عن خيانة الثورة العرابية حدث ولا حرج
فقد تصدى الزعيم الوطني أحمد عرابي لأقوى جيشٍ في العالم آنذاك لمدة خمسة أسابيع كاملة وهزمه وأجبره على الانسحاب من المعركة، ولو كان طريق كفر الدوار هو الطريق الوحيد لدخول مصر لواجهت انجلترا عقبات أكبر في احتلالها؛ لاستبسال وصمود جيش عرابي
لكن الخيانة كانت حاضرة، لتوجه الضربة القاضية إلى هذا الجيش، ممهدةً الطريق إلى احتلال مصر
وبعد أن تنادى المصريون دفاعاً عن وطنهم في مواجهة القوات الغازية، أخذ كل مواطنٍ يستغني عن شيء يملكه، فانهالت على الجيش بقيادة عرابي الأقمشة والمواشي والحبوب، الأغنياء والفقراء يجودون بما عندهم، والنسوة في المنازل يجهزن الأقمشة ويوزعن الحبوب، والفلاحون القادرون يتطوعون للقتال أو المشاركة في حفر الخنادق وإقامة الاستحكامات من الطين والرمل تحت إشراف محمود فهمي باشا
ولم تضعف الهزائم الأولى عزم المصريين، فالجيش يتحصن الآن في التل الكبير، وقد جاء عرابي مسرعاً من كفر الدوار واستدعى جميع الفرق العسكرية المتفرقة هنا وهناك. غير أن جيش عرابي والفلاحين الآمنين في قراهم، لم يعرفوا أن إخواناً في صفوفهم يبيعونهم بسعر التراب، لعسكر الانجليز
فقد كان من مشايخ وأبناء القبائل العربية من هو مستعدٌ للخيانة، حتى أن الكابتن جيل أحد ضباط الجيش البريطاني قدم قائمةً مكتوبةً بخط يده عن أشهر مشايخ "العربان" الذين يمكن شراؤهم، وذكر منهم اثنين هما مسعود الطحاوي في الصالحية -الذي كان مرشداً لعرابي، وجاسوساً عليه، وكان يقبض من الجانبين- ومحمد البقلي في وادي الطميلات. وذكر محافظ السويس –الذي انضم إلى الخديو توفيق- أنه يمكن شراء البدوي الواحد بجنيهين أو ثلاثة على الأكثر، في حين ذكر إدوارد هنري بالمر - الذي عرف باسم "عبد الله أفندي"- أنه يستطيع شراء 50 ألف بدوي بمبلغ 25 ألف جنيه
وطبقاً لأرشيف البحرية الإنجليزية - مذكرات اللورد نورثبروك من 24 يونيو حزيران إلى 7 أغسطس آب 1882- فإن خيانة مسعود الطحاوي شيخ مشايخ "عربان" المنطقة والذي كلفه عرابي مهمة الاستطلاع والرصد هو وأعوانه، هي السبب الرئيسي لانكسار الجيش المصري في معركة "التل الكبير"
وكان الطحاوي هو الوحيد كما يقول ولفرد سكاون بلنت في كتابه "التاريخ السري لاحتلال انجلترا لمصر" الذي ثبت على خيانته أو نجح فيها. وقد تقاضى مسعود خمسة آلاف كرون نمساوي ثمناً لخيانته، كما أنه كان دائباً على الخيانة منذ انتقال الجيش من كفر الدوار إلى التل الكبير. ويذكر بلنت الذي قابل مسعود فيما بعد أن لديه ما يشبه الإقرار من الطحاوي بأنه كان جاسوساً للإنجليز على جيش عرابي. وقد أثرَّت خيانته في الجيش المصري؛ لأن عرابي كان قد كلفه بالقيام بالاستطلاع للجيش المصري، مما أعطى رجاله ميزة الوجود في معسكرات الجيش ومكنهم من نقل أدق المعلومات إلى الجيش الإنجليزي
ففي 13 سبتمبر أيلول عام 1882 (الموافق 29 شوال 1299هـ) وقبل حلول الفجر، وقعت معركة "التل الكبير" التي استغرقت أقل من 30 دقيقة. فقد فاجأ الإنجليز القوات المصرية المتمركزة في مواقعها منذ أيام والتي كانت نائمةً وقت الهجوم. وجدت القوات الإنجليزية الفرصة السانحة لمداهمة قوات عرابي تحت جنح الظلام بعد أن نام الجنود من شدة الإجهاد والتعب، فزحف 11 ألفاً من المشاة و 2000 من الفرسان البريطانيين ومعهم 60 مدفعاً، وكان جيش العرابيين النائم بثيابه الداخلية يفوقه في العتاد والعدد فهو مؤلفٌ من 20 ألف جندي، و2500 من السواري، وستة آلاف من العربان و70 مدفعاً
وكان الزحف الإنجليزي قد بدأ من القصاصين فسار الإنجليز دون أن يشعر بهممحمود باشا سامي البارودي قائد فرقة الصالحية فلم يلقوا أية مقاومة لا من جانبه ولا من جانب مقدمة العرابيين التي يقودها علي بك يوسف "خنفس" –أميرالاي الثالث "بيارة"- الذي كلفه عرابي بموافاته بالأخبار يوما بيوم عن حركات الإنجليز فلم يصدق معه، وبعث إليه في 12 سبتمبر أيلول يقول: كله تمام
اطمأن عرابي إلى أقوال "خنفس" وأصدر أوامره إلى جيشه بالراحة والترويح، فانصرف الجنود إلى حلقات الذِكر تحت إشراف الشيخ عبد الجواد المشهور بالورع والتقوى
ويقول أحمد شفيق باشا في مذكراته: ومن المضحكات المبكيات، أن صديقي المرحوم البمباشي حسن رضوان، قومندان الطوبجية في استحكامات التل الكبير، أخبرني بأنه في مساء 12 سبتمبر دخل عليه في الطابية أحد أرباب الطرق الصوفية وبيده ثلاثة أعلام، وتقدم إلى أحد المدافع فرفع عليه أحدها وقال: هذا مدفع السيد البدوي، ثم انتقل إلى مدفع آخر فوضع عليه علماً ثانياً وقال: إنه لسيدي إبراهيم الدسوقي، ثم إلى مدفع ثالث وقال: إنه سيدي عبد العال.. وقال صديقي معقباً: ولكن لم يمر على ذلك بضع ساعات حتى صارت الأعلام والمدافع المصرية في حيازة الجنرال غارنيت ولسلي
ووسط الاستعدادات للمواجهة، يجيء الطحاوي إلى عرابي في خيمته يقسم له أن الإنجليز لن يهجموا قبل أسبوع ثم يتسلل خارجاً إلى صفوف الإنجليز ليرشد طلائعهم في صباح اليوم التالي، ويطمئن القائد الانجليزي ولسلي إلى أن المصريين سينامون ليلتهم نوم الأبرار. ويطفيء الجيش الغازي أنواره ويخيم الظلام الدامس ويزحف الغزاة، والطحاوي في المقدمة يرشدهم إلى الطريق. ولم يكن يؤدي هذه المهمة وحده، بل كان يعاونه لفيفٌ من ضباط أركان حرب المصريين من الشراكسة الذين خانوا واجبهم
ويتقدم الجيش الزاحف في الظلام خمسة عشر كيلومتراً دون أن يشعر به أحد وقد ترك خلفه ناراً ليوهم المصريين أنه لم يتحرك، ويتقدم حتى يصل إلى طلائع الخطوط المصرية. وكان المفروض أن تكون في المواجهة فرقة السواري، لكن عبد الرحمن حسن قائدها كان يعلم بنبأ الهجوم، وعلى اتصالٍ دائم بالإنجليز، فتحرك بجنوده تحت جنح الليل إلى الشمال، بعيداً عن أرض المعركة، ليمر الجيش الإنجليزي في سلام
ويتقدم الجيش الزاحف، ويلمح عن بعدٍ مصابيح تنير الطريق. إنه علي يوسف "خنفس" قد أرسل جنوده للراحة، ثم خاف أن يضل الإنجليز، فوضع لهم المصابيح التي ترشدهم إلى الطريق الذي يسلكونه
وعند الساعة الرابعة والدقيقة الخامسة والأربعين، وقد تبين الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أعطيت إشارة الهجوم وانطلق ستون مدفعاً وأحد عشر ألف بندقية، وألفان من الحراب، تقذف الهول والموت على الجند النائمين، الذين قاموا على صرخة واحدة، وتفرقوا باحثين عن مهرب في الصحراء الواسعة، تاركين أسلحتهم وذخائرهم والسبعين مدفعاً رابضة في أماكنها لم تنبس ماسورة أي منها ببنت شفة
وكان عرابي يصلي الفجر على ربوةٍ قريبة حين باغته الهجوم وسقطت قذيفة مباشرة على خيمته، فتركها طعمة للنيران، وأسرع وامتطي جواده، ونزل في ساحة المعركة فأذهله أن رأى جنوده يفرون ووقف يحاول جمعهم ولكن التيار كان جارفاً، وقد ضاع صوته في انفجارات القنابل وطلقات الرصاص، وكادت المدافع تصيبه، ولكن خادمه لوى عنان فرسه قهراً عنه فأنقذ حياته، وانطلق يعدو بجواده إلى بلبيس ليحاول عبثاً أن يقيم خطاً ثانياً للدفاع عن القاهرة
ويذكر أحمد شفيق باشا في مذكراته من تفصيلات ما حدث والتي وردت إلى السراي أن عرابي قد استيقظ على قصف المدافع، فخرج من خيمته مستطلعاً، ولما شهد الهزيمة التي حلت بجيشه، حاول أن يستوقف الفارين وهم بالملابس الداخلية، ولكن الذعر كان قد دب في قلوبهم فعندئذٍ أخذ خادمه محمد إبراهيميرجوه أن يفر وينجو بروحه، فامتثل عرابي للنصيحة
وبذلك لاذ عرابي بالفرار وكان هدفه أن يصل محطة التل الكبير ليأخذ القطار إلى القاهرة قبل الإنجليز، فعجز عن ذلك، ولكنه نجح وخادمه في عبور الجسر المقام على القناة. وعلى الضفة الأخرى وجدا نفسيهما في وادي الطميلات، فركضا بعزم طاقتهما إلى بلبيس يسابقان الريح. وفي بلبيس وجد عرابي علي باشا الروبي قد سبقه إليها، ويقول عرابي: سألته عما حدث؟ فلم يزد على قوله: إنه الخذلان! وكان على إثرنا فرقة من خيالة العدو، فهجموا علينا فأرخينا للخيل أعنتها حتى وصلنا محطة أنشاص، فوجدنا هناك قطاراً فركبناه، وذهبنا إلى القاهرة
وفي نهاية الأمر، سلم عرابي سيفه إلى ولسلي على أبواب القاهرة، وأرجع البعض استسلامه لوجود اتفاق خاص سابق وأكدت جريدة "الأهرام" ذلك. وفي رسالة وجهها عددٌ من كبار المشايخ إلى السلطان أعربوا فيها عن دهشتهم لاستسلام عرابي وشكوكهم إزاء إعلان الحكومة الإنجليزية قبل بدء المحاكمة أنها لن تسمح بإعدام عرابي أياً كانت الأحوال، وربط الناس بين هذا كله وعدم استمرار موقعة "التل الكبير" أكثر من نصف ساعة
أما القوات البريطانية فقد واصلت بعد تلك المعركة تقدمها السريع إلى الزقازيق حيث أعادت تجمعها ظهر ذلك اليوم، ثم استقلت القطار (سكك حديد مصر) إلى القاهرة التي استسلمت حاميتها بالقلعة عصر اليوم نفسه. وكان ذلك بداية الاحتلال البريطاني لمصر الذي دام 72 عاماً
وقد احتُجِزَ عرابي في ثكنات العباسية مع نائبه طلبة باشا عصمت حتى انعقدت محاكمته في 3 ديسمبر كانون أول عام 1882 والتي قضت بإعدامه. تم تخفيف الحكم بعد ذلك مباشرة - بناءً على اتفاق مسبق بين سلطة الاحتلال البريطاني والقضاة المصريين- إلى النفي مدى الحياة إلى سرنديب (سيلان أو سريلانكا الآن). وقد انتقل السفير البريطاني لدى الباب العالي، لورد دوفرن،إلى القاهرة ليصبح المندوب السامي الأول، حيث أشرف على محاكمة أحمد عرابي وعلى عدم إعدامه. وجرى تجريد عرابى رفاقه من رتبهم العسكرية تمهيداً لنفيهم. "أورطة" الجنود الذين اصطفوا أمام مراسم التجريد لم يتمالكوا أنفسهم انخرطوا فى البكاء
ويتساءل المؤرخون كيف عبر الجيش البريطاني المسافة من القصاصين إلى التل الكبير دون أن يكتشفهم العرابيون، ويتخذون ذلك دليلاً على غفلة العرابيين، ويتناسون دور الخائن عبد الرحمن بك حسن الذي كان مكلفاً حراسة الطريق بقواته وإنذار المصريين عند اقتراب البريطانيين، لكنه تحرك بعيداً وترك البريطانيين يمرون دون أن ينذر المصريين
ونأتي إلى دور الخائن الأكبر الضابط علي بك يوسف خنفس -وحصل على الباشوية بعد دخول الإنجليز مصر- الذي أرسل خطة المعركة إلى القوات البريطانية حيث كان قائداً لقلب الجيش المصري، وانسحب أيضاً بقواته ليعطى الجيش البريطاني الفرصة ليحاصر جناحي الجيش المصري. وقد كتب خنفس إلى الإنجليز يتظلم لأنه تقاضى ثمناً للخيانة ألفين فقط من الجنيهات الذهبية، ولم يأخذ عشرة آلاف مثل رئيس مجلس الأعيان محمد سلطان باشا
لكن المؤرخين يختصرون كل ذلك بكلمة واحدة هي الخيانة، وكأنها كانت أحد الأسباب وليست هي السبب الرئيسي للهزيمة.. ولولاها لتغير وجه التاريخ كله ولكانت تماثيل أحمد عرابي وضباطه تملأ كل شوارع مصر إلى الآن ..غير أن المصريين بضميرهم النقي مازالوا يقولون في أمثالهم "الولس (أي الخيانة) هزم عرابي"، وهي مقولة تحمل في طياتها تورية بليغة، فالولس هو الموالسة مع العدو أو الخيانة، وهو في هذه المناسبة هو القائد الإنجليزي ولسلي الذي قاد قوات الاحتلال البريطاني
الخيانة إذاً كانت صانعة الحدث وعنوانه الأبرز
وهكذا نقرأ في كتب الباحثين والمؤرخين "إن العامل الجوهري في الهزيمة كان الخيانة" ("أحمد عرابي الزعيم المفترى عليه"، محمود الخفيف، ص 21-22)، وإنه "كان للخيانة أثر كبير في إحداث هذه الهزيمة" ("تاريخ العرب الحديث"، زاهية قدورة، ص 365) وإن "الرشوة اللعينة كانت تنساب في الظلام فتقتل بسمومها بعض الضباط؛ أمثال الخائن علي يوسف الذي أخلى الطريق للإنجليز عند التل الكبير" ("موسوعة التاريخ الإسلامي"، د. أحمد شلبي ، 5/474)
كما نطالع من يقرر ما يلي: "وقد لعبت الخيانة أقذر أدوارها في هذه الفترة من الحرب: فإن الأميرالاي علي يوسف خنفس أثرت الرشاوي الإنجليزية في نفسه الضعيفة، فجعل من نفسه جاسوساً للإنجليز داخل صفوف الجيش المصري الباسل" ("الثورة العرابية"، محمد المرشدي، ص 83)
ونجد أيضاً التالي: "ويذكر بلنت أن وزارتي الحرب والبحرية في انجلترا قد عقدتا النية منذ أوائل السنة أن يكون الهجوم على مصر من ناحية قناة السويس، وأنه تقرر في أواسط يوليو أن تمهد السبل لذلك بالرشوة بين بدو الشرق" ("الثورة العرابية"، صلاح عيسى، ص 427)
ومن الصعب إصدار حكمٍ نهائي على بعض الأشخاص الذين شاركوا في الثورة العرابية، غير أن ثمة هواجس ملأت قلوب الذين أرخوا للثورة أو عاصروها أو شاركوا فيها. إن بلنت مثلاً - وهو صديق مقرب إلى عرابي- يضع علامات استفهام حول البعض، ومنهم الشاعر والسياسي محمود سامي البارودي "رب السيف والقلم" الذي لم يتقدم من موقعه في الصالحية بحيث ينضم إلى قواتعلي باشا فهمي للدفاع عن القصاصين ولكنه وصل متأخراً. وهناك مبررات متناقضة لذلك، منها أن رجال مسعود الطحاوي قد ضللوه في الطريق عن عمدٍ، تنفيذاً لتعليمات أخذوها من الإنجليز..ومنها أيضاً أنه - كما يرى بلنت- كان يحسد عرابي، وقد أضاع الفرصة في القصاصين لأنه لم يكن قائد الجيش بدلاً من عرابي
وقد كتب محمود سامي البارودي عدة قصائد في هجاء عرابي، إذ جاء في مخطوطةٍ له لم تنشر من قبل:
أستغفر الله إلا من عداوته.. فــــإنهـا لجـلال الـلـه إعـظام
دع السلام لقوم يصبرون له.. واسكت فخلفك عند الفخر قدام
كذلك فإن بلنت يتساءل عن الصلة غير الواضحة التي أبقت عبد العال باشا حلمي في دمياط بعيداً عن ميدان القتال الحقيقي في "التل الكبير"، ويذكر أن لديه وثائق تدل على أن يعقوب سامي وكيل وزارة الحربية ورئيس المجلس العرفي كان يظهر كأنه ساعد عرابي الأيمن، فإذا به يثبت أنه رجل الخديو الذي يعتمد عليه
ومن الواضح أن ظروف هزيمة الثورة العرابية -أو "هوجة عرابي" كما تسميها بعض المصادر- تجعل دائرة الشكوك تتسع بصورةٍ مرضية. وإذا كان من الصعب الاعتماد على هذه الشكوك، فإن عوامل الشك تطل برأسها كأحد أسباب انهيار الثورة العرابية
غير أن الخيانة كانت أيضاً على مستويات أعلى من مجرد قادة الجيش ومشايخ القبائل
كانت الخيانة في قاعات القصور..وتحت قبة البرلمان
وهذه حكايةٌ أخرى