«إن فراغ الساحة، وتخلّي الباحث العربي عن مهمته جعلها ميداناً متاحاً واسعاً حتى سامها كل مفلس»
(محمد على مادون)
استمر الروائي والباحث المصري الشهير، يوسف زيدان، في ترويج الرواية التوراتية عن تاريخ القدس، وذلك خلال لقائه في برنامج «ممكن» مع الإعلامي خيري رمضان، المذاع على فضائية «CBC». حيث قال باللغة العامية: «ايليا المدينة المسيحية أورشليم بيت همقداش ده اليهودية، المدينة نفسها تاريخها اقدم بكتير انما في الوقت اللي كان في اليهود بعد سليمان حسب التاريخ اليهودي العام يعني حصلت خناقات وانقسمت دولتهم بقي في مملكة في الشمال ومملكة في الجنوب اللي هي يهوذا والسامرة وكل وحده لها عاصمة فالعاصمة بتعت يهوذا أورشليم تقول اصلها كنعاني ليكن بس هما سكنوها وعلشان يقدروها عملولها لقب تسميه "بيت همقداش أورشليم" أي "بيت المقدس".. لما ادمرت بقي المدينة علي يد هادريانوس اتبنت مدينة تانية في ظل المسيحي ايليا كل الاشارات ليها».
بهذه الكلمات غير المترابطة المعني والتي تنم عن مغالطات تاريخية، وتَبنِّي وِجهة نظر التوراة؛ وأحياناً كثيرة المغالاة فيها؛ يحاول يوسف زيدان اختلاق تاريخاً إسرائيلياً في بلادنا فلسطين، في محاولة فاشلة، وميئوس منها؛ بل يمكن اعتبارها محاولة هَزليَّة، وتبعثُ على الضحكِ، والفكاهة، بمجرد عرضها على المكتشفات الآثارية.
فالمصدر الوحيد، الذي استند له زيدان هو التوراة؛ والتوراة وحدها؛ إذ لم يَعثُر المُنقِّبونَ على أي أثر، من هذا الدور. فلا توجد مصادر تاريخيَّة، تدعُم السِجِّل التوراتي؛ كما لم تُسهِم المخلَّفات الأثريَّة، في إيضاح ذلك.
فقد أصدرَ ليتش نقداً معتدلاً في حدَّتِهِ، للاستخدام التاريخي للقصص التوراتيَّة، من منظور «أنثروبيولوجي» بُنيوي. والموضوع السائد في كتابِهِ، كان أن الكِتاب العبري، بوصفِهِ نصاً مقدَّساً، لا يُوفِّر مصدراً تاريخياً، ولا يعكس بالضرورة، حقيقة عن الماضي. إنه يُمثِّل عند ليتش، تبريراً للماضي، يَكشِف عن عالَم القصّاصين، أكثر مما يكشف عن أيَّة حقيقة تاريخيَّة. ويُطرح هنا أسئلة مهمة جداً، تُثير شكوكاً حول التقديمات السائدة، لحُكمَيْ داود، وسليمان، وتُساءل تاريخيَّة هذه المرحلة الهامة، كما قُدِّمت في الموروثات الكتابيَّة؛ وأنا شخصياً أرى ذلك غير قابل للتصديق. ليس هناك أي دليل أثري، على وجود هذين البطليْن سابقس الذِكر، أو على وقوع أي من الأحداث، التي ارتبطت بهما. ولولا قداسة هذه القِصص، لكان وجودهما التاريخي مرفوضاً، بالتأكيد.
مما قالهُ العالِم روني ريك، في هذا الصدد: «آسف أن السيد داود، والسيد سليمان، لم يَظهرا في هذه القِصَّة».
إن السِمَة الأكثر إدهاشاً، في الخطاب [الكِتابي]، هي الصمت المُطبق للسِجِل الآثاري، حول ما يتعلَّق باللحظة التعريفيَّة [فترة سليمان، وداود]، في تاريخ المنطقة. إنه الصمت الذي ساهم بشكل أساسي القوى ضمن مشروع، وتحديداً لأنه قد أكَّد تَحامُل المؤرِّخين الكتابيِّين، الذين قرَّروا أن كتابة التاريخ، تعتمد على المصادِر المكتوبة. كما صرَّح غاريبيي، وليتش، وفلاناغان أن صمت السِجِل الآثاري، هو الذي يطرح أكثر الأسئلة جِديَّة، حولَ تقديم امبراطوريَّة«إسرائيليَّة»، بوصفِها تعبيراً عن ثقافة حضارة نهضويَّة، كما ويوحي بأننانتعامل مع ماضٍ مُختَرَع.
يُشير مِلَّر، إلى أنه ليس هناك دليل على المملكة الداوديَّة ـ السليمانيَّة، خارج التقاليد والموروثات الكتابيَّة؛ أما عن المؤرِّخونَ، الذين يتحدَّثونَ عن هذا الكيان،إنما يفترضونَ مُسبقاً، صِحَّة المعلومات التي يأخذونها، من الكِتاب العبري [التوراة].
في هذا الاتجاه شكَّكَ عالم الآثار (الإسرائيلي)، يسرائيل فنكلشتاين، من جامعة تل أبيب، بوجود أي صِلَة لليهود بالقدس؛ ما جاءَ ذلك خلال تقرير، نشرته مجلَّة "جيروساليم ريبورت" (الإسرائيلية)؛ توضِّح فيه وِجهة نظر فنكلشتاين، الذي أكَّد أنه لا يوجد أساس، أو شاهِد إثبات تاريخي، على وجود داود؛ هذا المَلِك المحارِب؛ الذي اتَّخَذَ القدس عاصمة له؛ والذي سيأتي (الميا) من صلبِهِ؛ للإشراف على بناء الهيكل الثالث؛ مؤكِّداً أن شخصية داود، كزعيم يحظى بتكريم كبير؛ لأنهُ وَحَّدَ مملكتي يهودا، وإسرائيل، هو مجرَّد وَهم، وخيال، لم يكن له وجود حقيقي. كما يؤكِّد فنكلشتاين، أن وجود باني الهيكل، وهو سليمان بن داود، مشكوك فيه، أيضاً.
يقول العلاَّمة "طُمسن"، في كتابِهِ «الماضي الخرافي (التوراة والتاريخ) »:«جرى تقديم [القرن العاشر ق.م.]، بوصفِهِ العصر الذهبي لـ(إسرائيل)، وعاصمتها في أورشليم. كانت تلك الحقبة مرتبطة بالمملكة المتَّحِدة، التي تضم السلطة السياسيَّة لشاول، وداود، وسليمان، وتسيطر على الجِسر البرّي الضخم، من النيل، إلى الفرات. إضافة إلى مفهومها، عن الهيكل الذي بناه سليمان، بوصفِهِ مركزاً لعبادة يهوه. تلك الصور لا مكان لها في أوصاف الماضي التاريخي الحقيقي. إننا نعرفها فقط كقِصَّة، وما نَعرفهُ حول هذه القِصص، لا يُشجِّعنا على معاملتها، كما لو أنها تاريخيَّة، أو أنه كان يُقصد منها أن تكون كذلك. ولا يتوافر دليل على وجود مملكة مُتَّحِدَة، ولا دليل على وجود عاصمة في أورشليم، أو وجود أي قوَّة سياسيَّة مُوحَّدة مُتماسكة، هيمنت على فلسطين الغربيَّة، ناهيك عن امبراطوريَّة، بالحجم الذي تصفهُ الحكايات الأسطوريَّة. ولا يتوافر أي دليل على وجود ملوك، يُدعَوْنَ شاول، أو داود، أو سليمان؛ ولا نملك دليلاً على وجود هيكل في أورشليم، في هذه الفترة المبكِّرة. ما نعرفهُ عن (إسرائيل)، و(يهوذا) القرن العاشر، لا يَسمح لنا بتفسير انعدام الدليل هذا، بوصفِهِ فجوة في معرِفتنا، ومعلوماتِنا حول الماضي، أو مجرَّد نتيجة للطبيعة العَرَضيَّة للآثاريّات. ما من مُتَّسَع، ولا سياق؛ لا شيء مُصطَنَع، أو أرشيف يُشير إلى مثل هذه الحقائق التاريخيَّة، في القرن العاشر، في فلسطين. لا يمكن للمرء أن يتكَّلم على دولة بلا سُكّان. ولا يُمكِنهُ أن يتكلَّم عن عاصمة، من دونِ بَلدة. والقِصص ليست كافِيَة».
إذن لا يوجد مُتَّسَع لمملكة متَّحِدَة تاريخيَّة، أو لملوك كأولئك الذين جرى تقديمهُم، في القِصص الكتابيَّة لشاول، وداود، وسليمان. إن الحقبة المبكِّرة التي تُؤطِّر فيها التراثيَّات حكاياتها، هي عالَم خيالي، من زمنٍ غابِر، لم يوجد على هذا النحو أبداً. لم يكن من الممكن أن توجد مملكة، لأي شاول، أو لأي داود، ليكون ملكاً عليها؛ ببساطة لأنه لم يكُن ثمَّة ما يكفي من الناس لإقامةِ مُلْك. فدولة "يهوذا" لم تكن فقط ، غير موجودة؛ بل إننا لا نملُك أي دليل على وجود أي قوَّة سياسيَّة، في أي مكان في فلسطين، كانت كبيرة بما يكفي، أو متطوِّرة، بما يكفي لأن تكون قادرة على توحيد الاقتصادات، والأقاليم العديدة لهذه البلاد. في هذا الوقت، كانت فلسطين أقل توحَّداً بكثير، مما كانت عليه، لأكثر من ألف عام. ويكاد الحديث أن يكون غير ممكِن تاريخياً، عن أورشليم القرن العاشر؛ فلو وُجِدَت بالأساس - فلم يُعثر خلال سنوات من التنقيب، على أي أثر لبلدة من القرن العاشر - لكانت ما تزال تبعد قروناً، عن امتلاك المَقدِرة، على تحدِّي أي من بلدات فلسطين القوية - خلال العشرينيات أو أكثر - المتمتِّعة بالحُكم الذاتي.
وفي نهاية المطاف لن أمل من تكرار حقيقة معروفة، وهي أنه بعد مرور أكثر من قرن ونيف على التنقيب الأثري الذي لم يترك شبراً أو حجراً من أرض فلسطين دون قلبها، لم يعثر على أثر واحد يربط العهد القديم بها، وأي ادعاء بغير ذلك غير صحيح على الإطلاق وتزوير للحقائق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق