نقلا عن جريدة اللواء اللبنانية
يجد الباحث في بدايات تكوين المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة الاهتمام الجليّ والواضح بعنصر سلامة العلاقات الدّاخلية بين أفراد المجتمع وهو ما عبّرت عنه بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية (بإصلاح ذات البين) كما جاء في قوله تعالى: {فاتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين}.
وقد برزت هذه العناية بإصلاح ذات البين من خلال جملة من التشريعات ذات الأبعاد الجامعة بين مكونات المجتمع المتعدّدة والمؤلّفة بين قلوبها وبها تحقّقت نعمة الله على تلك الجماعات المتفرّقة المتناحرة والمتصارعة فجمعتهم بعد الإختلاف وأصبحوا أهل مودّة وائتلاف، كما حكى الله تعالى عن ذلك بقوله: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءاً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}.
وقد جاء عقد المؤاخاة الذي قام به الرسول (ع) في المدينة المنوّرة بين قبائل الأوس والخزرج والمهاجرين والأنصار ليجعل الأخوة أساساً لقيامة المجتمع الجديد وعنواناً من عناوين دعوته الرّائدة التي اعتمدت على السلم قاعدة من قواعدها وبنداً من بنودها كما في قوله تعالى مخاطباً المجتمع الجديد {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ}.
ولا شكّ في أن عقد الأخوّة قد شكّل أهمّ الوسائل وأفضل الطرق المؤدية إلى فضّ الخلافات والنزاعات والمحققة للسلم بين الأفراد والجماعات. وقد جاء في نصوص السنّة النبويّة الشريفة أن المسلمين كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعت له بقية الأعضاء بالسهر والحمّى، وأن المسلم أخو المسلم لا يخونه ولا يخذله ولا يحقره وقد أصبح المسلمون في ظلّ هذه التعاليم مجتمعاً من أطهر المجتمعات التي عرفها التاريخ في تحابِّهم وتوادّهم وتراحمهم وتعاونهم كما حكى لنا ذلك القرآن الكريم في قوله تعالى {محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مثلهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأه فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم أجراً عظيماً}.
ولمّا أصبحت الأخوّة ركناً في بناء المجتمع الإسلامي فهي تحتاج إلى الرعاية والتّعاهد بما يمنعها من الاهتزاز ولتبقى تؤدي دورها في تحقيق السلام الدّاخلي الذي يعتبر من الضروريات للانطلاق في عمليّة البناء والتغيير ومواجهة الأخطار التي تعترض المسيرة الجديدة، وقد أدركت قيادة المجتمع المؤيّدة بالوحي الإلهي أن الأخوّة لا تكون إلاّ حيث يكون التعدّد والكثرة، وهذا يعني الإختلاف بحسب العادة في الطبائع والآراء والأفكار والتطلّعات والرّغبات وغيرها من الأمور التي قد تؤدي إلى الخلاف والنزاع الّذي يعصف بالوحدة المطلوبة ويعرّضها للتفكك والانقسام فيما لو تركت أسباب الخلاف دون علاج. ولذلك عملت الشريعة على إيجاد تشريعات وتوجيهات للمحافظة على هذا الركن الركين الذي يشكّل حجر الزاوية في استمرار الكيان المجتمعي واستقراره فأمرت بالإصلاح بين الناس والحث عليه واعتبرته في طليعة الأعمال التي ينبغي القيام بها كما جاء في قوله تعالى: {لا خير في كثير من نجواهم إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس ومن يفعل ذلك ابتغاء مرضاة الله فسوف نؤتيه أجراً عظيما} وكما جاء في قوله تعالى: {إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم واتقوا الله لعلكم ترحمون}.
الكلمة الطيّبة
وأكّدت الشريعة في هذا المجال على دور الكلمة الطيّبة كما جاء في قوله تعالى {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ}. وقوله تعالى {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنسَانِ عَدُوًّا مُّبِينً}.
ولذلك فقد حذّرت الشريعة عن كلّ ما يؤدي إلى إضعاف وحدة الأمة والمجتمع في فعل أو قول كالنزاعات والشائعات، كما جاء في قوله تعالى {ولا تنازعوا تفشلوا وتذهب ريحكم}.
وكما جاء في الحديث (إيّاكم والظنّ، فإن الظنّ أكذب الحديث، ولا تحسّسوا ولا تجسَّسوا، ولاتنافسوا ولا تحاسدوا، ولا تباغضوا ولا تدابروا وكونوا عباد الله إخوانا).
ومن الأحاديث التي تؤكد على إهتمام الشريعة بسلامة العلاقات الداخلية ما ورد عن النبي(ع): (ألا أخبركم بأفضل من درجة الصلاة والصيام والصّدقة، قالوا: بلى يا رسول الله، قال: إصلاح ذات البين وفساد ذات البين هي الحالقة، ولا أقول تحلق الشعر ولكن تحلق الدين). وفي حديث آخر عن أبي أيوب الأنصاري: (قال ألا أدلّك على صدقة خير لك من حمر النعم ؟ قال: بلى يا رسول الله. قال: تصلح بين الناس إذا تفاسدوا وتقرب بينهم إذا تباعدوا). وفي بعض النصوص الأخرى: (إصلاح ذات البين أفضل من عامة الصلاة والصيام). والنصوص بهذا المعنى كثيرة.
وتعزيزاً لسلامة العلاقات الداخليّة، فقد تعدّدت الروايات والأحاديث في الدلالة على ترسيم نهج أخلاقي من خلال منظومة القيم والمبادئ التي تبعد الإختلاف عن دائرة الخلاف والنزاع وتهيّء المناخ لسلامة المجتمع الداخلية كما جاء في بعضها: (أفضل المؤمنين إسلاماً من سلم المؤمنون من لسانه ويده وأفضل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً) و(أفضل المؤمنين إيماناً أحاسنهم أخلاقاً الموطئون أكنافاً الذين يألفون ويؤلفون، ثم قال لا يبلغ عبد حقيقة الإيمان حتى يحبّ للناس ما يحب لنفسه وحتّى يأمن جاره بوائقه) و(أفضل الإسلام من سلم المسلمون من لسانه ويده). (والمهاجر من هجر السوء والذي نفسي بيده لا يدخل الجنة عبدٌ لا يأمن جاره بوائقه). (المسلم من سلم الناس من يده ولسانه، والمؤمن من ائتمنه الناس على أموالهم وأنفسهم).
ومن الواضح أن هذه التشريعات لا تخصّ المسلمين وحدهم بل هي شاملة لكل مكوّنات المجتمع من المسلمين وغيرهم باعتبار ورود كلمة الناس في بعض تلك الأحاديث وكلمة الجار المطلقة وغير المقيّدة بدين أو مذهب.
وظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر
وعلى الرغم من كثرة هذه التوجيهات والإرشادات المشجعة على السلوك الذي تستقيم به العلاقات الأخوية داخل المجتمع فإنّ الشريعة لم تترك ذلك لاختيار الأفراد لمحاسن الأخلاق وإنما أمرت الشريعة بتكوين جماعة تكون مهمتها الدّعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وهي بمثابة الهيئة الدائمة للرقابة والإصلاح والتقريب وقد عبّر القرآن الكريم عن تلك الجماعة بالأمّة ولعلّ ذلك لرفعة قدرها وأهميّة دورها الذي تقوم به في حفظ الأمة من داخلها كما في قوله تعالى: {ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}.
وهذه الجماعة فيما نرى هي التي تشكل النواة للفرقة الناجية باعتبار أنها تسعى لنجاة المجتمع والأمة كلها وليست الفرقة الناجية هي التي تحتكر النجاة لنفسها وتضيّق رحمة الله التي وسعت كلّ شيء.
وينتظم في وظيفة هذه الهيئة كل أفراد المجتمع بل يمكن القول بأن الأمة كلها تنتظم في هذا الواجب الهادف إلى تماسكها الداخلي باعتبار أنها الأمة التي وصفت بأنها خير أمة أخرجت للناس لأمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر وإيمانها بالله كما في قوله تعالى: {كنتم خير أمة اخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
وهذا ما يشير إلى أن مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هي مسؤوليات الجماعات والأفراد ويؤيّد هذا المعنى من المسؤولية العامّة ما ورد في السنّة النبويّة الشريفة : (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته).
مسؤولية الولاة وأهل العلم والقلم
وقد ورد في الحديث (إثنان من أمّتي إذا صلحا صلحت أمّتي، الأمراء والعلماء) وهذا ما يؤكد على ضرورة التعاون بين ولاة الأمر وأهل العلم والقلم على نشر خطاب الإعتدال الذي يجمع ولا يفرّق ويصلح ولا يفسد.
وقد يحاول البعض الفرار من هذه المسؤولية في الحياة الدنيا وكأنّه يؤجّلها إلى عالم الاخرة حيث تنتفي الحاجة إليها ويعتذرون عن تحمّل هذه المسؤولية في مجتمعاتهم بدعوى خوف الضرر على أنفسهم. ولكن الهدف في الحقيقة عند هؤلاء هو المحافظة على مصالحهم الشخصية وهي لن تكون في سلامة عندما تتعرّض المصالح العامّة للمجتمع إلى الخطر إذا تركت الصراعات والنزاعات تعصف به وتخلّى المسؤولون والمصلحون عن دورهم ومسؤولياتهم فإنّ ذلك سيؤدي إلى الظلم وهلاك المجتمع كما قال الله تعالى: {وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون}.
وقد جاء في الحديث عن هؤلاء الذين تركوا هذه الفريضة العظمى أنهم (قوم لا يوجبون أمراً بمعروف ولا نهياً عن منكر إلا إذا أمنوا الضرر يطلبون لأنفسهم الرخص والمعاذير) مع أن كلمة الحق هي من أفضل الجهاد كما ورد في الأحاديث فهي لم تكلّفهم أن يحملوا سيفاً داخل المجتمع لإصلاح ذات البين وإنما كلّفتهم بالكلمة الّتي تصوّب المسيرة وتمنع من تراكم الأخطاء التي تؤدي إلى فساد العلاقات. وقد جاء في العديد من الروايات: (ما من رجل ينعش بلسانه حقاً فعُمل به بعده إلاّ يجري عليه أجره إلى يوم القيامة ثمّ وفَّاه ثوابه يوم القيامة) كنز العمال. و(أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر) وفي بعضها (كلمة عدل هي من أعظم الجهاد) و(إنّ الناس إذا رأوا المنكر ولا يغيّرونه أوشك الله أن يعمّهم بعقابه).
وعن ابن مسعود (إنّ أوّل ما دخل النقص على بني اسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول يا هذا اتق الله ودع ما تصنع فإنّه لا يحلّ لك، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض، كلاّ والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ولتأخذن على أيدي الظالم ولتأطرنّه على الحق أطرا أو ليضربنّ الله بقلوب بعضكم على بعض ثم يلعنكم كما لعنهم).
وقد وصفهم القرآن الكريم بأنهم كانوا قوماً لا يتناهون عن منكر فعلوه وكان ذلك سبباً من أسباب فقدان الأمن في المجتمع وضعف تماسكه وانهياره بانهيار المثل والقيم التي تخلّوا عن التمسّك بها والإحتكام إليها.
فمتى تقال هذه الكلمة التي تحفظ بها سلامة المجتمع والأمّة؟! وقد جاء في الحديث (مثل العلم الّذي لا يقال به، مثل الكنز لا ينفق منه).
وعن الإمام علي (ع): (وإن العالم العامل بغير علمه كالجاهل الحائر الذي لا يستفيق من جهله بل الحجة عليه أعظم والحسرة له ألزم وهو عند الله أَلْوَمُ).
والسؤال الذي ينبغي طرحه، هو : كيف نخرج خطاب الإعتدال الديني من الحالة الفرديّة إلى الحالة المؤسساتية التي تجعل منه مرجعيّة عامّة في ثقافة السلم الأهلي المؤثرة في سلوك الأفراد والجماعات؟
وهنا نرجع للتأكيد في الدرجة الأولى على دور ولاة الأمر في هذه المسألة المهمّة والبالغة التأثير في مجتمعاتنا التي لا يمكن إخراج الدين من حياتها، لأن الدين يشكل أساساً للفكر والعقيدة لديها، فلا يمكن إغفاله عن دائرة التوجيه والتنظيم، ولا بدّ من إبعاده عن دائرة الإستغلال في التعبئة الخاطئة التي تهدد السلم الأهلي والإستقرار من خلال الثقافة المضادّة التي تزرع الفرقة والبغضاء باسم الدين بين أفراد المجتمع وفئاته، وقد ذكرنا بأن ذلك يبتدئ من المدرسة والكتاب، وهذا ما يتطلب تنظيماً للتعليم الديني وتعديلاً لمناهجه وإيجاد المعاهد المشتركة للدراسات الدينية، وغيرها من المقترحات التي قدمناها في هذا السبيل إلى مؤتمر الحضارات في خدمة الإنسانية الذي انعقد قبل شهرين هنا في مملكة البحرين المحروسة.
يا أولي الأمر من سواكم نطالب إنّكم للبلاد عينٌ تُراقبْ
يا أولي العلم من سواكم نخاطبْ إنّكم في العباد أهلُ المناقبْ
عهدنا الماضي كان عذب المشاربْ مَنَحَتْنَا السماءُ طُهر السحائبْ
وانظروا أجداداً لنا كيف صاروا أُمَّةً لم تفصم عراها القواضبْ
رفعوا للدين الحنيف لواءاً وبه ذَلَّلوا جليل المصاعبْ
أسسوا دولة الهدى بلغت في حكمها شرق الشمس حتى المغاربْ
جَمَعَ الدين شملهم واستقاموا وغدوا يمتطون ظهر الكواكبْ
هو إسلامنا فسيح الجوانبْ ليس فيه ضيقٌ كضيق المذاهبْ
أبعدوا الجيل عن سموم لماضٍ أين منها في الفتك سمُّ العقاربْ
أنقذوا الجيل من مكايد قومٍ لا تجاريهم في الدهاء الثعالبْ
واطرحوا أثواب التّعصّب عنهم وانفضوا أكواماً لتلك الرواسبْ
واجمعوا صفاً والإله استعينوا هو نعم المولى وأعظم غالبْ
شَيِّدوا للعقول صرحاً منيعاً بسراج العقول تمحى الغياهبْ
وعلى الأمّة احْذروا من رواة للحديث الضعيف يبدي المثالبْ
إن أخباراً لا توحِّد شملاً كاذبٌ من يأتي بها ألف كاذبْ !!