26 ديسمبر 2012

سهام ارتدت إلى صدرونا – فهمي هويدي





وقعنا في المحظور حين استبد الانفعال ببعضنا، فأقدموا على تجاوز عدد من الخطوط الحمراء لكي يسجلوا نقاطا لصالحهم.
من ثَمَّ فإنهم ضحوا بما هو استراتيجي لكي يفوزوا في مواجهاتهم التكتيكية.
أتحدث عن الشطط الحاصل في مصر، الذي تحولت في ظله معارك النخبة السياسية إلى مشاهد عبثية في لعبة بلا قواعد.
في هذا الصدد أخص بالذكر خمسة مشاهد هي:
< لم أفهم مثلا إصرار البعض على أن الاستفتاء تم تزويره، وهو ادعاء تحدثت عنه بعض الصحف قبل البدء في إجرائه، لمجرد الطعن في الدستور والإيحاء بأن ما يحدث الآن هو استنساخ لتجربة الحزب الوطني،
الأمر الذي يعطي انطباعا بأن الثورة لم تفعل شيئا، وأنها نقلتنا من سيئ إلى أسوأ.
وهي الرسالة التي تلقفتها بعض الصحف والفضائيات العربية، وظلت تروج لها طوال الأسبوع الماضي.
أدري أن مئات البلاغات والطعون قدمت إلى اللجنة العليا للانتخابات، وأن تلك اللجنة هي المخولة في التحقيق فيها، بما يميز بين ما هو مخالفات متعلقة بمواعيد فتح اللجان أو إغلاقها وتأخر وصول بعض القضاة، وبين ما هو كيدي أو حقيقي في الإدعاء بالتزوير.
كما أنها وحدها التي بمقدورها أن تقرر أن التزوير الذي حدث يمثل حالة أو بعض الحالات، أو أنه يشكل ظاهرة عامة تصم الاستفتاء وتفسده. إلا أن الكيد السياسي والإعلامي استبق وحكم بإعدام التجربة، قبل أن تقول اللجنة المختصة كلمتها.
إن جيلنا الذي عاصر التزوير الحقيقي، الذي أوصل نسبة الفوز إلى 99.9٪، يتردد كثيرا في تصديق الإدعاء إذا أصبحت نسبة الموافقين على الدستور 64٪ فقط.
ويدهشه مثلا أن يكون محافظ «المنوفية» التي هي إحدى المحافظات الثلاث التي عارضت فيها الأغلبية الدستور قيادي إخواني مخضرم هو أستاذ الهندسة السابق الدكتور محمد علي بشر، الأمر الذي يعني أن «الأخونة» المفترضة في هذه الحالة خذلت الإخوان ولم تنتصر لهم.
< استغربت أيضا الزج بورقة الأقباط في الصراع الحاصل، إلى حد الادعاء بأنهم منعوا من الإدلاء بأصواتهم في الاستفتاء.
وقد تابعت حوارا تلفزيونيا سألت فيه المذيعة موفد الفضائية إلى إحدى محافظات الصعيد، عن هذه المسألة فكان رده أنهم تعرضوا «لمضايقات» حين ذهبوا إلى لجنة التصويت في قريتهم، ذلك أنهم لم يجدوا أسماء الناخبين في حوزتها فعادوا إلى بيوتهم.
وقد اكتفت المذيعة بهذه المعلومة ولم تلاحظ أن عدم وصول قوائم أسماء الناخبين لا يعد منعا من التصويت،
كما لم تلاحظ أن ما جرى لم يحرم الأقباط فقط من التصويت، ولكنه حرم أيضا جيرانهم المسلمين الذين كانت أسماؤهم مدرجة في القوائم ذاتها.
مع ذلك فإن الحكاية طيرتها وكالات الأنباء إلى أنحاء العالم، والتقطها متعصبو أقباط المهجر وذهبوا بها إلى أعضاء الكونجرس من الموالين لإسرائيل،
ولم يقصر هؤلاء في ضمها إلى حيثيات تشهيرهم بالثورة المصرية والتنديد بممارساتها.
< تستوقفنا أيضا محاولات الزج بالجيش في الصراع الحاصل، من خلال تحريضه واستنفاره وتحذير الرأي العام من أن ضباطه وجنوده غاضبون ولن يسكتوا طويلا على «الإهانات» التي توجه إليهم.
وهي الشائعات التي يروج لها بعض الإعلاميين ومعهم نفر من «الخبراء» وأصحاب المصلحة.
وكان واحد من الأخيرين قد دعا صراحة في أحد البرامج التلفزيونية إلى تدخل الجيش لإنقاذ البلد من«براثن» الإخوان.
وأحدث فرقعة في هذا السياق حدثت حين تكلم مرشد الإخوان الدكتور محمد بديع عن قيادات فاسدة تولت أمر الجيش في الماضي، دون أن يحدد المرحلة التاريخية التي حدث فيها ذلك.
وقد تصيد هؤلاء كلامه للادعاء بأن ثمة خطة ممنهجة لإهانة الجيش.
وتسابقت أبواق عدة في داخل مصر وخارجها في التعبير عن الغيرة على كرامة الجيش، وفي حثه على الدفاع عن كرامته، والرسالة مفهومة في هذه الحالة.
< في سياق الترويج لفكرة انتشار الفوضى في مصر، أشاع البعض أن البلد ظهرت فيها «ميليشيات» إسلامية مسلحة تتربص بالخصوم السياسيين وتهددهم بالقتل.
وقد نشرت صحيفة «الشروق الأوسط» يوم الاثنين الماضي (24/12) حديثا مطولا لمن وصف بأنه خبير أمني واستراتيجي ركز فيه على هذه الفكرة،
وقال صراحة إن هيبة الدولة كسرت في مصر ملمحا إلى أنها في صدد الدخول في حرب أهلية يحتكم فيها الفرقاء إلى السلاح.
< ما لا يقل عبثية عما سبق ذلك النموذج الذي ضربه وكلاء النيابة في الأسبوع الماضي، حين حاصروا النائب العام وأهانوه حتى أجبروه على الاستقالة.
وقد شاهدنا قبل أيام وقائع ما جرى من خلال «الفيديو» الذي جرى بثه تلفزيونيا، ورأينا فيه وكلاء النيابة «الموقرين» وهم يجذبون الرجل من ثيابه ويسبونه. وهو نوع من «البلطجة» استنكرناه في سلوك بعض العوام والعاطلين.
لكنه أصبح واقعة تاريخية حين مارسه بعض وكلاء النيابة الذين احتشدوا لكي يفرضوا رأيهم.
فأهدروا بذلك هيبة القضاة أنفسهم، وسنُّوا سُنَّة تبرر لآخرين اللجوء إلى ذات الأسلوب في ساحات المحاكم وفي غيرها من الساحات.
لقد أدهشنا انخراط بعض القضاة في الصراع السياسي، لكن لم يخطر على بالنا أن يذهبوا بعيدا بحيث انزلقوا إلى ممارسة البلطجة بالفعل. في حين مارسها آخرون منهم في خطاب هابط أهان القضاء وأسقط بعض رموزه من الأعين.
إننا بصدد سهام استخدمها البعض في العراك بين ما سمى بالقوى المدنية والدينية، ولكنها جميعا أصابت جسم الثورة وشوهتها وصار الوطن هو الضحية والمصاب الحقيقي في العراك المنفلت.

ليست هناك تعليقات: