Seif_eldawla@hotmail.com
أتحدث عن المستشار الجليل الراحل/ يحيى الرفاعى، شيخ القضاة ومؤسس تيار الاستقلال، ورئيس نادى القضاة الأسبق، ومُنَظِّر ومُنَظِّم مؤتمر العدالة الاول 1986، والمناضل لسنوات طويلة دفاعا عن، ومحرضا على استقلال القضاء وتحريره من هيمنة السلطة التنفيذية وتحقيق فصل حقيقى للسلطات.
وهى الرسالة التى حملها بعده جيل جديد من القضاة الشرفاء الذين تصدوا لنظام مبارك من خلال ناديهم برئاسة المستشار زكريا عبد العزيز وزملائه، و كانوا رأس حربة فى مواجهته، مما عجل بسقوطه، وذلك قبل ان تحاصرهم الدولة وتنقض عليهم لإنجاح قائمة المستشار الزند فى انتخابات نادى القضاة مرتين : الاولى قبل الثورة فى 13 فبراير 2009 ، والثانية ،ويا للعجب، بعد الثورة فى 24 مارس 2012، وهى لا تزال مستمرة حتى اليوم.
قاد الرفاعى نادى القضاة فى مواجهة قضاة السلطة التابعين للنظام والمدافعين عنه والعاملين على اخضاع السلطة القضائية والقضاة لرئيس الجمهورية ولسلطته التنفيذية ولتعليماته السياسية. انهم ايدى وأزرع النظام الحاكم داخل القضاء لادارته وتوجيهه وتوظيفه للعصف بخصومه. وهو التيار الذى مثله فيما مضى المستشار الراحل/ مقبل شاكر، ويمثله منذ سنوات المستشار احمد الزند وزير العدل الجديد فى حكومة محلب.
***
خاض الرفاعى معاركه فى سبيل هذا الهدف السامى، فى زمن كان لايزال هناك بصيص من عدالة فى ساحات المحاكم. فى زمن شاهدنا فيه احكام براءة للعشرات فى قضايا كبرى كقضية انتفاضة 1977، ومحاكمات متعددة للشيوعيين والاسلاميين، بالإضافة الى عديد من احكام النقض بتزوير الانتخابات البرلمانية فى كثير من الدوائر.
وهو ما يطرح تساؤلا افتراضيا؛ حول مواقفه ومصيره فيما لو كان لا يزال بيننا اليوم، فى ظل غياب العدل والانتهاك اليومى للدستور والقانون والعدالة من قبل السلطة الحاكمة ومؤسساتها الأمنية، وفى ظل الاعتداءات المستمرة على حقوق الناس وحرياتهم؟
ماذا سيكون موقفه من احكام الاعدام بالجملة؟ ومن مئات الاحكام بالحبس والسجن والمؤبد للسياسيين والمعارضين، والحبس الاحتياطى بلا حد زمنى أقصى، وتكليف قضاة بعينهم بقضايا بعينها، ومحاكمات عسكرية للمدنيين، وأحكام قضائية بالحظر والتصنيف بالإرهاب حسب الطلب، وسب وقذف وتشهير اعلامى بخلق الله بلا امل فى اى ملاحقة قانونية أو قضائية، ومذابح للقضاة، وافلات السلطات من جرائم التعذيب والقتل فى اقسام الشرطة أو قنص وقتل وخطف المتظاهرين، وافلات مبارك و برائته هو ورجال نظامه من كل جرائمهم الكبرى، وفصل طلاب وأساتذة الجامعات بلا أحكام قضائية، ومصادرة وتحفظ على الاموال، وتجسس وتصنت غير قانونى على الحياة الشخصية للمواطنين وإذاعة مكالمتهم الهاتفية على الهواء، وحرمان المعتقلين من ابسط حقوقهم القانونية ومن العلاج ووفاتهم فى السجون....الخ
ماذا سيكون موقفه من كل هذا؟
***
ربما نستطيع ان نستخلص الاجابة من اقواله وكتاباته، التى نقتطف بعض منها فيما يلى:
((فى بعض بلاد العالم يصبح القاضى المتمسك باستقلاله كالقابض على الجمر ... فلا يستطيع ان يعلن حكما تستاء منه الحكومة قبل ان يراجع نفسه آلاف المرات ، فليس صحيحا على اطلاقه انه لا سلطان على القضاء الا للقانون وضمائرهم ، فالسلاطين كثير . وفى هذا المناخ لابد ان يشك الناس فى استقلال القرار القضائى سواء من حيث مضمونه او توقيته.))
***
لا حياة مع غياب العدل :
((ان تثبيت ثقة المواطنين فى القضاء والقضاة يعنى تثبيت ثقتهم فى امكانية حصولهم على حقهم فى العدل ورفع الظلم عنهم، سواء تعلق ذلك بحقوقهم العامة او الخاصة، وبفقدان هذه الثقة تتعطل حركة الحياة كلها.. فلن ينشط انسان لزراعة او تجارة او بيع او شراء او اقامة بناء او القيام بأداء، حق او عمل، ما لم يثق فى ان ثمرة جهده ستكون له رضاء او قضاء.
ولن تنشط الحياة الاجتماعية والاقتصادية بين الناس دون قيام نظام قضائى يكون محلا لثقتهم التامة فى قدرته على الزام الكافة باحترام عقودهم وتنفيذ التزاماتهم، وعدم ارتكاب الافعال الضارة بل والتعويض عنها..الخ
اذ كيف يأمن احد على نفسه او عرضه او ماله اذا فقد ثقته فى عدل القضاء وقدرته على حماية هذه الحقوق والالتزامات؟
وهل يمكن ان يسود المجتمع امن وسلام بغير العدل؟
انها حقيقة ترددها الحكومات فى مفاوضاتها مع اسرائيل، لكنها تتجاهلها للأسف فى علاقاتها بشعوبها.. فقد احلت نفسها من شعوبها محل الاستعمار المستبد.. فى حين ان العدل شرط الأمن، مصدقا لقوله سبحانه وتعالى (الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَـئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ) فلا امن مع ظلم))
***
الظلم يؤدى الى العنف وتقويض دعائم الحكم:
((ولا مراء فى ان غياب الثقة العامة فى القضاء والقضاة، لا يؤدى فقط الى عودة العنف وتفشى الظلم والفساد والكساد والتخلف، وانما يؤدى كذلك الى انحلال جميع الروابط الاجتماعية والقيم الاخلاقية وشيوع البلطجة وانهيار القانون وتقويض دعائم الحكم .
صفوة القول انه بغير قضاء كفء ومستقل تماما اداريا وماليا عن السلطتين الأخريين، وموثوق به تبعا لذلك ، تتعرى حقوق المواطنين من الحماية القضائية، ويفسد تكوين السلطة التشريعية، وتتغول السلطة التنفيذية السلطتين الاخريين، وتنعدم حريات المواطنين وحقوقهم العامة الخاصة، ومن باب اولى يكون الحديث عن نزاهة الانتخابات او الاستقرار السياسى او الاصلاح الاقتصادى او الدولة العصرية حديثا للتلهى والتضليل والخداع ومضيعة الوقت.
ومن هنا قام حق الامة فى ان تتعرف بكل دقة على احوال قضائها وقضاتها كما تتعرف على احوال جيشها ورجاله وقدرته على حماية الوطن.
ومن هنا ايضا كان الدفاع عن استقلال القضاء فى كل فقه وفى كل الاعلانات العالمية . لهذا الاستقلال هو واجب الامة بأسرها وواجب كل فرد فيها لانهم يدافعون بذلك عن حرياتهم وشرعهم وسائر حقوقهم وحرماتهم ))
***
لا سند للقاضى فى مواجهة هيمنة الحكام، سوى ثقة الناس:
((اساس استقلال القضاء فى الديمقراطيات الراسخة هو مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن فيما بينها..اما فى دول العالم الثالث- حيث يقوى الحكام على حساب شعوبهم مؤقتا- فلا وجود لهذا التوازن، فما البرلمانات الا مسارح تابعة للحكومات مهمتها سن التشريعات التى تزيد من سيطرة الحكومات على افراد شعوبها ونقاباتهم واحزابهم وجمعياتهم ونواديهم..الخ، فلا يكون هناك سند للقاضى الا ثقة الناس فيه))
***
ويستشهد بالمذكرة الايضاحية لقانون استقلال القضاء رقم 66 لسنة 1943
((من طبيعة القضاء ان يكون مستقلا.. وكل تدخل فى عمله من جانب اى سلطة من السلطتين يخل بميزان العدل ويقوض دعائم الحكم.. وفى قيام القاضى بأداء وظيفته مطمئنا على كرسيه آمنا على مصيره، اكبر ضمانة لحماية الحقوق العامة والخاصة.. أوليس هو الامين على الارواح والأنفس والحريات.. أليس هو الحارس للشرف والعرض والمال.. أوليس من حق الناس ان يطمئنوا الى ان كل ما هو عزيز عليهم يجد من كفالة القضاء امنع حمى واعز ملجأ.. أوليس من حق الضعيف اذا ناله ضيم او حاق به ظلم ان يطمئن الى انه امام القضاء قوى بحقه عزيز بنفسه، مهما كان خصمه قويا بماله او بنفوذه او بسلطانه؟ فمن الحق ان يتساوى امام قدس القضاء اصغر شخص فى المملكة بأكبر حاكم فيها، وان ترعى الجميع عين العدالة))
***
لا استقلال للقضاء مع تبعيته لوزارة العدل والسلطة التنفيذية:
((كيف يقال ان القضاء عندنا مستقل والقضاة مستقلون ، لمجرد النص على ذلك فى الدستور ، فى حين ان كل شئون القضاء والقضاة الادارية والمالية بل الصحية والاجتماعية .. بيد وزير العدل اى بيد السلطة التنفيذية ..
بل ان ادارة التفتيش القضائى التى تحاسب القضاة فنيا وإداريا وتأديبيا وتمسك بزمام ترقياتهم وتنقلاتهم وانتداباتهم واعاراتهم ومكافآتهم بالعمل الاضافى ، هى جزء من مكتب الوزير اى جزء لا يتجزا من السلطة التنفيذية .))
***
مقتطفات من خطاب استقالة المستشار يحيى الرفاعي من نقابة المحامين فى 31/12/2002
((أن حكومات جمهورياتنا المتعاقبة، وإن وضعت فى دساتيرها نصوصا أساسية بمبادئ سيادة القانون واستقلال القضاء وحصانته، وتحظر وتؤثم التدخل فى أية قضية أو أى شأن من شئونهم من جانب أية سلطة أو أى شخص، فإن هذه الحكومات ذاتها لم تتوقف ـ طوال هذه السنين ـ عن النص فى القوانين المنظمة للسلطة القضائية وغيرها على ما يجرد تلك النصوص من مضمونها تماما، بل ويخالفها بنصوص صريحة تصادر بها لحساب السلطة التنفيذية معظم أصول هذا الاستقلال وقواعده وضماناته، كما تسند بها بعض اختصاصات القضاء الطبيعى إلى غيره، وتصدر قرارات وتصرفات واقعية أخرى من خلال وزارة العدل، وهى أحد فروع السلطة التنفيذية، تسيطر بها على إرادة رجال السلطة القضائية وشئونهم بل وأحكامهم القضائية ! ))
لقد ترسخ لدى الناس ((أن الوزارة صارت تهيمن على القضاء والقضاة والقضايا، حتى صارت جميع الأحكام الصادرة فيما يسمى قضايا الرأى العام يتم نقضها دوما وأكثر من مرة، بل وتتعرض لانتقادات رؤساء الدول والحكومات والصحف الأجنبية .. بما نجم عنه تجريد سائر المحاكم والقضاة من الشعور بالاستقلال ومن شل قدرتهم الكاملة على مقاومة الضغوط التى قد تُمارس عليهم، إذ خلقت تلك الظواهر لكل منهم مصلحة ظاهرة فى اتقاء غضب السلطة التنفيذية عليه، ممثلة فى وزارة العدل، وهو ما لا يستطيع معه القاضى إصدار الحكم فى أية قضية من تلك القضايا بغير ميل حتى لو لم يضغط عليه أحد))
((وانسحب ذلك بداهة ومن باب أولى على النيابة العامة للأسباب ذاتها ولإصدارها منشورات إمعانا فى الخروج على الدستور والقانون، ولما تقوم عليه هذه النيابة من جمع بين سلطتى التحقيق والاتهام، مقترن بتبعية إدارية تدريجية ساحقة لإرادة المرؤوسين فيها، فضلا عن احتفالها الشاذ بشكاوى وتقارير الأجهزة الأمنية والرقابة الإدارية، بل وبعض شكاوى الأفراد التى قد يتمكنون من تقديمها لأحد كبار المسئولين وتحقيقها فى يوم تقديمها ذاته، وهو ما انعدمت معه فى نظر الناس قاطبة كافة ضمانات المساواة بين المواطنين أمام القانون والقضاء، وهو ما انتهى إلى ضياع سمعة القضاء المصرى فى نظر العالم أجمع حتى صرنا مضغة فى الأفواه))
((وهو ما أظهر فى نظر الكافة أنه أعدم فاعلية النيابة العامة والمحاكم كضمان لتحقيق العدالة خاصة فى قضايا الحقوق والحريات المتعلقة بخصوم الشخصيات الهامة المسئولة))
***
بعد هذه الجولة القصيرة مع كلمات شيخ القضاة، سيسهل علينا أن نتخيل مصيره فيما لو كان بيننا اليوم؟
أغلب الظن انهم كانوا سيحيلونه الى الصلاحية لو كان فى الخدمة، وربما حاكموه بتهمة اهانة القضاء، ووضعوه على رأس قائمة المتهمين فى قضية اهانة القضاء المنظورة حاليا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق