بالرغم من الكتابات الكثيرة التي تناولت موضوع العلاقة بين العروبة والإسلام إلا أنه وخلال العقدين الأخيرين بدأت هذه الفكرة تخبو من العقل الجمعي العربي. القضية المحورية التي أريد أن أركز عليها هي أن العلاقة بين العروبة والإسلام ليست فقط علاقة فكر بلغة، فالإسلام هنا ليس فقط ديناً يستخدم العربية كلغة تخاطر رئيسية، بل هناك بعد آخر يقبع في الخلفية الثقافية والحضارية المترافقة مع التزاوج بين الإسلام والعروبة.
فعلى الرغم من الانتشار السريع للدين الإسلامي بين ثقافات وحضارات مختلفة في العالم أجمع، إلا أن التزاوج الذي ترافق بين الإسلام والعروبة على المستوى الحضاري لم يتكرر في حالات أخرى.
فلنأخذ على سبيل المثال الحالة الباكستانية. فعلى الرغم من انتشار الإسلام في باكستان وعلى الرغم من اعتناق الشعب الباكستاني للإسلام، إلا أن الإسلام في باكستان هو للحضارة الباكستانية مركب ديني مستقل عن المركب الحضاري الثقافي المسيطر في المجتمع الباكستاني. فالعادات والتقاليد السائدة على الرغم من تأثرها بالإسلام إلا أنها ما زالت تحتكم إلى العادات والتقاليد السائدة في المنطقة. ولذلك فمن الممكن وبسهولة، أن يكون هناك تقارب بين سكان الهند والباكستان أكثر منه بين سكان باكستان وسكان دولة إسلامية أخرى.
وتتكرر هذه الحالة في اندونيسيا وأفغانستان وإيران وغيرها من الدول الإسلامية غير العربية. فنجد على سبيل المثال أن الشعب الإيراني يحتفل بالنيروز، وهذا الاحتفال بالرغم من علاقته بالديانة المجوسية القديمة في إيران، إلا أنها لم تختفِ مع دخول الإسلام. وهنا الاختلاف حضاري، لا ديني. فالشيعة العرب في لبنان والعراق لا يحتفلون بهذا العيد. إذن هو ليس مرتبطاً بتفسير شيعي للاحتفال وإنما هو احتفال حضاري يرتبط بالحضارة الفارسية. ونرى أيضاً أن كثير من مظاهر الحضارة الفارسية قبل الإسلام ما زالت تعشعش في الذهنية العامة للشعب في إيران. ففي منطقة شيراز، وهي معقل الحكم في ظل الحكم الفارسي قبل الإسلام (منطقة تخت أمشيد) نرى حتى اليوم أن الشعلة المجوسية ما زالت تشعل.
لقد نزل الإسلام في جزيرة العرب، فخاطب أهل الجزيرة بما يعرفونه من عادات وتقاليد ورفع الحسن منها ورفض السيئ بها، وطور الكثير منها لتتناسب مع الدين والدعوة. وعندما نحلل هذه الحقيقة ندرك أن الخطاب الإسلامي تبنى البعد الثقافي العربي كخلفية ضرورية لخطاب أهل الجزيرة، ولذلك فقد رأينا وبشواهد كثيرة خلال فترة انتشار الإسلام السهولة التي انتشر بها خلال المنطقة الناطقة بالعربية بالمقارنة مع الصعوبة التي واجهته في المناطق غير العربية.
هذا البعد الحضاري الثقافي للعلاقة بين الإسلام والعروبة يبرز بشكل كبير في كيفية تعامل أصحاب الديانات الأخرى في المنطقة العربية مع الدين الإسلامي. ففي حالات كثيرة انضوى هؤلاء تحت راية الإسلام في الحرب ضد غير العرب. ولذلك فمن الطبيعي أن نجد أن المسيحي العربي مثلاً، كان تاريخياً ينسجم في العادات والتقاليد مع العربي المسلم أكثر من انسجام المسلم غير العربي مع المسلم العربي.
الترابط بين العروبة والإسلام ترافق أيضاً مع نهضة الحضارة العربية الإسلامية وقدرتها على التواصل والنمو والازدهار. وليس مستغرباً بالتالي أن هذه الحضارة بدأت بالتراجع والانحطاط مع سيطرة غير العرب على مقاليد الحكم فيها، حيث بدأ هؤلاء يهابون التلاحم بين الإسلام والعروبة ويحاولون بشتى السبل كسره، وتحويل الإسلام إلى شكله الديني غير المتوافق أو غير المتلاحم مع العربية كحضارة وتراث. ونجد أن هؤلاء قد قاموا بقمع الشعب العربي والحضارة العربية وبدأ التراجع في تعليم العربية في كثير من المواقع، وبرزت هذه الحركة في أوجها على يد الحكم العثماني الذي أدخل التركية إلى لغة التعامل الرسمي، والذي قضى على التعليم العام الذي كانت تقوم به المساجد، حتى أصبح من يتقن العربية والكتابة والقراءة هم صفوة بينما الشعب جاهل.
وقد ساهم العرب بكل قطاعاتهم ومشاربهم، مسلمين وغير مسلمين في النهضة العربية وببعث الحياة في الثقافة والحضارة العربية، وبالأخص خلال القرن التاسع عشر وبعد حكم محمد علي. فشهد الوطن العربي عودة إلى دراسة التراث العربي الإسلامي، وإلى تأكيد العلاقة الوثيقة بين العروبة والإسلام التي حاول كثيرون عبر قرون تحطيمها. وحققت هذه الحركة نجاحات كبيرة وبشكل سريع مما يؤكد أنها لم تكن وليدة الصدفة أو بدعة حديثة وإنما هي بعث لأفكار لطالما شكلت الموروث الثقافي والحضاري للأمة العربية.
ولكن وللأسف الشديد، وخلال العقدين الأخيرين بدأنا نرى هجوماً متواصلاً على هذا التلاحم بين العروبة والإسلام ومن مواقع كثيرة، قد يظهر بعضها بمظهر من يريد أن يؤكد على عالمية الإسلام، لكن جوهرها جميعاً، بما فيها تلك التي تؤكد على عالمية الإسلام، يتلخص بضرب العلاقة التاريخية بين العروبة والإسلام. وليس القصد من هذه السطور معارضة فكرة عالمية الإسلام، إلا أن قضية الإسلام عربياً تتجاوز الدين إلى الدين والحضارة. وبالتالي فتأكيد العلاقة بين العروبة والإسلام هو تأكيد لانتماء أبناء هذه الأمة بكل مشاربهم وطوائفهم إلى الحضارة العربية الإسلامية وإلى الإسلام كحضارة بغض النظر عن دينهم أو أصلهم. فالعروبة كما نؤكد دائماً هي شعور قومي ثقافي لا عرقي. وعندما يتم التأكيد على عالمية الإسلام في ظل تفكك الأمة العربية فإنما يراد من ذلك ضرب فكرة الوحدة العربية لأنها الفكرة الممكنة والواقعية التي يهاب منها، بينما فكرة الوحدة الإسلامية غير ممكنة واقعياً في عالم اليوم انطلاقاً من الاختلافات الثقافية والحضارية التي تحتكم لها الدول الإسلامية.
أما على الطرف الآخر فنجد النزعات الطائفية والعرقية تحاول أن تفك العلاقة بين العروبة والإسلام في مقابل الإدعاء بأن غير المسلمين من العرب ليسوا جزءاً من النسيج المشكِل للحضارة العربية الإسلامية أو أنهم "مظلومون" في ظل سيطرة الإسلام. وبالتأكيد فهذا الشعور مدسوس من خلال عمليات إعلامية ظلامية مستمرة عبر عقود. وبالرغم من قوة وضخم واندفاع هذه الآلة الإعلامية، إلا أنها لم تتمكن بعد من الوصول إلى التفكيك التي تريده، وما زال العرب بكل طوائفهم مقتنعين بالترابط المتلازم بين العروبة والإسلام.
هناك تعليق واحد:
الرجاء الملاحظة أن المقال هو للدكتور توفيق شومر وليس للكاتب توفيق أبو شومر (صاحب الصورة) ولذلك أرجو من المدون سيد أمين تغيير الصورة مع الاحترام والشكر.
توفيق شومر
إرسال تعليق