لا تبرح مخيلتى تلك الصورة المفزعة لفقير هندى يصلح كرمز لحال عالمنا الإسلامى … شاهده فى رحلة إلى الهند أحد كتابنا ، كان الفقير المسكين راقدا بجوار حائط متهدم يمكن أن ينقض عليه فى أى لحظة، عاريا تحيطه أوساخ لا حصر لها، هيكل عظمى مكسو بجلد مهترئ يكاد يختفى خلف جحافل من ذباب، وقد عجز تماما عن أن يحرك حتى إصبعا ليبعد الذباب عنه، ولم يقتصر الأمر على ذلك، فقد مر بالهيكل البشرى المسكين كلب ضال أخذ ينهش من لحمه والرجل ليس عاجزا عن الحركة كى يبعد الكلب الشرس فقط، بل هو أيضا عاجز عن الصراخ، ولولا لمعة عين مفعمة بالعجز واختلاجة جفن مشحونة بالألم لظنه من ينظر إليه مجرد جيفة …
ولكى تكتمل الصورة ، فإننا نزعم أن الرجل فاقد الذاكرة أيضا، أو أن ذاكرته قد تشوهت بصورة مفزعة، فلقد تمزقت شذر مذر، فقد احتفظ منها بما يلغى عنده أى عزيمة لتغيير وضعه، واحتفظوا له من التذكرات بما يشاءون …
لطالما تساءلت: هل الرجل عاجز عن الصراخ فعلا أم أنهم بعد السيطرة الكاملة عليه قد غرسوا فى وجدانه وعقله أن الصراخ عيب وهمجية وتخلف … ثم أنه إرهاب…
***
إننا نتعرض منذ هزيمتنا الحضارية الشاملة لأبشع عمليات غسيل المخ فى التاريخ …
تخيل أيها القارئ أننى ذهبت إلى ألد أعدائك وجعلته مرجعى الوحيد فى وصفك ..
ثم تخيل بعد ذلك أننى أجريت لك عملية غسيل للمخ فأقنعتك بأن تتبنى أنت نفسك رأى عدوك فيك …
لكننا فعلنا ما هو أسوأ من كل هذا …. لأنه ليس على مستوى فرد بل على مستوى الأمة .. الأمة كلها …
لقد اعتمدنا تاريخنا الذى يكتبه عدونا …. وصدقناه ….
اعتمدنا قيمه وثقافته وصدقنا آلته الإعلامية الجبارة … جبارة فى حجمها … جبارة فى كذبها … جبارة فى اتساع مساحتها … جبارة فى إزاحة كل ما سواها…
***
لقد انفطر قلبى حين جاءتنى ابنتى تبكى قهرا … ففى اللجنة الثقافية فى كليتها الجامعية كانت تتحاور مع إحدى زميلاتها حول فلسطين … و إذا بتلك الزميلة تصرخ فيها :
إسرائيل منذ وجدت دولة ديموقراطية مسالمة يحيطها العرب الهمج الذين بدءوا جميع الحروب ضدها وعلى ذلك فهم يستحقون جميع ما يحدث لهم … لماذا لا نتركها وحالها …
ونظرت ابنتى إلى بقية الزميلات والزملاء مستنجدة بهم فإذا بمعظمهم على رأى زميلتها …!!
انفطر قلبى وقلت لنفسى ماذا تنتظر من جيل له كتاب ككتابنا وصحف كصحفنا وتليفزيون كتليفزيوننا… ماذا تنتظر من جيل كأن كل أجياله قد عقمت وكل كتابه قد ماتوا وكل وطنييه قد اندثروا فلم يجدوا كتابا للتربية الوطنية يقررونه فى المدارس سوى كتاب للدكتور عبد العظيم رمضان…!!.. وهذا ليس اختيارا مجردا … ولا احتمال علاقة خاصة تربط مسئولا بكاتب … الأمر أبعد و أخطر … ولا ريب عندى أنه متعلق بتلك اللجان الأمريكية التى أشرفت وتشرف على تطوير التعليم فى مصر … ولطالما جال بخاطرى.. أن عمليات التطوير هذه.. ليست إلا الطبعة العصرية لعمليات تطويع العبيد.. لأنها ضد الوطن.. وضد القومية.. وضد الأمة.. وإعلان للحرب على الله..
وانفطر قلبى و أنا أناقش عشرات من المفترض أنهم مثقفون فإذا بهم يفتقدون معلومات أولية…
معلومات أولية لكن التليفزيون لم يعرضها فى فوازيره فى رمضان ولا نشرتها الصحف فى كلماتها المتقاطعة…
معلومات أولية مثل : متى انتهت الحروب الصليبية ولماذا؟..
ومعلومات أولية مثل : أين توجد كوسوفا وما هو تاريخ الإسلام فى البلقان …؟!
وانفطر قلبى و أنا أقرأ فى أكبر صحفنا و أكثرها وقارا من يتبنى بحماس وجهة نظر الصرب … ضد المسلمين …
وانفطر قلبى و أنا أقرأ فى الكتاب الذى عربه عادل المعلم و أصدرته دار الشروق للكاتب الأمريكى نعوم تشومسكى : "ماذا يريد العم سام" ، انفطر قلبى و أنا أقرأ تعقيب المعرب : " …… كذلك كثف الإعلام العالمى التركيز على قضية تيمور الشرقية والمظاهرات بها لتنال حكما ذاتيا ( جزيرة فى شرقى إندونيسيا احتلها البرتغاليون عدة قرون حتى انسحبوا منها فى منتصف السبعينيات فعادت لإندونيسيا. جلبت البرتغال كثيرا من البرتغاليين والأفارقة ليستوطنوا المستعمرة على حساب سكانها الأصليين، وهى وراء الحركات التى تنادى بانفصال الجزيرة عن إندونيسيا أو حصولها على الحكم الذاتى، ويتزعم تلك الحركات قس برتغالى، لم تفته جائزة نوبل، وفى الجزيرة أكبر تمثال فى العالم للعذراء) …" ويواصل عادل المعلم فى ألم ذبيح :" حتى جريدة الأهرام نشرت فى الشهر الماضى خبرا عنها نقلا عن وكالات الأنباء، وذيلته بأن البرتغال استعمرت تيمور الشرقية، وخرجت منها عام 1975 لتحتلها إندونيسيا….!!! وهذا شبيه بأن نقول : إسرائيل احتلت سيناء ثم خرجت منها فى منتصف الثمانينيات لتحتلها مصر ….."…
و انفطر قلبى عندما جمعنى لقاء بمواطن إندونيسى يكره سوهارتو كما كنت أكرهه … لكنه يكشف لى من الأمر ما جهلت … حين يقول فى أسى يائس : لقد كان فاسدا فى البداية والنهاية لكنه لم يعزل بسبب فساده … لم يُعزل بسبب فساده … إنه بالاسم مسلم لكنه عندما جاء إلى الحكم لم يكن يعرف عن الإسلام شيئا … على الإطلاق … لم يكن يعرف مثلا كم صلاة مفروضة فى اليوم بله عدد الركعات فى كل صلاة … وفى إندونيسيا التى يشكل المسلمون 90% من سكانها كان 80 % من الوزراء والقيادات والجيش والشرطة غير مسلمين … ويضيف المواطن الإندونيسى : لم يطرأ أى تغيير على سلوك سوهارتو فى الفترة الأخيرة … لكن معلوماته عن الإسلام قد زادت بسبب علاقات أبنائه التجارية بعدد من أمراء العرب … وقد أدى التنافس الاقتصادى الشرس بين رجال أعمال من حاشية الرئيس وحوارييه – يقودهم أبناء الرئيس وهم بالوراثة مسلمون – وبين طوائف الأقليات الأخرى – من غير المسلمين - التى كانت تستحوذ على 80% من السلطة والثروة … وتصادف أن ذلك كله واكب حركة صحوة دينية كان السبب الرئيسى فيها حملة تبشير هائلة تنبأ المراقبون أنها سوف تنجح فى غضون أعوام قليلة فى تنصير 200 مليون مسلم إندونيسى… لكن الإسلام – ذلك الأسير المهجور العزيز الغالى- سرعان ما انتفض مستخرجا كامن قواه ليقلب كيدهم .. وحدث مثلما حدث فى مصر بعد الهزيمة المروعة فى 67 … حيث شكل الالتزام الدينى السياج الواقى للهوية من الاندثار… وفى صدفة نادرة توافق هوى رجال الأعمال المسلمين مع هوى الشعب الإندونيسى مع توازن يحقق العدل فكانت آخر وزارة شكلها سوهارتو قبل عزله مشكلة من 80% من المسلمين( 90% من السكان) و20% من غير المسلمين( 10% من السكان ) …. وهنا… هنا فقط تحركت المخابرات الأمريكية والمرابون اليهود لإحداث الانهيار الاقتصادى وما ترتب عليه من مظاهرات استغلتها أمريكا لتعزل سوهارتو ليس بسبب فساده بل بسبب تنافس اقتصادى أدى إلى تحقيق قدر من التوازن فى السلطة..
انفطر قلبى وأنا أتساءل : يا إلهى : كم يضللنا إعلامنا … لماذا لم يشرح لنا الأمر على حقيقته … وكيف يمكن لأى واحد منا أن يكون رأيا إذا كانت المعلومات التى تصلنا مزيفة مشوهة ومغشوشة … صكها أعداؤنا … أعدى أعدائنا …
انفطر قلبى … لكننى فهمت بعد ذلك ما أوردته قناة الجزيرة الفضائية وقناة ANN – توقفت من زمن طويل عن متابعة قنواتنا - عن استعداد الحكومة الجديدة فى إندونيسيا للانسحاب من تيمور الشرقية .. وعن بوادر إعادة العلاقات المقطوعة مع البرتغال منذ قيام إندونيسيا باسترداد جزيرة تيمور الشرقية…
إن قضية إندونيسيا كأى قضية أخرى تصلح كنموذج مروع لما يمكن أن تفعله آلة الإعلام الغربى الجبارة فينا … وكيف تدفعنا بالكذب والتضليل إلى ما تشاء من مواقف هى فى الحقيقة ضد مصالحنا تماما … وضد وجودنا …
و انفطر قلبى ألما وعتابا لقناة الجزيرة التى أوقعتنى فى خطأ دفعنى للإحساس بالعار والخجل والجهل، كنت أجلس مع أحد أبناء كوسوفا ( وهى التسمية الإسلامية التى يطلقها أهلها المسلمون عليها ويبلغ عددهم 90% من سكانها)، وأثناء الحوار نطقت باسم البلد كما ينطقه مذيعو قناة الجزيرة: كوسوفو، وهو الاسم الذى يطلقه المحتل الصربى عليها ، واشتعل الرجل بالأسى وهو يقول :
عندما تتجاهل اسمها الحقيقى وتستعمل الاسم الذى يطلقه العدو الغاصب عليها فكأنك اتخذت موقفا مسبقا بالوقوف فى صفهم وليس فى صفنا …
ثم واصل فى مرارة :
هذا يشبه أن تتجاهل اسم "محمد" لتنطقه مخمد( بالخاء) أو مهمت أو موهامات !!!…
وغرقت فى خجل لم يلبث الرجل أن غرق فى خجل مثله … كان يحدثنى عن تقاعس العرب عن نجدة كوسوفا التى استشهد منها حتى الآن ألفا شهيد ، وهو عدد كبير من شعب يتجاوز تعداده المليونين بقليل، فسألته :
- هل تعرف عدد من قتلهم العرب من العراقيين بالاشتراك مع أمريكا فى ضرب وحصار العراق حتى الآن …؟
- لا …
- مليونان …
ونظر الرجل إلىّ مذهولا ، واغرورقت الدموع فى عينيه ، فانفطر قلبى …
ولم أجرؤ على سؤاله إن كان دموعه من أجلنا.. لأنه وجدنا – نحن الذين راوده الأمل أن يستنجد بهم- أحق بالنجدة والغوث..
وانفطر قلبى و أنا أسمع أمجد ميقاتى وهو فلسطينى الجنسية صربى الهوى يحاور الدكتور محمد خليفة فى قناة الجزيرة فيتهم العزل الأبرياء الضحايا فيقول فى ثقة وعنجهية أن الأمور لم تتفجر إلا بعد أن اختطف مسلمو كوسوفا ثمانية ضباط من الجيش الصربى، و أن الجيش الصربى لم يدخل إلى العاصمة إلا بعد حادث الاختطاف… ويرد الدكتور محمد خليفة فى وقار حزين لقدرة الشياطين على كل هذا الكذب قائلا:
- إذا كان الجيش الصربى لم يكن موجودا كما تقول إلا بعد حادث الاختطاف… فكيف تم الاختطاف من جيش غير موجود…؟!!
وانقضت الصاعقة على رأس أمجد ميقاتى لكنها لم تؤثر فيه ، وأغلب الظن أن برأسه جهازا إسرائيليا مانعا للصواعق، لكن الصاعقة أصابت – فيما أصابت قلبى فانفطر…
و انفطر قلبى أيضا و أنا أترقب رد شيخ الأزهر على ندائى وتوسلى له أن يبايعنا على الموت فأمة لا إله إلا الله محمد رسول الله تقهر فإذا به يصدر بيانا بالشجب والإدانة … لا للفجار والجلادين بل لصدام حسين… و إذا به يحمل المسئولية كلها لصدام والعراق ..
وانفطر قلبى إذ انداحت إلى مخيلتى ذكرى ذلك الهندى الفقير الذى عجزت يده عن الدفاع عن عينه .. وساقه الدفاع عن ساقه الأخرى..
وحتى أنت أيها القارئ … ما جدوى عشرات الأرقام الدامية حين أرويها لك دون أن توضع فى سياقها التاريخى… لا لمجرد أن أرتق فى ثقوب الذاكرة لديك ما يقنعك بأن الفقير الهندى ليس أخاك فقط … بل لأبصرك أيضا أن ما حدث له بالأمس وما يحدث له اليوم سيحدث لك غدا… ولكننا لا نستطيع أن نضعها فى سياقها التاريخى دون أن نرمم ونصلح ونصحح ذاكرة تم اغتصابها وانتهاكها …هل يفيدك أيها القارئ لكى تتخذ موقفا أن أذكر لك أن كوسوفا لم تكن أبدا صربية كما تدعى آلة الإعلام الغربية ، الآلة المجرمة التى تسمى أصحاب البلاد الأصليين منذ فجر التاريخ بالإرهابيين .. بل احتلها الصرب لمائتى عام حتى استنجد أهلها بالعثمانيين ودخلوا فى دين الله أفواجا وظلت دولة إسلامية لستمائة عام ، إسلامية لدخول أهلها فى الإسلام حتى قبل ظهور العثمانيين… فهل كان يفيدك – دون أن نرتق سويا ثقوب الذاكرة - أن أقول لك أن تعداد الشعب فى كوسوفا يبلغ مليونان ونصف المليون هاجر منهم نصف مليون ، و أن 90% منهم ألبان و 92% مسلمون.. وأنه قد سقط منهم 2000 شهيد و 5000 مفقود… هل يمكن أن تفهم معنى ذلك دون أن تدرك معنى صرخة الجزار ميلوسيفيتش عام 1989 : الآن انتهت معركة كوسوفا … وهو بذلك يشير إلى معركة كوسوفا عام 1389 … ماذا تعرف عنها أيها القارئ… ماذا يعلم عنها أبناؤنا … بل كبار مثقفينا ؟؟ …
هل يفيدك بعد ذلك أيها القارئ أن تعرف ما حدث للطبيب أحمد ليتسى من ألبان كوسوفا و عضو منظمة أطباء بلا حدود، حين ذهب مع إحدى مجموعاتهم للإشراف على تلقى مواد الإغاثة فى مدينة كاتشانيك ، لم يكن فى الجبهة، لم يكن يقاتل، لكنهم قبضوا عليه، ضربوه ضربا مبرحا لفترات طويلة، سألوه عن اليد التى يعمل بها فأجابهم أنها اليد اليمنى فبتروها، ثم بدءوا باستخراج عينيه وتقطيع جسده أشلاء وهو حى … حتى مات… يحكى الحكاية لمنظمة العفو الدولية الدكتور باول براون : الطبيب البريطانى..
هل يفيدك أن تعرف أيا من ذلك دون أن تعرف لماذا يفعلون ذلك؟ و دون أن تجيب عن السؤال الذى طرحته عليك فى البداية: متى انتهت الحروب الصليبية..
اسأل الجميع ، وسوف تكون الإجابة اليقينية الواثقة : عام 1291 ميلادية …
لكن الإجابة خطأ فاحش …فالحروب الصليبية لم تنقطع يوما واحدا ، و أنهم حين توقفوا عن مهاجمتنا فى 1291 ميلادية لم يتوقفوا لأن الله هداهم ولا لأن الشيطان ابتلعهم بل لأنهم انشغلوا أربعة قرون فى حروب صليبية هائلة مع الدولة العثمانية انتهت بالاحتلال المباشر لمعظم العالم الإسلامى، وهو الاحتلال الذى انتهى بالأصالة ليبدأ بالوكالة وما يزال ..
إنها حرب مستمرة لم تنته بعد …
إن ما يحدث فى كوسوفا هو بعينه ما يحدث فى فلسطين وميلوسيفتش ليس إلا مستنسخا من نتنياهو وباراك و أرناط وريتشارد… لكن آلة الإعلام الجبارة الكاذبة تريدك أيها القارئ أن تنظر إلى قضية كوسوفا كقضية أجنبية، لا تشعر معها أن لحمك أنت هو الذى يُنهش، وأنت لا تملك أيها القارئ حتى ترف أن تتجاهل ما يحدث لكوسوفا ما دمت أنت بعيدا … فكوسوفا التى تُذبح اليوم ليست إلا عضوا فى قطيع سيذبحه الجزار كله …
سوف أحاول إذن أيها القارئ فى المقالات التالية أن أرتق بعض الثقوب … و أن أحكى لك الحكاية كاملة … كى تدرك أى مستقبل مروع ينتظرنا… ما دمنا ننتظر الذبح كالخراف … ننتظر دون فهم أو وعى … ننتظر … وننزف تاريخنا ودنيانا و آخرتنا ومستقبلنا من ثقوب الذاكرة….ينتظرنا… ما دمنا ننتظر الذبح كالخراف … ننتظر دون فهم أو وعى … ننتظر… وننزف تاريخنا ودنيانا و آخرتنا ومستقبلنا من ثقوب الذاكرة