*العربي الجديد
*كاتب من تونس
على نحو من مسارات التراجيديا الإغريقية، تطوّر المشهد المصري بعد ثورة يناير، ليعيد الوصل بين فكرتي التاريخ والتصوّر الأدبي للفعل الإنساني ومساراته. كانت شخصيّة الرئيس محمد مرسي صورة للبطل التراجيدي في المسرح الإغريقي، كما كان البناء التراجيدي للثورة المصريّة محاكيا للفعل الدرامي وتحوّلاته وتطوّراته، انطلاقا من مستوى العرض، وانتهاء بالنهاية الفاجعة. ولئن حاولنا رصد هذا العمق الأدبي لمرحلة تاريخيّة ملهمة للمؤرّخين والأدباء فإنّنا سننأى قليلاً عن استعارة آليّات التحليل الأدبي، لحوادث الساحة المصريّة وأحداثها، لنبحث في ثنايا السياسة ومدركاتها، لعلّنا ندرك فنونها وشروطها في بلاد العربان.
لم تتفق الثورتان، التونسيّة والمصريّة، مع تعريفات الثورة وبنائها المفهومي في أبعاده التاريخيّة والفلسفيّة والسياسيّة، وظلّت عصيّة على التحديد الاصطلاحي، فهي، أحياناً، انتفاضة شعبيّة، وهي حركة تمرّد شعبي، وهي ثورة عند بعض المتباهين بقدرة الشعوب المستكينة على التغيير الاجتماعي والسياسي، غير أنّ رصد المسارات وأشكال الفعل الثوري يسقط كثيرا من معالم الثورة وأشكالها، ويضعها في منزلة بين المنزلتين: الانتفاضة والثورة .فلقد أقصت هذه الثورات (باستثناء الثورتين، الليبيّة والسوريّة، وهما الأقرب إلى مفهوم الثورة، وهما الأقدر على النجاح) رأس النظام في ابن علي ومبارك، لكنّها أبقت على الأساس العميق لهذه الأنظمة، كالمؤسسة الأمنيّة والعسكريّة والقضاء والإعلام والفاعلين الإداريين والماليين والمنظمات المهنيّة والمدنيّة، وبذلك توهّم الفاعلون الثوريون" أنّهم حققوا فعلا ثوريّا لا تشوبه شائبة، وأخذتهم نشوة الانتصار الزائف إلى البحث عن معالم سلطة ثوريّة، سرعان ما لاحت مظاهر سقوطها وتفكّكها، بعد أن خرج ذلك العمق المخفي لتلك الأنظمة من صدمة "السقوط"، واستعاد مبادرة الفعل السياسي مستعينا بقدراته في التوظيف السياسي لارتباك " الثوّار" وتعثّر مسار الثورة وإخفقاته.
لم تسقط العناصر الأساسيّة لبنية الدولة العميقة، وظلّت قادرة على التأثير، وتحريف المفاهيم الثوريّة، بل إنّها نجحت في تحويل الثورة من فعل بطولي يستحقّ التمجيد إلى فعل مستهجن وملعون. ولذلك، ظهرت حركات في تونس ومصر، لا تتردّد في الكشف عن انتمائها إلى تلك الأنظمة التي توهّم بعضهم سقوطها، وتؤكّد أحقية دورها في البناء السياسي لمرحلة ما بعد الثورة، ففقدت الثورة قدرتها على الدفع الذاتي، أي ذلك الوجدان الثوري الذي حرّك المظاهرات والثورة التي تفقد وجدانها الثوري حتماً ستؤول إلى الموت.
لم تتمكّن الثورة في تونس ومصر من بناء أساس فكريّ، يحدّد ملامحها وتصوراتها ورؤاها لمرحلة ما بعد الثورة، بل إنّها ظلّت منشدّة في رسم مساراتها إلى أفعال عفويّة وارتجاليّة، تبدع شعارها وسلوكها الثوري من صميم المقام والسياق (اعتصام القصبة 1 و2)، ولم تتمكّن الثورات من "صناعة" الرمز الذي له القدرة على الدفع بها إلى تخوم ثوريّة، تتفق مع ذلك الطموح الشعبي، ويحرسها من شراسة الدولة العميقة. كانت الثورات يتيمة، تتدافعها رياح سموم، وتلقي بها في مهاوي الانتهازيّة والارتجاليّة، فتحوّلت إلى كابوس يخيف عموم الشعب الذي لم يكن شريكا فعليّا في الثورتين.
لم يكن الوقت كافيا لبناء فكر ثوري، وفلسفة ثوريّة لها حاضنة شعبيّة تمكنها من صناعة "الرمز" والفكر والشعار والشعب القادر على حراسة الثورة، وحمايتها واختط "الثوّار" مسارات تناست بديهيّات الثورة، وسارعت في الانتقال من مستوى الثورة إلى مستوى الدولة التي لم تكن محلّ اتفاق بين الفرقاء والشركاء فيها. ولذلك، انجذبت الثورة إلى تجاذبات الفكر والسياسة، وصارت "سلعة غالية " في ميادين المتاجرة السياسيّة وفنون الاحتكار والاتجار، وأضحت معالم ضياعها جليّة ظاهرة.
أفرزت الانتخابات التي اختارها " الثوّار" مساراً مناسبا لتحقيق أهداف الثورة، فوز الأحزاب المنتسبة فكريّا إلى ما يسمّى الإسلام السياسي. وبذلك، أكّدت مستوى الحضور الشعبي لهذه الحركات والتيّارات، وكان الاختيار الشعبي مدفوعاً، في كثير من مواطنه، بحالة التعاطف والتضامن الوجداني الذي تعلّق بذلك القمع الذي عاناه المنتسبون للحركات الإسلامية، على امتداد سنين الجمر والقهر. ولكنّ هذا الاختيار حرّك الآلة الخفيّة الفاعلة في بنية الدولة العميقة، وألهمها ضرورة العمل، لأنّ المعركة مع الإسلاميين بالأساس معركة وجود، فكيف يرضى من ربّي على كره الإسلاميين يرضى بهم حكّاما وسادة، فالعقيدة العسكريّة والأمنيّة، في أغلب البلاد العربيّة، تقوم على محاربة هؤلاء الناس، باعتبارهم نظيراً للأعداء.
لم يكن الإسلاميون، شركاء في الوطن، بل كانوا معزولين وممنوعين من الإدارة والعسكر والأمن والوظائف العموميّة والمنظمات المدنيّة. كانوا جزءا من الشعب، تختبر فيه السلطة قدرتها على القمع والقتل. كانوا التهمة التي يتجنبها المسالمون من بسطاء الشعب و"العيّاشة" والمسايرين للحيطان في بلاد العرب، والمكتفين بالسعي وراء "الخبزة " من دون سؤال أو مقال. ومن هذا الإرث الدامي من الصراع بين السلطة والفكرة الإسلامية، وجد الإسلاميون أنفسهم، بعد رياح الثورة، في مقام السلطة، وفي سياق سياسي واقتصادي واجتماعي، تحرّكة الآلة اللعينة للدولة العميقة. كانوا عنصرا نشازا ومقيتا، يترصّده الكلّ الذي تربّى على قتاله وعدائه. في هذا الإطار، كان التناقض بيّنا بين حكم الإسلاميين ومؤسسات الدولة في حدّ ذاتها، وتمكّن الفاعلون في الدولة العميقة من إعادة تحريف الشعار الثوري، ليتحوّل إلى مطالب يوميّة، تؤمن بقدرة الجوعى على الثورة. ولذلك، ارتفعت الأسعار، وزاد الاحتكار، وضيّق على الناس في أرزاقهم، وتحرّك الناس مدفوعين بإعلام مازال يحتفظ بولائه لأصحاب النعم من أصحاب المال والسياسة. تمكنوا من تحويل الصراع السياسي المشروع إلى صراع اجتماعي، مقنّع بأقنعة المطالب الثوريّة، فكانت موجات الاعتصامات والإضرابات، واشتدّت مظاهر العداء الإيديولوجي للإسلاميين، وتحالف الكل للقضاء على فكرة المشروع الإسلامي، باعتباره بديلا ممكنا للحكم في فضاء الحريّة.
أسقط العسكر الرئيس المنتخب محمد مرسي، وحاول أن يخفي انقلابه بشعارات استقاها من مسارات الثورة، واستفاد من القدرة على التجييش والتزييف، وأخرج الانقلاب على نحو من الصناعة الهوليوديّة لأفلام الإثارة، وحضر الإعلام باعتباره شريكاً في الانقلاب، واهتزّت أساسيّات الثورة، وتحوّل المشهد المصري إلى ما يشبه المشهد المسرحي الذي تتعاضد فيه كل مدارس المسرح على اختلافها.
سقطت كل الأقنعة التي حاول من خلالها الغرب والنظام العالمي الجديد إخفاء عدائه للمشروع الإسلامي، وكان شريكا في المؤامرة. ولكن، تناسى الكل من العسكر والغرب المرعوبين من إمكانيّة عدوى الثورات، فحاولوا وأدها في المهد، وفي أرضها تناسى كل هؤلاء أنّ الفكرة روح سارية في أعماق الوجود لن يقتلها الرصاص، ولن تحاصرها السجون والمعتقلات. وسيذكر التاريخ مرسي بطلا شجاعا، وان كان غريبا في قومه غربة الأنبياء والعلماء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق