مصر العربية
إنها فقط نكأت الجراح، ولم تأت فعلًا استثنائيًا، فلا تستعذبوا لحظات الفوران العابرة، وانظروا لقبح الواقع، ممهورًا بالسؤال المر : لماذا يتكاثر نسل "محجوب عبد الدايم "في بلاط صاحبة الجلالة ؟
إنها فقط نكأت الجراح، ولم تأت فعلًا استثنائيًا، فلا تستعذبوا لحظات الفوران العابرة، وانظروا لقبح الواقع، ممهورًا بالسؤال المر : لماذا يتكاثر نسل "محجوب عبد الدايم "في بلاط صاحبة الجلالة ؟
(1)
يسألونك: كيف يمكن لـ"زميلة"أن تفعل بزميل مهنتها هكذا بمنتهى السهولة ؟..قل : انظروا إلى المقربين داخل المؤسسات الصحفية.
في مارس من العام 2013، كان الأستاذ حازم هاشم أحد كبار كتّاب "الوفد"جالسًا في مكتبه، يحتسي قهوة الصباح، ويتأهب لإشعال سيجارته، وكنت في طريقي لإمضاء ورقة من رئيس التحرير، لحظة مروري ناداني الأستاذ : تعالى يا عبدالوهاب..إجلس"، - يميل الرجل إلى تحدث العربية الفصحى- ، جلست، وبينما هو ينفث دخانه في المكان، استطرد قائلًا : يا عبدالوهاب، الموهوب هنا يعاقبُ على موهبته !"، آلمتني العبارة، وسألته كيف يا أستاذ؟!.. الموهوب يكافأ، فقال أنا لا أقصد هنا في الجريدة، أحدثك عن المهنة بشكل عام، فابتسمت، وانصرفت، بعد وصلة دردشة لبضع دقائق، بعدها، اكتملت لديّ الصورة البائسة للمعاناة في هذا الوسط، أن تكون صحفيًا وفقط.. تلك هي الجريمة"!
-خرج الزميل أحمد رمضان من محنته، أما المخبرة التي تستند إلى سُلّم الوشاية في الصعود على أكتاف المطحونين في الأرض، عرقًا وإبداعًا، لم تخرج من الوسط، بل سيروّج الفتّايون بعد هدوء عاصفة "النبل الإنساني"، لضرورة التحقيق معها، ومنحها فرصة الدفاع عن نفسها، ثم بعد تتابع الأيام، ستمر الواقعة كأنّ شيئًا لم يكن، الأزمة ليست في "أماني الأخرس"، إنما في تفاوت الرؤى داخل المؤسسات الصحفية، تلك التي تقرّب من تشاء، وتبعد من تشاء، على معياري "الهوى، والمزاج"، وليذهب أهل الكفاءة إلى الجحيم.
ليست وحدها، بل إن بعضهم يفتتح يومه، بإرسال تقارير عن "تدوينات"زملائه على "فيسبوك"، ممهورة بـ"البرينتات"، حتى تصير قاعدة "المهنة" :الموهوب ينكسر..!
(2)
"قرنان فى الرأس يراهما الجاهل عاراً، وأراهما حلية نفيسة، قرنان فى الرأس لايؤذيان، سأكون أي شىء، ولكن لن أكون أحمق أبداً، أحمق من يرفض وظيفة غضباً لما يسمونه الكرامة، أحمق من يقتل نفسه فى سبيل ما يسمونه وطناً، وليكن لى أسوة حسنة فى الإخشيدى، وذلك لا ريب ظفر بوظيفته لأنه خائن، ورقي لأنه قواد، فإلى الأمام".. محجوب عبد الدايم في "القاهرة 30"
عايشت، وعايش غيري من زملاء المهنة، نسخًا بشرية قادمة من قراها، إلى القاهرة محملة بهذه القاعدة الراسخة، تسحق من يقف حائلًا بينها وبين الوصول لغايتها، حدث ذلك في بداية الرحلة عشرات المرات، وبطرق مختلفة، لا قيمة لجهد صحفي، القيمة لـ"القرنين"، وكلما زاد طولهما، يزيد القرب، ولم يزل في ذاكرتي مشهد طرد إحدى الزميلات، بعد نقل أحد القادمين الجدد تفاصيل جلسة مسائية لـ"رئيس قسمه "تطرقت بشكل عابر لـ"سياسته داخل القسم".
إشكالية هذا الصنف من- "الصحفيين المخبرين"- أن ثمة مباهاة تحدث بشكل تلقائي، بعضهم يجهر بها، حتى يضع من هم تحت التمرين في كثير من المؤسسات بين خيارين، إما جحيم المبادئ الإنسانية، أو "نعيم"القرب المشروط بـ"قَرنيْ"محجوب عبدالدايم، ولا حرج مطلقًا في الإطاحة بـ"زميل"، أو كما فعلت بنت "الأخرس".
(3)
وأضاف الجلاد، أنه كان رئيسًا لتحرير صحيفتي "المصري اليوم والوطن"، وكان يعرف من هم الصحفيين الأمنجية عنده، ولكنه كان يتركهم في العمل، لأنه إذا أقالهم سيتم تجنيد صحفي آخر.. مجدي الجلاد في برنامج "هنا العاصمة "معلقًا على واقعة "أماني الأخرس".
قال هذا، متبوعًا بعبارة: "ده اعتراف، ويطلع أي حد في مصر يقول مفيش"!، بؤس الاعتراف هذا يكمن في التعامل مع الأمر كأنه واقع مفروض، لايمكن تبديله، ويزداد البؤس حين يطمئن يقين الجماعة الصحفية، أن سحق الأجيال تباعًا تحت وطأة "الأمنجية"، شيء اعتيادي، حيث يصير أصحاب المباديء استثناءً في مهنة بالأصل يُفترض أنها تدافع عن القيم والمباديء.
ليس هناك ما يدعو للانتشاء بعد خروج أحمد رمضان من محبسه، وليس انتصارًا منع "أماني الأخرس"من دخول نقابة الصحفيين، إلا إذا اكتملت المبادرة بآلية جادة لتطهير المؤسسات من هذا الصنف، أو على الأقل تيسير المظلة النقابية للجادين المميزين الشرفاء.
(4)
إن أجيالًا كاملة بهذه المهنة تزيد انحطاطها، ولا ترى في واقعة الوشاية بـ"زميل"سوى هامش على متن وشاياتهم الدنيئة ليس للأمن وفقط، وإنما لرؤساء تحرير الصحف، وإداراتها، فكيف ننتظر إمكانية استئصال هذا "الورم"من جسد "الصحافة"المنهك، دون رغبة حقيقية معلنة ؟
قبيل نهاية فبراير 2011، ظهرت أوراق مسربة على صورة قوائم معنونة بـ"عملاء أمن الدولة بالصحف"، وقتها التقيت الأستاذ الراحل عادل القاضي- رئيس تحرير بوابة الوفد-، وسألته: ما حقيقة هذه الأسماء، وكيف يمكنهم الاستمرار في العمل وسط زملائهم؟، فقال مبتسمًا: "حافظ على نفسك، والتزم ضميرك"، رحل الرجل، ولم يزل هؤلاء قابعين في أماكنهم، دون أدنى شعور بتأنيب ضمير، يبدو أن أزمتنا الحقيقية في أن جيل لايريد سوى الحياة بـ"شرف"، وآخر يسعى للقضاء على معاني الشرف.
بحسب إحدى شهادات الزملاء عن واقعة "أحمد رمضان"، سأله الضابط : إنت سبت اليوم السابع ليه يا أحمد؟، فرد الزميل: عادي سبتها ورحت جريدة "التحرير"، يبدو السؤال استدلالًا مؤذيًا على بشاعة المستقبل، كيف يمكن الاطمئنان على مسيرة مهنية إزاء أسئلة كهذه؟!، وهل تعبر صحف بعينها عن "توجهات سياسية مرضية"، أما غيرها فيبدو قابعًا تحت طائلة "وشايات"سلالة محجوب عبدالدايم ؟..كل شيء يشير إلى الأجيال التي تقف منتظرة على عتبات "صاحبة الجلالة"، بأنّ هذا الحلم الجميل الذي راودنا من قبل، ولم يزل يراودهم، محض كابوس مخيف، لا شفاء منه، ولا دواء له.
(5)
خارج سرب الشجب الذي يخفت في يوم أو بعض يوم، تدفع الأزمة دفعًا ناحية وجود دور حيوي لـ"نقابة الصحفيين"، إذا كان القلق فعلًا دب في قلوب قادتها جراء "وشايات المخبرين في المؤسسات الصحفية"، حسنًا فعلت النقابة حين منعت هذه الكائنة من دخول المبنى، لكن ثمة إجراءات لازمة لحماية الصحفيين من تغوّل المؤسسات، إذ لا معنى لجرعة إفاقة بجسد يأكله "سرطان مزمن".
نكأت "الأمنجية"جرحًا غائرًا، لم تستحدثه من العدم، فعالجوه بترًا أحيانًا، وزجرًا حتى حين، وشقوا طريقًا وسطًا بين "نشوة الهتاف"، ومعضلة الاستخفاف.