*اكاديمى بجامعة الخليل - فلسطين المحتلة
كنت قد كتبت قبل عامين ونصف تقريباً مقالاً بعنوان: "الأزمة في مصر: وادي التكنولوجيا أم الدستور والمرشد؟" وبيّنت فيه أهمية مشروع وادي التكنولوجيا الذي أعلنت عنه الحكومة المصرية حينها، وقد كان النقاش في سياق فهم العدوانية لمصر "الجديدة" من قبل قوى إقليمية ودولية مرتبطة بنافذين مصريين، ولمن لا يتذكره فهو مشروع كان من المفترض أن يستغل ما مساحته 16500 كم2 ضمن موقع استراتيجي، إذ أنّه لا يبعد سوى 10 كم عن قناة السويس ومدينة الإسماعيلية وتتوفر فيه شبكة من الطرق المعبّدة ويقرب من الطرق البحرية. على أن يشمل المشروع العديد من الصناعات مثل الطاقة النظيفة والمتجددة والصناعات الدوائية والإلكترونية والاتصالات والصناعات البيوتكنولوجية، بالإضافة إلى المشاريع السياحية الضخمة، وتقديمه للخدمات اللوجستية لحركة النقل البحري العابرة للسويس.
بالأمس؛ وكحال الكثيرين كنت مضطراً لمتابعة المشاهد الاحتفالية لافتتاح "السويس الجديدة"، ورغم أنّي ممن يمقتون السيسي، وجدت نفسي مبتهجاً بهذا العمل، فقد عادت بي الذاكرة عامين ونصف لأظنّ أنّ تحليلي السابق لم يكن صحيحاً، وأنّ تلك القوى الدولية لم تستهدف مشروع الوادي في الاسماعيلية، وها نحن اليوم نشاهد بأمّ أعيننا ذات المشروع بكنية جديدة. فما فيه خير لمصر لا بدّ وأن يرسم ابتسامة على وجه كل محبّ لها، متجاوزاً موقفه من حكّامها وقاعدتهم الشعبية.
اليوم؛ وبعد تخصيص بعض الوقت لقراءة تفاصيل "السويس الجديدة"، تبيّن لي كم كنت متسرّعاً حين ابتسمت مبتهجاً، فما كان تحليلي السابق ضرباً من الأوهام، ولا يبدو أنّ "للسويس الجديدة" علاقة بمشروع التكنولوجيا المُعدم. وحتى لا تكون هذه السطور في سياق هجوم دعائي ضدّ أو مع أيّ من أطراف اللعبة في مصر والعالم العربي، أترككم مع الآتي من السطور.
إن مشروع "السويس الجديدة" ليس إلّا ضربة جديدة يتلقّاها الاقتصاد المصريّ في خاصرته، لكنّها ضربة تزيّنها الأجواء الاحتفالية والألحان الوطنية لتبدو كما الهزائم العربية التي صوّرت كانتصارات بذات الأدوات الاحتفالية. يدّعي السيسي ومشتقّاته في مصر أن هذا المشروع سيحقق عوائداً ضخمة وسينقل مصر إلى مصافّ الكبار مستقبلاً وأنّه مشروعٌ يتجاوز حدود مصر لتصحّ تسميته بـ "هدية أمّ الدنيا للدنيا"، وما هي إلّا حفرةً في الأرض يأمل نابشوها أن تتلقّف ما صنعوا من خيبات متتالية فتواري سواءاتهم.
"السويس الجديدة" ليست إلا ممرّاً فرعيّاً يضمن حركة للسفن باتجاهين في مسافة لا تتجاوز ثلث طول القناة الأمّ، وهو عملٌ جيّد إذا ما انفصل عن تكلفته الحقيقية وفائدته الوهمية. إذ أنّه ليس إلّا تحسيناً غير ملحّ للبنية التحتية في القناة. وإنّ كلّ الأرقام التي يتم تداولها في الإعلام المساند للسيسي ليست إلا كالجماهير التي حيّاها من على ظهر المحروسة. فالمبالغ الخيالية التي تحدّث عنها مستحيلة وفق تقديرات خبراء اقتصاديين من جامعتي هارفارد والقاهرة.
إن الفائدة المتوقعة بعد افتتاح الممرّ الفرعيّ أن تقل مدّة انتظار السفن في القناة، وقد حلّل البعض بشكلٍ ساذجٍ أنّ في ذلك منفعة مالية مترتّبة على زيادة متوقعة في عدد السفن التي ستعبر القناة، والتحليل هنا ساذجٌ لحقائق عدّة يمكن تلخصيها في الآتي:
الأولى: أن تقليل مدّة انتظار السفن لا يعني زيادة عدد السفن العابرة لها، فالسويس قبل ممرّها الجديد لم تكن تعمل بكامل قدرتها التشغيلية، أيّ أنّها ما زالت قادرة على استيعاب أعداد أكبر من السفن دون أيّة تكاليف إضافية لتطويرٍ خادع.
الثانية: أنّ حركة النقل البحري ليست مرتبطة بجودة القناة وسعتها وقدرتها التشغيلية بقدر ما هي مرتبطة بالمتغيرات الاقتصادية الدولية وبحركة التجارة العالمية، وإنّ أي انتكاسة اقتصادية في دول كبرى تعني أنّ عدد السفن قد ينقص على عكس التوقعات بنموّ طبيعي في هذه الحركة التبادلية.
الثالثة: أنّ هذا الممرّ الجديد سيحتاج إلى قوى بشرية لتشغيله والعناية به، مما يعنّي تكلفة مضافة على العمل الخدماتي، وفي الوقت الذي لن يزيد فيه عدد السفن بشكل ذي جدوى فإن تكلفة تشغيل الأيدي العاملة الجديدة سيتم اقتطاعها من عائدات القناة الأمّ. أيّ أنّ المحصّلة النهائية هي تقليص حجم الأرباح لا زيادتها.
الرابعة: لقد حفرت هذه القناة في وقت خياليّ حقّاً، لكنّ أحداً لم يسأل القائمين على المشروع، كم هي التكلفة المضافة لتقليص مدّة الحفر؟ ما من شكّ أنّ العمل السريع إلى هذا الحد يعني تكاليف مضاعفة، وفي ظل غياب المردود فإنّ هذه التكاليف استهلكت بلا شك ميزانية الدولة دون أيّ مبرّر، فكما ورد أعلاه، ما زالت القناة الأم تعمل بأقل من قدرتها التشغيلية وهو ما يؤكد أنّ سرعة العمل ليست سوى فعلاً يُراد استثماره إعلامياً في ظل حملة دعائية لصناعة قناعٍ للزّعيم لا يختلف من حيث المبدأ عن قناع "الضربة الجوّية" الذي ارتداه مبارك.
الخامسة: أن جزءاً من أموال المشروع قد تم جمعها من جيوب الشعب المصري عبر ما عُرف بـ "الاستثمار في السويس"، على أن يتقاضى المساهمون في المشروع من أبناء الشعب عوائداً سنوية ثابتة وعالية نسبياً. تأسيساً على ما ذكر أعلاه، فإنّ العوائد التي سيتقاضاها المصري المساهم لا مصدر لها إلّا عوائد القناة الأم وخزينة الدولة، ونحن هنا أمام نهب الجيوب المصرية مرّتين. الأولى؛ حين استدرج لاستثمار وهميّ، والثانية؛ حين تم اقتصاص ميزانية هو مصدرها لخداعه بالفائدة المرتفعة، وهي حيلة باتت منتشرة لدى كثير من محترفي سرقة الأموال، حيث يخدع المساهم بالفائدة المرتفعة والمؤقتة والتي تُدفع من جيبه في نهاية المطاف.
السادسة: إن العوائد الحقيقية يمكن أن تُجنى إذا ما تم افتتاح مشاريع إنتاجية على جانبي القناة، ولا يبدو أنّ مصر حالياً تشكّل نقطة جذب للمستثمرين، وآخر ما يمكن أن يجذب المستثمر هو "ممرّ فرعيّ" جديد. إنّ أول ما يتطلع إليه المستثمر المحلّي والأجنبي هو الاستقرار الأمني والسياسي والأداء الحكومي الرشيد، وأظنّ أن ما يتطلعّون إليه غير متوفرّ الآن.
إنّ ما سيكتشفه المصريّ قريباً أن العوائد التي تحدث عنها السيسي ليست إلّا كرمال ضفّتي الممرّ التي لوّح لها السيسي بيديه، في مشهد مُهين للمصريّ والعربيّ. رمالٌ نثرها تجاه محبّيه قبل خصومه، لكنّه أغفل دور المسافة، ونسي أن عينيه الأقرب لما تذروه يداه.
السيسي بمشروعه الوهمي تجاوز حقبة من الاستبداد الذي غذّى الإسفاف وأثّر فيه فأنتج لنا أعمالاً "فنّية" كالزعيم، إذ جعلت من السلطوية مادّة فكاهية يحلّ فيها الضحك مكان الصراخ، ليصل اليوم إلى حقبة التأثرّ بالإمام قبل أن يبلغ الزعامة فيبيع كلاهما "الفنكوش".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق