أبدأ بالإجابة المباشرة على طريقة: وهل كان متصوراً أصلا ألا ينحاز؟ ذلك أن انحياز الإعلام المصري للثورة المضادة كان أمرا حتميا لا طبيعياً فحسب، كما كان أمراً محسوما ولم يكن متوقعاً فحسب.ولهذا قصة طويلة أو رواية ذات فصول يمكن لنا أن نرسم ملامحها السريعة.
(1)
جاء جمال عبد الناصر إلى الحكم بمساندة الصحافة، وإذا كان هناك دور لمهنة ما في حسم الصراع لصالح ثورة 23 يوليو قبل وقوعها أو اندلاعها (الذي كان قد تقرر أن يأخذ شكل الانقلاب العسكري) فإن الصحافة هي صاحبة هذا الدور من خلال صحفيين محترفين (يأتي إحسان عبد القدوس على رأسهم ويأتي بعده بمراحل كل من أحمد أبو الفتح وحلمي سلام)
ومن خلال أصحاب أقلام من طراز خالد محمد خالد وتوفيق الحكيم وأحمد حسين، على اختلاف نزعاتهم ومشاربهم.
ولأن عبد الناصر بطابعه العسكري المرحلي لم يكن يريد أن يكون مدينا بفضل لأحد (إلا السلاح) فقد كان حريصاً على إزالة وإزاحة (ولا نقول تقليل أو تقزيم ) دور الصحافة (في الإقناع بالانقلاب) حتى لا تتكرر الثورة، ويكون هو المفعول به بعد أن كان الفاعل.
وهكذا كان عبد الناصر يرحب بخلافات الصحافة معه لا من حيث هي خلافات وطنية أو فكرية، وإنما من حيث كونها تكْأة وسببا مباشرا للعصف المبرر أو الانفعالي بحرية الصحافة وحرية التعبير تحت ظلال الحديث عن الوطنية وعن وحدة الصف وعن سلامة البنيان الوطني وعن الحفاظ على مكتسبات الشعب.
وفي غضون سنوات قليلة انخفض عدد الصحف التي كانت تصدر في مصر إلى رقم مذهل يساوي بالضبط 1% مما كان يصدر قبل 23 يوليو/تموز 1952.
وقد نقلت تفاصيل هذا الإحصاء في كتابي عن تاريخ الصحفيين في عهد ثورة1952، وهو الكتاب الذي حمل عنواناً معبرا ودالاً وقاسيا، وقد سبب لي الشعور بالألم من تألم الصحفيين منه ومني بالطبع.
والعنوان هو "في خدمة السلطة "ومع أني كنت ميالاً إلى عنوان أخف وألطف هو "في صحبة السلطة" إلا أن غالبية من استشرتهم كانوا يرون أن صفة الصحبة كاذبة، بينما صفة الخدمة صادقة. وهكذا انتصر العنوان المؤلم لأصحاب المهنة ولي أنا أيضا.
ولم تكن المسألة انتصار عنوان بقدر ما كانت تعبيرا مقبولا ومرحبا به وصادقا عن مرحلة لم تنته بعد، وربما أنها تكرست في العام الأخير الذي نعيشه.
(2)
على الرغم من أن الصحافة أصبحت عبر سلسلة من الإجراءات القاسية خاتماً في إصبع عبد الناصر إلا أن التضخم الخرافي في تلك الشخصية جعله يشعر من كل قلبه بأن هذا الخاتم قد أصبح ضيقا على إصبعه، وأنه لا يزال يسبب له بعض الآلام في بعض الأوقات.
وهكذا آثر الزعيم الكبير المستولي على 99% من القلوب والأصوات أن يؤمم الصحافة تماماً.
ولم يقف عند هذا الحد الواضح أو الصريح، لكنه آثر أيضا أن يضيف للإجراء"تحبيشة" ناصرية (وأن تكون هذه التحبيشة أو الحاشية من قبيل السلطة الإجبارية الفاسدة التي توضع في سندوتشات الفلافل المقدمة للمساجين من قبيل الإذلال بتذكيرهم بسعادة فقدوها مع افتقادهم للفلافل الساخنة الشهية).
وقد قادته المشورة الفاسدة والخائنة بطبعها إلى إهانة الصحافة والاقتصاد وتأميم الجميع بأن يسمى عملية التأميم بالتنظيم، ويجعل التنظيم مضافا والصحافة مضافا إليه وكأن الصحافة فوضى!
ويعترف المؤرخون والصحفيون والكتاب المعاصرون جميعا بأن الصحافة كانت فيما قبل ذلك التأميم في غاية التهذيب، وكانت أقرب إلى "الست المستحية"
لكن عبد الناصر كان يريدها "الخادمة" لا "الست" و"المذلولة" لا "المستحية".
وهكذا انتقلت الصحافة في علاقتها بالسلطة من مربع الخدمة إلى مربع الذل تحت شعار التنظيم الذي هو تأميم مشوه مهنيا واقتصاديا وفكريا وتاريخياً.
ومن الجدير بالذكر هنا أن تأميم الصحافة سبق تأميم الشركات ونشأة القطاع العام.
(3)
وعبر سنوات قليلة كان الوضع الداخلي في مصر يتدحرج نحو مشكلات اقتصادية وهيكلية بالغة التعقيد في ظل الحديث المبالغ فيه عن نجاحات صورية. وفي ظل التورط في اليمن وفي غير اليمن.
وفي ظل نزاعات مكتومة على السلطة وتدحرج الأمور إلى حد نفاد مخزون القمح وتلاشى الأمل في الحصول على قمح من الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها، لم يعد أمام عبد الناصر إلا باب واحد كان قد شوه علاقته به سراُ وجهراً لكن لم يكن أمامه إلا أن يطرقه بشدة،
وبخاصة أن هذا الباب كان بحاجة إلى من يقف أمامه في خشوع ليبدو صاحب نفوذ في المجتمع الدولي بعد أن واجه أزمات مقدورة ومتكررة في الحرب الباردة.
وهكذا توجه عبد الناصر إلى الرئيس السوفياتي خرشوف، ومن العجيب أنه توجه إليه عبر قنوات ذات علاقات وثيقة بالمخابرات الأميركية التي كان هو نفسه على علاقة قديمة بها،
وكان خرشوف الحازم الحاسم الذكي قادراً على إتمام أذكى وأسرع صفقة في التاريخ، حيث زود عبد الناصر بالقمح السوفياتي (الذي كان في عرض البحر مبحراً إلى مشترين آخرين) وزوده بالمراحل التالية من حلم السد العالي الذي كاد أن يتوقف وبخطة تصنيع كاملة بالمصانع والخبراء.
وفي مقابل هذا أخذ منه ضمير مصر كلها، فجعله يفرج عن الشيوعيين المحبوسين منذ رأس السنة 1958/1959 وما بعدها، وجعله يسلم لهم الثقافة والإعلام،
بحيث يخرج كل شيوعي من السجن إلى موقع ثقافي وإعلامي حتى وإن لم يكن له أي علاقة بالقلم أو الورق.
وبحيث يتلاشى أو يتأقلم كل من لم تكن له علاقة بالشيوعية منهجا أو فكرا أو تاريخا أو حلا أو احتراماً أو مجاملة!
وهكذا أصبح الإعلام المصري (والثقافة من خلفه) سوفياتي الطابع لا الفكر فحسب. ومع أن
الاتحاد السوفياتي تحلل في آسيا وأوروبا إلا أنه بقي في الإعلام المصري كما لو أنه لم يمت هناك، وقد بقى حتى الآن منهجاُ وفكراً وإدارة وهيكلاً باليا وهياكل مشوهة.
(4)
كان السادات يرى -ومعه حق كبير- أن إنجازاته الإستراتيجية والسياسية ليست في حاجة إلى إعلام ولا إلى رعاية، وهكذا ترك الأمور في الثقافة والإعلام تسير بقوة الدفع الذاتية التي كانت تفيده ولا تقيده، وإن ظن البعض أنها كانت تقيده ولا تفيده.
وهذا موضوع تأمل كبير يتطلب دراسة مستقلة، لكن المؤكد أن تركيبة الصحافة الناصرية ظلت قائمة إلى أن تسلمها مبارك، وقد زادت زيادة مطردة في الولاء للسلطة التي تجزل لها المنح والعطاء على نحو لم يكن ليتصوره أحد في عصر السادات أو عبد الناصر.
وقد رأينا كيف أصبح أصحاب أنصاف الموهبة يملكون المليارات على نحو لم يوجد في أي حقبة أخرى في مصر أو خارجها.
وليس سراً أن العاملين في محطات تلفزيونية عالمية مرموقة ينظرون بعجب واندهاش إلى مستوى أجور تلاميذهم في مصر، وأجور من هم أقل منهم موهبة وخبرة وعطاء،
وهي أجور لا تزال تأتي بطريقة مباشرة وغير مباشرة من شبابيك نظام مبارك وحده لا من أبواب الحكومة المصرية.
ولا تزال تأتي بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بموافقة رجال نظام مبارك لا من خلال موافقة المتربعين على كراسي السلطة بعده.
ولهذا فإن طنطاوي وعنان وشفيق ومرسي والسيسي ومنصور كانوا -ولا يزالون-بمثابة لوحات تنشين أو تدريب على إطلاق النار المركز أو المتناثر،
بينما رجال نظام مبارك يبتسمون في صمت.. فمعهم المال الذي هو وحده معبود أبدي للقلم حتى إن هجاه القلم أحياناً من قبيل العذل أو الغزل!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق