلقت إلى أجل غير مسمى، أطبقت فمي وتنفست زفيره كارها، والتزمت الصمت.
ما ذنبي إذا كان الناس لا يصدقون إلا ما يؤمنون به، ولا يستمعون إلا لصدى أصواتهم. قلت في نفسي يومها: "أخسر موقفا ولا أخسر صديقا." لكن صديقي اعتبر صمتي إهانة لبلاغته، وأصر أن أنفي عن نفسي تهمة الاختلاف مع الأوس بسب الخزرج. ولأنني ترفعت قديما وتنزهت حديثا عن الاشتراك في فتنة القاعد فيها خير من القائم، وصنت لساني عن السب واللعان، رفضت أن أقدم دليل حيادي لرجل يثق باللعان أكثر مما يثق بالقَسَم.
عندها لم أكترث بما يمكن أن يؤول إليه حوارنا العقيم، وأدرت ظهري لصديق لطالما أدهشتني ثقافته بعد أن تيقنت أن الثقافة وحدها لا تخلف وعيا، وأننا في حاجة إلى منظومة من القيم تؤطر علاقتنا مع الآخر وإلى منطق سليم يمكننا من التمييز بين الخلاف والتخلف. ويومها تذكرت ما دار بين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وبين بعض الخوارج الذين طالبوه بسب بعض السلف حتى يكفوا أيديهم وأسلحتهم عنه. يومها قال الخليفة العادل لأحد الثائرين على عِترته: "أرأيتم لعن أهل الذنوب فريضة لابد منها؟ فإن كان كذلك، فأخبرني أيها المتكلم متى آخر عهدك بلعن فرعون؟ وحين أجاب الرجل: "ما أذكر متى لعنته،" قال عمر: "ويحك!! لم لا تلعن فرعون وهو أخبث الخلق، وتدعوني أنت للعن أهل بيتي والتبرؤ منهم؟"
لكن صديقي حتما لم يقرأ التاريخ ولم يع أن السب والقذف منطق الضعفاء أراذل الرأي الذين لا يرقبون في خصم إلا ولا ذمة، ولا يتورعون عن إلصاق كل نقيصة بأي غريم لمجرد أنه يقف على الجانب الآخر من الإدراك. يمكنني يا صديقي أن أختلف، وأن أعترض وأن أقابل حجارة البطش بنبال المنطق، لكن يعييني يا صديقي منطق السباب ولا أجيد التعامل مع مصطلحاته الفجة. ولك أن تضعني في أي فريق شئت، لكنني أستحي أن ألقى الله يوم العرض بلسان لم يترك عرضا إلا وانتهكه، ولم يترك شرفا إلا ودنسه.
لكن المؤسف أن موقف صديقي لم يعد يعبّر عن آحاد الناس أو شواذهم، بل امتد سرطانه ليطال الكثيرين من الكتاب والصحفيين الذين لم يعودوا يتورعون عن استخدام أقذع السباب وأحط الألفاظ في مقالاتهم وخواطرهم. لقد أصبح السب في واقعنا المؤسف موضة ثورية، وتحول القذف إلى منطق يدير حواراتنا العقيمة.
أعرف أن الوقوف في المسافة الفاصلة بين المتشانئين يجعلني في مرمى حجر من جانبي الألم، لكنني مصر على الوقوف على شفرة الحزن بين قابيل وهابيل حتى يقضي الله فرجا أو أهلك دون موقعي. معذرة يا صديقي، لقد كفرت بثورة السباب وأرفض أن أبيع منطقي لقاء نظرة إعجاب منك أو صيحة تهليل من سواك.
أديب مصري مقيم بالإماراتShaer129@me.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق