أطلق الغربيون مصطلح الربيع العربى على الثورات العربية فى مطلع 2011 اسوة بربيع براج فى تشيكوسلوفاكيا عام 1968 بصرف النظر عن أن الربيع يتسم بالثمار والورود. والثابت أن ثورتى تونس ومصر ضد الاستبداد والفساد وتعنت النظم فيهما واغلاق جميع ابواب التغيير السلمى طوعا قد انتشر فى جميع المجتمعات العربية بلا استثناء بل وغير العربية اعلانا عن ضرورة اصلاح العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وقد نجحت بعض النظم المستنيرة فى التراجع بتقديم بعض التنازلات لاستيعاب الموقف بينما انسحبت نظم اخرى من المشهد ثم انقضت على الشعوب وآمالها مرة أخرى لتعاقبها على أنها تجرأت على الإعلان عن مطالبها، وهذه النظم بهذه العقلية هى التى تسببت فى الخراب العربى. فالربيع سيظل ربيعا وسوف يدق ابواب هذه النظم فى معركة طويلة تنتهى بانتصار الشعوب أو يقظة الحكام. ولذلك خصصنا هذه المقالة للرد على كتبة هذه النظم البالية الذين كان يجب أن ينصرفوا إلى الأبد وأن يعتذروا لشعوبهم وأن يعودوا تائبين مصلحين بدلا من الاصرار على الفساد.
فنحن فعلا نعيش عصر العبث فى المنطقة العربية. فبدلا من الإلحاح على ضرورة تحقيق آمال الشعوب فى ثورات الربيع العربى، ومقاومة القوى المناهضة لها ألقت بعض الأقلام اللوم على هذه الثورات حتى تستمر العبودية والاستبداد، وكأنها تظلم الشعب مرتين، الأولى عندما خانت آماله وضللته ورضيت أن تكون سيفا للحاكم الظالم، والثانية عندما لم تتورع أن تعود إلى لومه على الثورة وإعلان مطالبه.
فقد لاحظت منذ 30 يونيو 2013 موجات من الهجوم والنقد المرير لثورات الربيع العربى، ورصدت بأقلام معينة تنتمى كلها إلى النظم التى ضاقت بها الشعوب العربية وثارت على فسادها وهى نفس الأقلام التى كانت تصطنع فضائل وهمية لهذه النظم .
وتبدأ القصة بأن ثورات الربيع العربى رفعت مطالب عادلة ضد نظم فاسدة اضطرت إلى الثورة عليها بشكل سلمى عندما رفضت هذه النظم بغباء غذاه هؤلاء الكتاب أن تقوم النظم نفسها بتحقيق مطالب الناس، فلم تكن الثورات ترفا ولا كانت دماء الشباب التى راحت ودماء رجال الشرطة الذين أصروا على الدفاع عن نظام فاسد إلا مهرا للحرية التى افتقدتها الشعوب . فالثورات العربية جميعا لم تكن مؤامرات من الخارج، كما لم تقم ضد نظم صالحة، ولم تكن ترفا، كما أنها كانت سلمية، ثم أنها رفعت مطالب محددة ومشروعة. ولكن عيبها أنها رفعت المطالب لذات الأجهزة التى تنتمى إلى النظام الذى ثارت عليه تحت أوهام كثيرة وأحيانا بدرجة من الانتهازية صغرت أو كبرت.
فى هذه النقطة سوف يتوقف التاريخ المصرى طويلا أمام دور المجلس العسكرى فى التعامل مع قوى الثورة، وقوى النظام الذى ثار عليه الناس، فسعى إلى إنعاش النظام الذى فاجأته الثورة، وخدر الشعب حتى يعود النظام السابق تحت لافتات جديدة.
ولنعد الي البداية . دفعت إسرائيل مصر إلى وضع مكنها من القضاء على عبدالناصر وأحلامه فى الوحدة العربية، فسمح ذلك بظهور البديل وهو حلم الوحدة الإسلامية، خاصة وأنه شاع فى تلك الفترة بعد هزيمة يونيو1967 بأن التناقض كامل بين الأمة العربية بأقلياتها غير الإسلامية، وبين الأمة الإسلامية بأكثريتها غير العربية، وهما مشروعان وهميان، لكن روج عبد الناصر للمشروع العربى، فاتهم من جانب أصحاب المشروع الإسلامى بالإلحاد والعلمانية مثلما يتهم الإسلاميون اليوم ببيع أوطانهم العربية من أجل مشروع وهمى يقوم على الرابطة الإسلامية، وليلتهم جميعا اهتدوا إلى الرابطة الديمقراطية التى تنقذ الوطن والدين من الاتجار بهما بعد أن صارت الوطنية صكا يعطيه القوى المنتصر لخصمه الضعيف أو ينكره عليه.
كانت الشعوب تأمل فى أن يتجاوب الحكام الذين استكتبوا هؤلاء لتضليل الناس مع آمالهم وأناتهم التى ضنواعليهم بها. وقد أقنعتهم واشنطن بأن حكمهم دائم وظلمهم الذى استمتعوا به أبدى، فالظلم من سمات هذه الدنيا، وأن لهذه الشعوب المسحوقة بالفقر والمرض والجهل والقهر الدار الآخرة، وهم يعلمون أن مثل هذه الدنيا لا آخرة لها.
فالثورة للأسف ضرورة على كائنات تبلدت وتسلحت بجيوش من أمثال هؤلاء الكتاب. أما من المسؤول عن ضياع الأوطان العربية فهى ليست الثورات، وإنما إصرار حلفاء الحكام المستبدين على إنقاذهم، وخوفهم من حكم الشعب وحكم القانون. والمحزن أن يصاب بعض الشعب المصرى وبعض كتابه بالعمى المطاع فيتصورون أن أمريكا تحب الثورة المصرية فى يناير، وتكره ثورة يونيو ضد الاخوان لأن أوباما مسلم كتم ايمانه وأن اخواني مستتر. وأنا لا أقارن مطلقا بين يناير ويونيو، فالأولى ثورة شعبية شاملة لأول مرة فى التاريخ على نظام كامل فاسد بكل أجهزته. وإعلامه المضلل ومنهم هؤلاء الكتاب، أما الثانية فهى فى معنى احتجاج على حكم الإخوان وتم تطوير هذا المعنى لكى تكون اجتثاثا للإخوان ثم للمعارضة ثم لثوار يناير. صحيح أن انهاء حكم الإخوان ورفضهم نادت به الملايين فى يونيو حين طالبت بانتخابات رئاسية مبكرة وأن رفضهم ربما أسهم في المضاعفات، ولكن أين كان نظام مبارك فى يناير ويونيو وكيف عاد نظام مبارك بعد يونيو وخرج من كل ما نسب إليه فى القضاء وبرئ براءة الذئب من دم ابن يعقوب. هذا هو السؤال الذى يبرر القول بأن أحد أخطر معانى يونيو أنها كانت تجمعاً لكل من عادى الإخوان دون بديل لتحقيق اهداف يناير.
السبب فى مأساة الشعوب العربية الثانية هى انتظام قوى الظلام والاستبداد مع قوى إقليمية معروفة فى منظومة أمريكية إسرائيلية هى التى أجهضت أحلام الشعوب فى مصر وليبيا وتونس وسوريا واليمن، ولكل قصة ولذلك يجب التمييز بين دواعى الثورة وقواها وسلميتها وبين حقد القوى الرجعية الصهيونية التى أرادت أن تعاقب الشعوب العربية التى ثارت على الظلم، التى ألحقت بهذه الشعوب الفصل الثانى من المظالم التى دمرت الأوطان لأن الحكام المستبدين لا يهمهم الأوطان مادامت قد صارت بسكانها نيرانا تلتهم عيوبهم وتسقط كبرياءهم الذليل.
بقيت نقطتان: ما مآل الكفاءات من نظام مبارك وكيف تتجه كفاءاتهم إلى الخير بعد أن وظفت فى الشر وهل لديها المرونة فى ذلك خصوصا أنها تحصل على الفتات فى خدمة نظام أضر وطنهم؟ والثانية: لماذا يظل هؤلاء بعد أن فقدوا أخلاقيا قيمة علمهم الذى سخروه لسحق هذا الوطن ولولا الثورة ما انزاحوا عن أماكنهم. المشكلة أن كتابهم عادوا ينفثون السم فى بيئة عقدت العزم على استرجاعهم لتنكيس نظام سقط أخلاقيا وضيع فرضة ثلاثين عاما. فهل مصر بحاجة إلى ثورة تصحيح الخلل وتعيد إلى يناير نقاءها أم أنها بحاجة إلى نظام شفاف يعلن صراحة أن شرعيته هى فى تحقيق أهداف ثورة ينايروالاعتصام بها وليس التركيز على يونيو وربط النظام بها مادامت يونيو باعتراف النظام ليست ثورة قائمة بذاتها وإنما تصحيح ليناير بل هى تصحيح لأخطاء المجلس العسكرى وليس لثورة يناير.
المعيار هو من على الساحة الأن إعلاميا وسياسيا وأقتصاديا وغيره؟ هل هم ثوار يناير أم نظام مخلق قوامه الأساسى نظام مبارك باعدت الآمال بينه وبين الواقع المرير، حتى احتلت هذه الأقلام مكان الصدارة فى الإعلام ومنع أصحاب الاقلام التى انحازت لمصلحة الوطن وتوعية الشعب بالمسرحية الهزلية التى عاد أبطالها إلى مواقعهم مرة أخرى وكأن ثورة يناير كانت أحد مشاهد الكاميرا الخفية أو نكتة ثقيلة.
يناير رمز لرفض الظلم وارادة شعب متحضر ضد بربرية المؤامرة عليه وليست مجرد حدث.
مستعدون لمناظرة تاريخية بين كل مؤيدى يناير وكل المشككين فيها وكتلتهم الحرجة من نظام مبارك. إن روح الانتقام والتشفى من يناير هى جزء من المؤامرة عليها، والشعب تغير، وفحيح الافاعى قد ينفس عن الكاتب لكنه يغرق وحده فى عالمه ويرثى له القراء من حوله إن بقى له قراء. الكلمة الطيبة كشجرة طيبة، والكلمة الخبيثة كشجرة خبيثة، الأولى جذعها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها، والثانية تجتز من فوق الأرض مالها من قرار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق