لم يعد هناك حاجة للاسترسال في سرد تفاصيل كثيرة عن النفاق الغربي الرسمي الذي يمثل الإرهاب في صورته الأكثر تدميرا وتخريبا، والذي كانت خطورته حتى وقت قريب تكمن في تخفيه وامتطائه جواد الديمقراطية وحقوق الإنسان، رغم أن إنسانه ليس أبدا كإنساننا، وحقوقه عندهم ليست كحقوقه عندنا.
ولقد كان لتأييد الغرب المطلق الرسمي والمستتر للإبادة في غزة الفضل في نزع ورقة التوت المهترئة التي كان يتعلل بها المتعللون، فظهر جليا أنه بدعمهم السياسي تتعطل إدانة إسرائيل دوليا ولذلك استمرت في غيها، وبأسلحتهم واستخباراتهم أبادت الأبرياء، وبأموالهم استأجرت المرتزقة وبنت المستعمرات، وظهرت الخلاصة في أنها ما هي إلا مجرد منفذ لسياستهم الإرهابية القذرة، قذارة تلك التي نفذوها من قبل في الحقبة الاستعمارية وفي الحربين العالميتين الكبيرتين.
لكن مع ذلك فهذا ليس وجه الإرهاب الوحيد للغرب، فهناك حقائق كثيرة أخرى مختلفة تجب الإشارة إليها حول التوحش الغربي عامة والأمريكي والإسرائيلي خاصة، منها أن من أحرق اليهود هم الغرب ومع ذلك أجبروا العرب على دفع الفاتورة، وأن الغرب وليس الشرق هو من غزا ونهب ثروات شعوب العالم حتى إنه حول البشر فيه إلى بضاعة تباع وتشترى، وهو من خاض الحروب الأكثر بشاعة في التاريخ بعد هجمات المغول والصليبيين، ويكفي القول إنه قتل في الحربين العالميتين الأولى والثانية وحدهما قرابة 5% من عدد سكان العالم جلهم من شعوب ليست أصلا طرفا في هذه الحرب، ولكن وضعها المتعاركون عنوة في أتون الحرب ليجنبوها شعوبهم.
أما أمريكا فضحاياها عادة ما يكونون بالملايين، بدءا من ضحايا قنابلها الذرية في اليابان، إلى مليون ونصف مليون قتيل في فيتنام، ومليوني شهيد في العراق حسب إحصائيات منظمات حقوقية فرنسية، ومليون و700 ألف حسب “هيئة إحصاء القتلى العراقيين”، التي دونت فقط من وصلت جثثهم إلى المشارح المعتمدة، وقرابة 176 ألف شخص في أفغانستان بحسب دراسة أجرتها جامعة براون الألمانية،و هذه مجرد عينة صغيرة لأربعة نماذج فقط من سجل متخم لضحايا كثر لانتهاك أمريكا لحقوق الإنسان.
إرهاب غير مباشر
ما سبق كان مجرد وجه للإرهاب المباشر، وبقي الحديث عن الإرهاب غير المباشر الذي يتلخص في أن الولايات المتحدة الأمريكية اتبعت في علاقاتها مع دول العالم العربي سياسات انتهازية، استطاعت من خلالها تحقيق النجاح الكافي لجعلها صاحب القرار الأهم في هذا الركن من العالم طوال العقود التسعة الماضية، ضاربة بإرادة شعوبه عرض الحائط، وذلك باعتراف قادة عرب بارزين منهم الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات الذي لم يخجل من أن يعلن صراحة أن 99% من أوراق اللعبة في المنطقة العربية بيد أمريكا.
وتتلخص تلك السياسات في تمكنها عبر وسائل عدة معلنة وغير معلنة من التغلغل عميقا في شؤون الدول الداخلية، وإيصال أنصارها فيها إلى أعلى السلطة، مع تدفق دعمها لهم بكافة الطرق العينية والسياسية واللوجستية.
ومع ذلك فإن باب دعمها ذلك ليس مفتوحا على مصراعيه كما هو الحال مع “إسرائيل”، ولكنه يكفي في حده الأدنى منع هذه النظم من السقوط من جانب، ومنعها من أن تتشبع لدرجة تمكنها من الاستغناء عن هذا الدعم مستقبلا من جانب آخر.
ورغم نجاعة تلك السياسة فإنها تقوم بعمل جنوني آخر متمثل في صناعة أو دعم بدائل لهؤلاء الحلفاء وتقديمهم كمعارضة ديمقراطية لهم، قاصدة استيفاء الديكور الخاص بوجود معارضة لكل نظام كما هو الحال في كل النظم التي تدعي الديمقراطية، وكذلك ترويع الحلفاء بقوة ضغط إضافية سعيا وراء مكاسب أكبر، ولتقول إن يدها في البلاد ذات حول وطول، وفي أحيان أخرى تتصرف كذلك فقط لخدمة الحلفاء الأصليين وإظهارهم أمام شعوبهم كحكومات مستقلة تتعرض لمؤامرات خارجية من قبل معارضة غير وطنية.
ولعل الاستعمال الأهم من ذلك كله الاستعاضة بهم عن المعارضة الحقيقية “غير المرغوب فيها” التي سيتم إقصاؤها باتهامات فضفاضة كالإرهاب والتطرف والعمالة للخارج، وكذلك استخدامهم للحيلولة دون وصول مثل هؤلاء المغضوب عليهم لأي سبب غير متوقع كثورة شعبية أو انقلاب عسكري.
تدمير نموذجي
تلك السياسات هي درجة من درجات الإرهاب بما تتضمنه من تخريب الحياة السياسية للأمم، وهو تخريب يتقدمه ويعقبه تخريب أوسع نطاقا للحياة الاجتماعية والاقتصادية والفكرية وحتى الروحية، وذلك لأنه ببساطة إذا فسد الراعي ووصل السلطة بالاحتيال والدعم الخارجي فسدت معه الرعية وتحولت علاقاتها البينية إلى غابة.
وفيما يبدو أن ما فعله النفوذ الأمريكي والغربي في البناء السياسي للدول العربية، قلدته النظم ذاتها في معارضتها، فأقصت الإسلامي المتمسك بأيديولوجيته ودعمت أحزابا إسلامية هلامية بلا فكر ولا شعبية، وأقصت القومي الذي يرى أن العروبة والإسلام وجهان لعملة واحدة، ودعمت أحزابا قومية برنامجها قائم فقط على عداء التيار الإسلامي، وفعلت ذلك مع الاشتراكي المدافع عن حق الفقير والمناضل لتغول الرأسمالية، ودعمت ذلك الذي برنامجه قائم على سحق التيار الإسلامي والقومي.
والأخطر أنها سحقت واقعيا جميع أنواع المعارضة بكل أطيافها، فصارت جميعها مصنعة في معامل السلطة وأجهزتها الأمنية، ويدار هذا وذاك من السفارات الغربية.
هذا وجه آخر أكثر خطورة للإرهاب، لأنه يدمر ولاء ونماء الأمم برمتها، ويقلب حالها فيجعل من شعوبها الأعداء ومن أعدائها الأصدقاء.
هذا هو إرهاب الرجل الأنيق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق