رأي القدس
أصدر رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون أمراً في 31 آذار/مارس 2014 للمسؤولين المعنيين في جهازي الاستخبارات الداخلية والخارجية بالتحقيق في نشاطات جماعة «الإخوان المسلمين» في بريطانيا، وقد تكشّفت لاحقاً علاقة هذا الأمر بضغوط اقتصادية وسياسية كبيرة من قبل دول عربية محددة على لندن لحظر «الإخوان» ومطاردتهم قانونياً، وهو ما جعل إعلان نتائج التحقيق الذي كلّف به جون جينكينز سفير بريطانيا السابق للسعودية يدور في مسارات معقدة بين كواليس «وايتهول»، مقر الحكومة البريطانية إلى أن قررت، أمس، إعلانه وبشكل يحمل آثار تلك الضغوط والولادة المتعثرة.
البيان المكتوب الصادر عن مكتب رئيس الوزراء البريطاني حول التحقيق يصف أعضاء الجماعة بأنهم «متطرّفون محتملون»، وبأن الانتماء للإخوان « قد يكون مؤشراً للتطرّف»، وبأن بعض أعضائها لديهم «علاقات غامضة جدا مع العنف المتطرف».
ولتوضيح التوصيفات المذكورة يشير بيان كاميرون إلى مثالين: الأول هو أن أدبيات الجماعة تعتبر بريطانيا «معادية بشدة للدين والهوية الإسلاميين»، والثاني هو أنها تعبّر عن دعمها «للهجمات الإرهابية التي تقوم بها الجماعة الإسلامية حماس».
في غياب نسخة كاملة من التقرير، واعتماداً على بيان مكتب رئاسة الوزراء، يمكننا القول إن التعامل البريطاني مع مسألة هائلة التأثير على العالم الإسلامي مثل «الإخوان المسلمين» يعبّر عن إشكاليات عديدة.
أول هذه الإشكاليات أن هذا التحقيق لم تستدعه خروقات أمنية أو قانونية قامت بها الجماعة في بريطانيا، وأن طابعه «المستورد» جاء على خلفية الضغوط الكبيرة التي مارستها دول عربية، على رأسها الإمارات ومصر (التي كانت أول من رحّب أمس بصدور التقرير)، وهذا ما يشكك بمصداقية بريطانيا ويربط قرارها السياسي والأمني والقانوني بـ»علاقات غامضة جداً» تعمل في خدمة «المجهود الحربيّ» للاستبداد العربيّ.
ثاني هذه الإشكاليات أن تعامل لندن مع قضية «الإخوان» كان أمنيّاً، في اختزال متعسّف ومسيء لقرابة مئة عام من التاريخ السياسي الذي تمثّله الجماعة في أغلب البلدان العربية والإسلامية.
شكّل «الإخوان المسلمون» تيّاراً ثقافياً وسياسيا شعبياً عريضاً منذ عشرينيات القرن الماضي مع تفكك السلطنة العثمانية التي كانت بالنسبة للإسلام السنّي تجسيداً عضوياً للعلاقة بين الإسلام ودولته، وترافق ذلك مع هجمة عنيفة للإمبرياليات الغربية على مقر السلطنة الرمزي وعلى البلدان العربية أيضاً، وكان هذا التيّار آليّة سياسية (ونفسية) كبرى لعلاج الشعوب العربية والإسلامية من رضّة حضارية هائلة.
وجاءت الدولة العربية الحديثة التي حاولت أن تكون على صورة أوروبا لتبرهن عن فشل كبير مدوّ في التعاطي مع استحقاقات الواقع، وكان الاضطهاد الذي مورس على ما سمّي بتيّار «الإسلام السياسي» أحد الأسباب البنيوية لهذا الفشل، فهذه الدولة «الحديثة» استوردت من أوروبا أشكال الحكم البرلمانية والقوانين والنظم العسكرية والأمنية ولكنّها، بدون استثناء، رفضت آليات العمل الديمقراطي والفصل بين السلطات، فتحوّلت إلى نظم دكتاتورية تعتاش على الفساد والظلم والتبعيّة للخارج.
تعرّض «الإخوان المسلمون» على مدى حقب طويلة للاضطهاد والملاحقة والقمع، وهو ما أدّى إلى انشقاق جماعات عنهم وتحوّلها إلى تنظيمات عنفيّة، وكانت سلميّتها سبباً دائماً للانتقاد من داخل كوادرها، وكذلك من التنظيمات المتطرفة والعنيفة.
إن وجود اتجاهات وميول داخل «الإخوان» للعنف هو أمر طبيعيّ ويجري عليهم كما يجري على كل التيارات السياسية في العالم التي تتعرّض لضغوط قاهرة، فالعنف الذي تمارسه الأنظمة، والقوانين التي تسنّها لمطاردتهم تجعلهم في امتحان دائم مطلوب منهم الفشل فيه والتحوّل إلى تنظيم عنيف لتبرير إرهاب الدولة ضدهم.
يضاف إلى كل ذلك أن مسمّى «الإخوان المسلمين» هو توصيف فضفاض لحركات كبيرة وعديدة تبيّأت ببيئاتها واكتسبت صفاتها الوطنية، فالإخوان المصريون يختلفون عن السوريين واليمنيين والجزائريين والتونسيين والمغاربة والأردنيين، وقد اختط التوانسة والأتراك على سبيل المثال، لأنفسهم خطّة مغايرة بشكل عام للاتجاه العام للإخوان، واتجهوا إلى التعاطي مع المجتمعات المسلمة من دون فرض فكرة إسلامية الدولة التي أرهقت الفكر السياسي الإسلامي وعصفت به، في السنوات الأخيرة، عصفاً شديداً.
يبقى أن حديث بريطانيا عن كون الجماعة تحمل «تطرّفاً محتملاً»، وأن الحكومة البريطانية ستضع شؤونها تحت المراقبة، في الوقت الذي يقبع فيه الرئيس المصري السابق محمد مرسي في السجن ويتعرّض «الإخوان» في أكثر من بلد عربيّ لقمع رهيب، ليس إلا دعماً غير مباشر لهذا الاتجاه المستبد من بلد يعتبر نفسه أقدم ديمقراطيات العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق